إشراقة

       كم يُؤَثِّر صالح تقي نقي فيمن يجلس إليه، كان الشيخ أبو الحسن علي الندوي رحمه الله (1333-1420هـ = 1914-1999م) مثالاً حيًّا شاخصًا لذلك؛ فقد أَثَّرَ في مُجَالِسِيه ومُصَاحِبِيه بحيث غَيَّرَ داخلَهم وأصلح باطنَهم وتركهم ينطبعون بأخلاقه وعاداته. تعلّم كثيرٌ منهم – ممن صاحبوه في إخلاص ونيّة صادقة أن يتعلموا منه الدين – الزهدَ في السمعة وفي جمع المال وفي الحرص على المادة، والثقةَ بالله، والإيمان بقضاء الله وكونه عدلاً، والانقطاع إلى ما يتيسّر من خدمة الدين والانهماك في الدراسة والكتابة دون التفات إلى ما تتحلّب له الأفواه وتتلمّظ له الشفاه من حطام الدنيا الذي يترامى عليه عامّة الناس؛ بل وكثير ممن يُصَنَّفُون «مُثَقَّفِين» و«علماء» بل «صلحاء».

       لقد كان المال ينثال عليه، وهو لا يُعِيره التفاتةً، وإذا أصَرَّ عليه، تَرَحَّمَ عليه وأنفقه في وجوه الخير، ولم يَدَّخِره ليُثْرِي به، ولم يدلّ أيُّ سلوك في حياته أن له رغبةً في المال والثراء؛ بل دلّ دلالة مُؤَكَّدَة متّصلة على زهده البالغ فيه ونبذه له واجتنابه اتخاذَ أيّ مورد له.

       كان مأكله وملبسه ومسكنه بسيطاً يشفّ عن أنّ صاحبه ليس لديه اهتمام به، وإنما يتلبّس به، ليقضي به حاجته اللازمة إليه التي لا يستغني عنها إنسان. وكانت حياته كلها بسيطة بساطةَ المتواضع الصادق، المنكر الواقعي للذات، البريء من المعايب والنقائص التي يتلطّخ بها من لا تتزكى نفسُه وإنما تفسد وتَتَدَسَّىٰ.

       كانت حياته طبيعية لاتَأَنُّق فيها ولا تكلّف، ولا يتقيّد فيها بالتزامات مُصْطَنَعَة يتأذّى منها هو أو غيره من الأهل والأقارب والضيوف والمصاحبين. كان كلُّ همّه إصلاحُ نفسه وإصلاح غيره، والدعوةُ إلى الله بالقلم واللسان اللذين كانا – بإذن الله – طوع أمره ورهن إشارته، كان يعنّ لجميع الناس أنه لهذين الأمرين خُلِقَ؛ ففيهما عاش وبهما عاش ومن أجلهما سَخَّرَ مؤهلاته العلمية والدعوية والتربوية والإصلاحية التي أتيحت له موفورةً منقادةً سَلِسًا قِيَادُها.

       أضفى الله العليم الحكيم مسحةً عجيبةً من المحبوبية لا تقبل الوصفَ على كل من شخصيته، وكتاباته وخطاباته، وحركاته وسكناته، وجميع تصرفاته في الحياة، فمن صاحبه عن إخلاص أحبّه حبًّا صادقًا، وكلما طالت صحبتُه له قَوِيَ وتكثف وتماسك حبُّه له؛ ومن استمع لخطاباته وقرأ كتاباته، وجدها أحلى من العسل، ولذيذة لذاذة فريدة يشعر بها ولا يقدر على وصفها؛ ومن حاكى تصرفاته انصبغ بها وتبنّاها عن عفوية ودونما إرادة؛ لأنه وجد نفسه مدفوعة إليها.

ما رأيتُ في حياتي أحدًا يوافق قولُه فعلَه مثلَ موافقة قوله لفعله؛ ولا رأيتُ أحدًا يكون قلبُه مرآة ينعكس فيها جميعُ أعماله التي جَرَحَتْها جوارحُه. كان قلبُه شفّافًا لم يُكَدِّر صفحتَه أيٌّ من أكدار الحياة: الحسد، والبغض، والطمع، والنميمة، والشماتة، والأنانية، والأثرة، وحبّ الجاه والسمعة، وتمني الأماني، والإخلاد إلى الدنيا، والإعجاب بالنفس، والتنعّم الزائد، وما إلى ذلك مما يساعد على تكدّر مرآة القلب.

       ما وجدتُه غضوبًا، ولا صخّابًا، ولا مِكْثَارًا، ولا ثأريًّا، ولا عجولاً، ولا متشددًا، ولا متطرفًا، ولا زاجرًا، ولا ضجورًا، ولا مُزْعِجًا، ولا مقاطعًا، ولا مُسْتَجْوِبًا، ولا معاديًا، ولا مرائيًا، ولا فخورًا، ولا قنوطاً، ولا مُدَاهِنًا، ولا متظاهرًا بما عنده أو بما ليس عنده، ولا متعاليًا، ولا مؤاخذًا ولا معاقبًا.

       وجدتُه هادئًا رزينًا وقورًا، مصالحًا، محبًّا للخير لكل أحد، زاهدًا كل الزهد فيما لا يعنيه أو لا يعني أحدًا، جوادًا كريمًا، يكاد صدره لايسع قلبَه، كبير النفس، لا يعبث بالأسرار، ولا يتلاعب بالأفكار، حليمًا في أسلوبه العام وفي كتاباته وخطاباته، فكان يتحمله حتى الأعداءُ، كان يحب في الإنسان إيجابياته ولا يكرهه من أجل سلبياته حتى تغلب – سلبياته – إيجابياته.

       لا أقول: إنه كان خاليًا من كل عيب ونقيصة، فقد كان إنسانًا، وهو مُرَكَّب من الخطإ والنسيان، ومُعَرَّض لحيل الشيطان؛ ولكنه كان أفضل مِن كل مَن رأته عيناي، ومشت إليه قدماي، وجلستُ إليه طويلاً وصحبتُه كثيرًا، وتشربتُ تربيتَه حسبما حالفني التوفيق الإلهيّ.

       كان يَحْضُرُ بانتظام دورات رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة؛ ولكنه كان لا يُكلِّفها أكثرَ من مُؤْنَة التضييف والإسكان وتذاكر الطائـرة؛ فكان لا يقبل الإكراميّة التي كانت الرابطة تُقَدِّمها إلى أعضائها المشاركين في دوراتها. ذات مرة أرسلت إليه شيكاً بمبلغ الإكرامية بالبريد الجوي المضمون على عنوان بيته بـ«تكية كلان» الملاصقة لـمدينة «رائي بريلي» بالهند، واستلم البريد، وفتح الظرف المكتوب عليه «رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة» فإذا فيه شيك بمبلغ كذا وخطاب بتوقيع الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، يقول فيه: هذه المرة أردنا أن نقدم الإكراميّة بصورة شيكٍ على عنوان بيتكم عسى أن تقبلوها هذه المرة وإن لم تقبلوها في المرات القادمة عندما قُدِّمَت إليكم مباشرةً خلال وجودكم ضيفًا على الرابطة بمكة المكرمة.

       ورأيتُه يقلب الشيك، ويقرأ الخطاب، وتستعبر عيناه، ويحمرّ وجهه، ويتقطّب جبينه، وتهتزّ شفتاه، ويلفّ كيانَه الحرجُ الذي يلفّ الْحَيِيَّ. وبعد دقائق عندما أفاق وتمالك نفسَه قال لكاتب السطور: اقرأ هذا الخطاب بتعمق، واكتب الردّ عليه بالعربية في ضوء ما أقوله لك بالأرديّة؛ لأني لا أقدر على أن أملي بنفسي عليك النصَّ الكاملَ للردّ بالعربية؛ فقد انهارت نفسي عندما قرأتُ الخطابَ وطيّه هذا الشيك الذي بدا لي كأنه يكاد يلدغني لدغة أشدّ من لدغة الأرقم، واكتب فيه: أنكم تعلمون أني قد منعتُ القسمَ المعنيَّ في الرابطة عن تقديم هذه الإكرامية إليّ للأبد، وقلتُ له أن يضع تجاه اسمي المُسَجَّل لديه علامةً حمراء، وجرت عادته أن يمتنع عن تقديمه لأي مبلغ إليّ نقدًا أو بصـورة شيك؛ فهل أراد معاليكم أن يختبر مدى صبري هذه المرة. والله إنّ الموقف آذاني وأحرجني جدًّا، فأرجو أن لا تعودوا لمحاولتكم لاختباري مستقبلاً.

       وذاتَ مرة قدّم إليه أميرُ منطقة مكة المكرمة مبلغًا كبيرًا متأثرًا من خطاب ألقاه في البارحة هزّ فيه العرب وأثار غيرتهم الإسلامية ونخوتهم العربية وعَيَّرَهم بالخنوع لغيرهم من أبالسة الشرق والغرب. فقال له: إني ليس بي حاجة إليه، ولا آتي إلى ههنا أو بلد من البلاد العربية لأجمع المال وأقتني الثروة، وإنما آتي إلى العرب لأتقاسم معهم الثروة الإيمانية التي كان قد تلقاها آباؤهم من النبي – صلى الله عليه وسلم – مباشرة، وأُذَكِّرهم بالدرس الإيماني القرآني المحمدي الإسلامي الذي كادوا ينسونه في عالم المادة والمعدة والشهوات المعاصر. ولو قبلتُ منهم المال عُدْتُ لا أتأهل لأُذَكِّرهم بهذا الدرس الأغلى الأسمى. وقد أصرّ عليه الأمير وتأدّب معه كثيرًا، وأعمل كلَّ أسلوب ليَمْرِيَه لتقبّل هذه الهدية ولو لهذه المرة فقط؛ ولكنه عاد أصلب عودًا من ذي قبل، ولم يقبله، واعتذر إليه قائلاً: لن أقبل من سموكم هذه الهدية وأقبل سواها جميع الهدايا من الإكرام والاحترام والتقدير والتضييف.

       إنّه كان لا يحب أن يحتال رفاقُه في السفر لجمع التبرعات من المحسنين وفاعلي الخير لدارالعلوم ندوة العلماء التي كان أمينها العامّ كابرًا عن كابر، فكانوا يصنعون ما يريدونه بشكل لا يعلم به. وفي بعض المرات كان ينكشف له ذلك، فكان يتناولهم بزجر وملام رادع لهم ولغيرهم من الحاذين حذوَهم. كان يقول لهم مادمتم رفاقي في السفر لا تُقْدِمُنَّ على هذا الصنيع؛ لأن الناس سيقولون ويُشِيعُون أن أبا الحسن يَقْدَم إلى البلاد العربية الغنية؛ ليملأ جيبَه، ويُحْسِن حالَه، ويرفع مستواه المعيشي، ومستوى أهله وأقاربه ورجاله الاقتصادي.

       إنّ الذين صاحبوا أبا الحسن عن إخلاص صادق انصاغوا في قالب كثير من أخلاقه وعاداته وشمائله وسلوكه في الحياة، بما فيها زهده المثالي في المال والثروة، وفي الاحتيال لجمعهما، في تلبس بسحنة الصالحين وزيّهم، الأمر الذي يسيء إلى الصالحين جميعًا حتى المخلصين الصادقين مثل أبي الحسن ومن سبقه من سلفه العظام. وقد يكون هناك من يشذّ عما أقوله، فيكون قد صاحب أبا الحسن عن غير إخلاص وعن غير تجريد للنيّة لتزكية النفس وصنع الذات وصقل الصفات، فلم ينصهر في بوتقة صفاته العظيمة وشمائله الكريمة؛ لأنه يكون قد صاحبه لغرض عَلَّقَ تحقيقه عليه أو على من يتصلون به بوشائج القرابة أو الحب والإعجاب، فكان له ذلك؛ ولكن لم يكن له أن يتربّى في حضنه التربوي ويتشرّب روحه الإيمانية وسيرته الإنسانية.

       جزى الله أبا الحسن وكَثَّرَ أمثالَه وأدخله جنة الفردوس وجعلنا نسير سيرته؛ فقد جعلني أحبّ الانقطاع إلى أشغال الدراسة والكتابة والتأليف، فعدتُ قد عَمِيَ عليّ الاحتيالُ لجمع حطام الدنيا وتنعيم الحياة واستيفاء الوسائل المادية، وعَمِيَتْ عليّ سبلُ التفنن لفرض الذات وتلميع الشخصية وتسخير الناس لتحقيق الأغراض الماديّة، وكسبهم لكسب الدنيا لا لكسب الدين، أعاذنا الله جميعًا من شرور أنفسنا ومن سيّآت أعمالنا، وجعلنا من عباده الصالحين الغُرِّ المُحَجَّلِين الوفد المُتَقَبّلِين الذين يدخل الملائكة عليهم من كل باب قائلين: «سَلٰمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (الرعد/24).

       لو كان أبو الحسن مجرد داعية، أو مجرد عالم كبير، أو مجرد كاتب إسلامي كبير باللغتين العربية والأردية، أو مجرد أديب فيهما، أو مجرد خطيب مصقع، لما كسب تلك المحبوبية العامة والشعبية الساحقة التي حظي بها؛ لأنه أحبه الله وبسط محبوبيته فيما عند الناس؛ لأنه زهد في الدنيا فأحبه الله، وزهد فيما عند الناس فأحبه الناس، حسبما ورد في الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة: عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – قال: جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله دُلَّنِي على عمل إذا عَمِلْتُه أحبني الله وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس».

       إن كثيرًا من الناس يحلمون ويَتَمنَّوْن أن يكسبوا المحبوبية التي أكرم الله بها أبا الحسن فيما بين الناس، ويظنون أن مصدرها كان براعته في اللغتين العربية والأردية، أو يظنون أن مصدرها كان إكثاره من الكتابة والخطابة في الموضوعات التي نفعت الأمة والشعب، أو يظنون أن مرجعها كان إلى مساهمته الفعالة في الدعوة إلى الله وإصلاح الناس وتربية قاصديه لتلقي التربية الدينية. وقلّ من يُحَلِّل محبوبيته تحليلاً صحيحًا ويتأكد أن محبوبيته كانت أصلاً نابعة من زهده في الدنيا وزهده فيما عند الناس إلى جانب ما كان يتصف به مما يُشَكِّل من إنسان إنسانًا مطلوبًا عند الله ومنشودًا عند الناس.

       مُعْظَمُ الناس يظنون أنهم سيكونون مثلَ أبي الحسن في الجاه والمكانة المرموقة إذا أَتْقَنُوا العربية والأردية، مُعْتَقِدِين أن ذلك هو الذي جعله شامًّا بين العلماء والمفكرين في شبه القارة الهندية خصوصًا وفي العالم كله عمومًا، فمالوا إلى كسب الإتقان فيه، فكسبوا بعضَ الشيء من إجادته، ولكنهم لم ينالوا شيئًا مما نال أبو الحسن؛ لأنهم لم يهتمّوا بجانب الدين، والإنابة إلى الله، وصوغ أنفسهم في قالب سيرة الصالحين، حتى لم يهتموا بالظاهر، فضلاً عن الباطن الذي إصلاحُه أَصْعَبُ من إصلاح الظاهر، فتركوا السراويلَ تتخطّى كعوبَهم، وأَعْفَوْا الشوارب وقَصُّوا اللحى أو حلقوها على شاكلة الكفار والفجار، ولم يواظبوا على الصلوات الخمس فضلاً عن صلاة التهجد التي واظب عليها أبو الحسن في السفر والحضر مواظبتَه على الصلوات المفروضة، بجانب ما تعامل به من آداب الشريعة بحيث جعل كل سلوكه في الحياة عبادةً تجعل صاحبَها يستحقّ الأجرَ من الله والشكرَ من الناس والدعاءَ من الخلق.

       الطامحون المتنافسون الحالمون بكسب المكانة واعتلاء الجاه الكبير دائمًا ينظرون إلى القشور والظاهر، ولا ينظرون إلى اللبّ والباطن وينخدعون بمظاهر الكبار ويحاكونهم فيها فقط ليكونوا «كبارًا» مثلهم، ولا يدركون أن عظمتهم ترجع أصلاً إلى الصلاح والتدين والتزكي وصوغ النفس في قالب السيرة النبوية إلى جانب المؤهلات العلمية التي وَظَّفُوها لخدمة الدين والدعوة والعقيدة والأمة في احتساب الأجر من الله دون أي من الناس.

       لن يدرك أبا الحسن من لايسير سيرتَه، ولا يتأدب بآدابه، ولا يحاكيه في اطّراحه على عتبة الرحمن، وإنما يحاكيه في بعض الأعمال الكتابية والخطابية والدعوية، ولا يحسن المحاكاة، وإنما يسيئها، فيأخذ ببعض الجوانب ويترك أكثرها، ويهتم بالقشور ويزهد في الجذور.

(تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم الخميس: 17/رجب 1436هـ = 7/مايو 2015م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

***

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1436 هـ = أغسطس – سبتمبر 2015م ، العدد : 11 ، السنة : 39

Related Posts