إلى رحمة الله

بقلم: رئيس التحرير

nooralamamini@gmail.com

انتقل إلى رحمة الله تعالى الخادم الخاصّ للشيخ أبي الحسن علي الندوي رحمه الله (1333-1420هـ = 1914-1999م) الحاج عبد الرزاق الرائي بريلوي النصير آبادي، في 78 من عمره يوم الخميس 4/رمضان 1435هـ = 3/يوليو 2014م، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

       وقد صَلَّىٰ عليه بالناس إثر صلاة الجمعة 5/رمضان = 4/يوليو فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي بقرية الشيخ الندوي «تكية كلان» ودفن بها في الجانب الغربي من المسجد علي شاطى نهر «سئي» بجوار زميله الشيخ نثار أحمد السيواني الندوي. وحضرالصلاة عليه وتورية جثمانه زحام كبير من العلماء وطلاب العلم والصلحاء وذوي قرباه والمحبين له إلى جانب ذوي قربى الشيخ الندوي – رحمه الله – وأعضاء أسرته خصيصًا.

       وقد عكف الفقيد على خدمة الشيخ النّدوي طَوَالَ 40 عامًا. وانقطع – رحمه الله – إلى خدمته في عنفوان شبابه، وبعد وفاة الشيخ الندوي ظلّ خادمًا وفيًّا نحو 15 سنة لخلفه وابن أخته العالم الصالح فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي – حفظه الله – الأمين العامّ لندوة العلماء بلكهنؤ، ولم يفارق الأسرةَ الحسنيةَ بقـرية «تكية كلان» الملاصقة لمدينة «رائي بريلي» بولاية «يوبي» مادامت قواه الجسمية تساعده على القيام بالخدمة والتعامل مع مسؤوليّاتها. وعندما لم يعد قادرًا على أداء الخدمة انتقل إلى قريته «نصيرآباد» بمديرية «رائي بريلي» ولكنه ظلّ يتردّد من وقت لآخر بين قريته وبين «تكية كلان» قرية الشيخ الندوي – رحمه الله – للحبّ العميق الصافي الذي تمكّن في قلبه نحو أسرة الشيخ الندوي وذوي قرباه وبيته ودار ضيافته التي ظلّ يديرها عن أهليّة طَوَالَ هذه الفترة الزمنية الطويلة.

       كان الحاج عبد الرزاق – رحمه الله – من سُكّان قرية «خوشحالبور» التابعة للقرية الجامعة المعروفة بـ«نصيرآباد» بمديرية «رائي بريلي» بولاية «أترابراديش» بالهند. وكان يسكنها فرعٌ من الأسرة الحسنيّة الشريفة التي كان جدُّها الأعلى القاضي السيد محمود بن العلاء الحسني الذي استوطنها قاضيًا بها في القرن العاشر الهجري من قبل الدولة الإسلاميّة المغوليّة، وظلّت الأسرةُ دائمًا محتفظة بالدين والثقافة الدينية والحضارة الإسلاميّة والعادات والتقاليد والخصائص الحسنيّة والأسوة النبويّة؛ فظلّت القرية وما جاورها من المناطق تحبها من أعماق القلوب وتفرش لها العيون لصلاحها وتقواها ونسبها الزكي السامي. وقد ظلّت تُنْجِب علماء وصلحاء يُشَكِّلُون منارةَ نور ومشكاةَ هداية وإرشاد للمسلمين، ودرج فيها في العهد الأخير المصلح والمربي الكبير الشيخ السيد محمد أمين النصير آبادي ومن قبله الشيخ السيد أحمد النصير آبادي اللذان كانا مهوى أفئدة قلوب المسلمين في القرية والقرى المجاورة والمناطق القاصية والدانية، وكان لهما دور كبير في محاربة البدع والخرافات والتقاليد الجاهلية الوثنية.

       وكان لأسرة الفقيد الحاج عبد الرزاق النصيبُ الأوفرُ من سعادة الحبّ والإعجاب بالشيخين وبأسرتهما الحسنيّة. وهذا الحبّ السعيد هو الذي ساقه – الحاج عبد الرزاق – إلى الانقطاع إلى خدمة سماحة الشيخ السيد أبي الحسن الحسني الندوي – رحمه الله – على إشارة من شيوخ الأسرة؛ حيث لم يتجاوز عمره 18-19 عامًا عندما تعلّق – رحمه الله – بذيل الشيخ الندويّ. وغنيٌّ عن القول: إن صحبته الملازمة المتصلة الطويلة منذ هذا الوقت المُبَكِّر من حياته قد صاغته في قالب الصلاح والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة – وهما أجلى وأبرز ما كان يُمَيِّزَ الشيخَ الندويَّ من علماء وصلحاء الأمة الإسلامية المعاصرين في العالم كله – وجعلته يتشرّب ويتذوّق العبادةَ والتلاوة والذكرَ، ويواظب على صلاة الليل، ويحافظ على السنن والآداب النبويّة، ويدرك معنى الخشوع والخضوع في الذكر والعبادة، وبالجملة: يَلَذّ الاِطِّرَحَ على عتبة الرحمن؛ وصقلت ما فُطِرَ عليه من الخصائل الإنسانية النبيلة: التواضع، والابتسامة في وجه المسلم، وطلاقة الوجه لدى لقائه، والرفق في كل المواقف، ورحمة الصغير وتوقير الكبير، والتعامل مع كل إنسان بما يليق به، واحترام محاسن كل امرئ، والتغاضي الكامل المستمر عن مساويه، علمًا بأنها ما لايخلو منه إنسان مهما سما وعلا.

       صَحِبَ كاتبُ هذه السطور الشيخَ الندويَّ – رحمه الله رحمة واسعة – على مدى نحو عشر سنوات وأمضى مُعْظَمَها معه في قريته وفي بيته ودار ضيافته، وكانت أسعد وأنبل أيام حياته على الإطلاق، شاهد خلالها الشيخَ الندويَّ في جلواته وخلواته، ولاَحَظَ ليله ونهاره، وكثيرًا ما حاول أن يحاكيه في سهره في الليل ليشاهد مواقف مناجاته مع ربّه وتضرّعه وإنابته وبكائه بكاء الرضيع في مهد أمه، وشاهد نهاره الحافل بالأشغال الكتابية والتأليفية والدراسيّة وباستقبال زحام الضيوف ومحادثتهم ومجالستهم ومؤاكلتهم وبتربية المتعلقين به الملازمين لصحبته لتعلّم آداب العبادة وتذوّق الإنابة إلى الله وتزكية نفوسهم من الأقذار الخلقية.

       وكان الفقيد الحاج عبد الرزاق يلازمه في ذلك كلّه ملازمةَ الظلّ، يساعده ويكون ساعده الأيمن في جميع شؤون الحياة، يُقَدِّم له وجبات دوائية في مواعيدها المُحَدَّدَة، فكان نائب الأطباء الذين يتلقى منهم العلاج لأمراض عديدة اصطلحت عليه لطعنه في السنّ أو لضعفه الجسماني الطبيعي أو لتوارثه لبعض الأمراض. وكان لا يعرف أدويته مع مواعيدها معرفتَه – الحاج عبد الرزاق – أقربُ أقربائه، فصار حاجتَه التي لم يكن له أن يستغني عنها بحال.

       وكان يرفع إليه عُكّازه لدى قيامه، ويبسط منشفته المخصصة في مهده لدى جلوسه إلى المائدة مع ضيوفه وقاية لملابسه من التلوّث من مائعات الأطعمة، وكانت مائدتُه لاتخلو قطّ من الضيوف من أخلاط الناس، ففيهم الأمي والقروي، وفيهم المُثَقَّف والمدني، وفيهم العلماء وأساتذة الجامعات العصرية، وفيهم مدرسو المدارس الدينية، وفيهم الفقراء والأغنياء، وفيهم الأطباء والمهندسون، وفيهم الزعماء والتجار ورجال الشارع

       وكان يُسَدِّد حذائيه لدى توجّهه للمسجد للصلوات الخمس حتى يضع فيهما قدميه بسهولة، ويخلعهما من رجليه لدى بوابة المسجد، وكان يُقَدِّم إليه قدرًا مُخَصَّصًا من الماء الذي كان يتناوله باردًا جدًّا حتى في فصل الشتاء القارصة برودتُه، وكان يَتْبَعه في الذهاب والإياب بين دار الضيافة والمسجد. وكان الشيخ يُمْضِي مُعْظَم أوقات ليله ونهاره فيها، ولا يتوجه إلى البيت الذي كان ملاصقا لها إلاّ للنوم ليلاً في الفترة ما بين ما بعد تناول العَشَاء بعد صلاة العِشَاء لوقت التهجد في الهزيع الأخير من الليل، فكان يخرج عنده من البيت وينادي على اسم الحاج عبد الرزّاق واقفًا ببوابته بقوله: عبد الرزاق! رافعًا صوتَه قليلاً حتى لا ينزعج الضيوف في دارالضيافة ولا آخرون من الناس من ذوي قرباه في بيوتهم الملاصقة.

       وما إن كان النداء يقع في أذني الحاج عبد الرزاق حتى كان يُهْرَع إليه ويصاحبه إلى المَضْيَفَة، وبالذات إلى الغرفة التي كان يستخدمها خِصِّيصًا للعبادة وللتأليف والكتابة، وكانت مُزَوَّدَة بدورة مياه، وكان الحاج عبد الرزاق يُهَيِّئ له إبريقَ الماء ليتوضأ، ويُسَخِّن الماء إذا كان الفصل شتاءً.

       وما إن كان يُسْفِر الصبح الصادق حتى كان الفقيد يُغِذّ الخُطَىٰ إلى المسجد فيرفع الأذان لصلاة الفجر هو أو زميله الشيخ نثار أحمد – رحمه الله (نحو 1345-1428هـ = 1927-2007م)- الذي كان مُسْتَمْلِيَ الشيخ الندوي الذي كان يُمْلِي عليه ما كان يريد أن يمليه من المقالات أو الكتب أو الرسائل أو الخطابات وعامّة الكتابات – ثم كان يعود أدراجَه إلى المَضْيَفَة ليصاحبه إلى المسجد، كما كان يصاحبه إليها بعد الانتهاء من الصلاة. وإثر صلاة الفجر كان الشيخ الندوي يأخذ في الأغلب بعضَ حظّه من النوم ليستدرك ما فاته منه لإحيائه الجزءَ الأخيرَ من الليل في صلاة التهجد والدعاء والمناجاة. أمّا الفقيد فكان ينصرف إلى اتخاذ ترتيبات أوليّة للفطور الذي كان يجلس إلى مائدته بعد الفجر بساعة أو ساعة ونصف الشيخ الندوي مع ضيوفه والمتوافدين عليه للتشرف بالسلام عليه وزيارته من مدينة «رائي بريلي» – التي كانت من قريته على مسافة نصف كلومتر تقريبًا –.

       وعلى مائدة الفطور كان يُمَهِّدُ الفقيد المكانَ الذي يجلس فيه الشيخُ، ويضع أمامه بعضَ ما كان يشتهيه من حبّات الزيتون وزيته أو البيضة المغليّة أو شبه المقليّة إذا كان أيٌّ من ذلك متوفرًا على المائدة. وكان الشيخُ يأمر مسبقًا بنوع من الاهتمام بموادّ الفطور إذا كان بين الضيوف أيٌّ من العلماء ذوي المكانة الدينية أو السمعة الاجتماعية أو المثقفين بالثقافة العصرية ذوي الوجاهة أو المنصب المُحْتَرَم، فكان الفقيد يُوَجِّه البلاغَ بذلك إلى داخل بيت الشيخ حيث كانت السيدات يُحَضِّرْن موادّ الفطور. وذلك عن طريق بعض الأطفال أو قريب من أقرباء الشيخ.

       وقبل وبعد الفطور كان الفقيد يُقَدِّم إلى الشيخ الأدوية المُخَصَّصَة لهذا الميعاد، وكان يساعده على غسل يديه بعد الفطور والغداء والعَشاء. وبعد تناول الفطور وتوديع من كانوا يودّون العودةَ من الضيوف، كان الشيخُ الندوي يشتغل بالدراسة والكتابة، للساعة الثانية عشرة أو الساعة الواحدة ظهرًا، وكان لا يُخِلّ بوظيفته هذه مهما كانت الظروف والفصول.

       وما إن كان الشيخ ينصرف إلى وظيفته هذه المُحَبَّبَة حتى كان الفقيد يتوجّه بالدراجة العاديّة إلى المدينة ليشتري حوائج بيت الندوي من اللحوم والخضراوات والموادّ الغذائية المتنوعة الأخرى بما فيها أنواع التوابل والرزّ والدقيق والعدس وما إلى ذلك إذا كانت هناك حاجة إلى توفير كلها أو بعضها. وربما كانت الحاجة تدفعه إلى توفير أدوية للشيخ الندوي أو لعضو من أعضاء أسرته.

       وتقفز بهذه المناسبة إلى ذاكرتي ذكرىً لذيذة عزيزة ترجع إلى مستهلّ الأيام التي أشار فيها عليّ الشيخُ الندوي أن أقيم عنده وأعيش بصحبته أستفيد منه وأساعده بعضَ الشيء على الكتابة والتأليف. وكنتُ قد نزلتُ عليه ضيفًا قادمًا من دهلي ومن الجامعة الأمينيّة الكائنة بها بالذات، عن طريق لكهنؤ. وكنتُ قد اشتريت بمحطّتها – لكهنؤ – إثر نزولي من القطار تذكرة العودة بعد ثلاثة أيام حسبما كان قد أوصاني أستاذي الكبير المحدث الفقيه المؤرخ المؤلف الشيخ السيّد محمد ميان الديوبندي ثم الدهلوي – رحمه الله تعالى – (1321-1395هـ = 1903-1975م).

       وما إن مضى يومان أو ثلاثة أيام على إقامتي لدى الشيخ – رحمه الله تعالى – حتى أسند إليّ أن أُبَيِّض مُسَوَّدَةَ تأليف والده «تهذيب الأخلاق» – وهو مجموعة أحاديث مختارة في التربية وتهذيب الأخلاق – وكانت المُسَوَّدَة بالخطّ الفارسيّ – المُتَّبَع في كتابة اللغة الأرديّة – وكانت غُفْلاً من أي من رموز الإملاء من الفواصل والفواصل المنقوطة والنقاط والخطّين والقوسين وما إلى ذلك. وقد كَلَّفَني – رحمه الله – أن أُبَيِّضه بخطّ النسخ العربي الذي شاهده في إحدى كتاباتي المتمثلة في طلب للالتحاق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الْتُمِسَ منه – رحمه الله – أن يكتب عليه توصيته الخاصّة حتى يعود جديرًا بالقبول لدى إدارتها.

       وقال لي – رحمه الله – أن أُوَفِّر لذلك كلَّ ما أحتاج إليه من الورق الجيّد الممتاز والمسطر والقلم والمرسام، وأن أَصْحَبَ لذلك الفقيد الحاجّ عبد الرزاق إلى المدينة. فصَحِبْتُه ذات صباح في مثل هذا الوقت في أحد أيام مارس 1972م وأخذني الفقيد – بعد ما انتهى من شراء حوائج البيت اليوميّة – إلى جميع محلاّت الورق، حتى توصّلتُ في محلّ إلى النوع الممتاز من الورق وهو “Sunlight” الذي كنتُ أحبّه كثيرًا؛ لأنه كان يساعد على أن يأتي الخطّ أجود ما يكون. أما أدوات الكتابة فكانت لديّ ذات نوعيّة ممتازة كنتُ قد اشتريتُها من أحد محلاّتها بـ«أردو بازار» لدى المسجد الجامع الملكي المغولي الكبير بدهلي، فلم أحتج إلى شراء أيّ شيء منها.

       وبعدما مضى شهرٌ أو نحوه على إقامتي لدى الشيخ – رحمه الله – أحاطه الفقيد – رحمه الله – علمًا أن الشيخ نور عالم يتناول أجود أنواع الشأي الهندي، وله طريقتُه الخاصة في إعداده، ويهتمّ به وبأدواته وظروفه كثيرًا. فقال – رحمه الله – لقد أذنبتُ عندما كلّفتُه أن يظلّ يتناول لحد اليوم شأينا العادي الذي يُعَدّ لجميع حضور مائدة الفطور من الضيوف وغيرهم. فأشار – رحمه الله – على الفقيد أن يستصحبني مرة أخرى إلى سوق المدينة حتى أشترى النوع المُفَضَّل لديّ من الشأي المتوفر بهذه المدينة التي هي متواضعة جدًّا بالنسبة إلى دهلي التي كان أعيش بها. فصَحِبْتُه ذات صباح بعد مضيّ ميعاد الفطور إلى المدينة واشتريتُ شأي «ليبتون غرين لِاَبل» (Lipton Green Label) وشأي «التاج محل». ونَظَّمَ لي الشيخ – رحمه الله – لكل يوم حليبًا خالصًا من الشوائب، كما وَفَّر لي الفقيدُ الحاج عبد الرزاق أواني لازمة لإعداد الشأي. وكان من وقت لآخر يبدي الشيخ – رحمه الله – رغبتَه في تناول هذا الشأي، وذلك تشجيعًا لي على إشباع رغبتي حتى لا أشعر بأي حاجز نفسي أو تردّد في إعداده لنفسي.

       وكان من دأب الفقيد أنه كان يعود بالجوائج اليوميّة بالدراجة العاديّة، خلالَ ساعتين أو ثلاث ساعات أو نحوها، ويدفعها إلى داخل بيت الشيخ، ثم كان يشتغل بالقيام بشؤون المَضْيَفَة وحاجات أخرى تمسّ البيتَ أو الشيخَ أو أيًّا من الضيوف، حتى يتمّ رفع أذان الظهر، فيُجَهِّز الوَضُوء لوُضُوء الشيخ، ويُقَدِّم إليه المِنْشَفَة، ثم عَكَّازه، ويبادر إلى تسويد حذائيه بالباب الرئيس للمَضْيَفَة، الذي كان يخرج منه للمسجد، فيصحبه إليه في الأغلب أو يصحبه أحد من أتباعه إذا غاب الفقيد لحاجة مُلِحَّة. وبعد انتهاء الصلاة يصحبه إلى المَضْيَفَة، فيمدّ المائدةَ للغداء في الغرفة المُخَصَّصَة لذلك في الناحية الشرقيّة من المَضْيَفَة، وكان يتلقّى الأطعمة من داخل بوابة البيت، التي كانت تضعها عليها سيدات مَعْنِيَّات بإعدادها، فيتناولها الشيخ مع الزُوَّار والضيوف، وكان الفقيد في الأغلب لا يتناول الغَدَاء أو العَشَاء أو الفطور مع الجماعة؛ لأنّه كان يظلّ مشغولاً بتقديم الأكلات ومياه الشرب والشأي وضرورات المائدة إلى الشيخ والضيوف، فكان يتناول نصيبَه من الوجبات الثلاث بعد ما كانوا يفرغون منها.

       وكان من العادة المُتَّبَعَة لدى الشيخ الندوي – رحمه الله – أنه بعد تناول الغَدَاء إثر صلاة الظهر كان يقيل لقُبَيْل صلاة العصر؛ ولكن الفقيد قلّما كان يستريح؛ بل يظلّ مهتمًّا بشتى الشؤون التي تهم الشيخ – رحمه الله – ولاسيّما في أيّام الصيف ذي السموم اللافحة، التي كان فيها يقوم برشّ أعراش القَشِّ – الذي يُعْرَف بالأردية بـ«خَسّ» – والمُعَلَّقَةَ على نوافذ الغرفة التي كان يقيل فيها الشيخ حتى تُلَطِّف وتُطَيِّب جوّها الداخليّ بالهواء المارّ من خلالها إلى الغرفة، وكانت تكون الشمس محرقة شديدةً جدًّا في مثل هذا الوقت من الظهيرة. وربّما كان يستغلّ كاتبُ السطور الفرصةَ فيستسمح الفقيدَ بأن يُتِيْح له أن يسعد برشّها مكانَه، فكان يسمح له بذلك عن رضا قلبه لأنه كان قد عُجِنَتْ طينتُه بالسماحة، وكان – كاتب السطور – عندئذ شابًّا يَافِعًا يتمتع برغبة جامحة في العمل والتحرك ويَلَذُّه.

       وإثر صلاة العصر كان يجلس الشيخ مع الضيوف والزوّار في رواق المَضْيَفَة، وكان يقرأ الشخ نثار أحمد الندوي السيواني صفحات من كتاب مختار في ترجمة صالح ومُرَبٍّ أو في مواعظ دينية أو أحاديث مجلسية لأحد من الصلحاء المُرَبِّين، فيستمع له الشيخ والحضور. أمّا الفقيد الحاجّ عبد الرزاق فكان يدور بأكواب الشأي عليهم. وكان يستمرّ المجلس إلى قبيل وقت المغرب.

       أمّا بعد صلاة المغرب فكان يجلس الشيخ في القاعـة التي كانت تتـوسّط المَضْيَفَـة، ويُكَلِّف أحـدًا من طلبـة العلم أو الشيخ نثـار أحمد السيواني الندوي أن يقرأ عليه كتابًا باللغة العربيّة أو باللغة الأرديّة كان يودّ الشيخ أن يستفيد منـه معلومات لمقـال أو كتاب هـو بصدد تأليفـه، وكان ضعيـف البصـر جــدًّا فكان لايقـدر على القـراءة من كتاب بنفسـه؛ ومن ثم كان لا يكتب أي مقال أو خطاب أو كتاب بيمينه، وإنما كان يُمْلِيه على الشيخ نثار أحمد الندوي السيواني أو على أحد من طلاب العلم أوالعلماء كان يَأْنَس به و يرى أنه يكتب سريعًا بصحة الإملاء ورموزه، وقد سَعِدَ كاتب السطور أنه قد أملى عليه كتابَه «السيرة النبوية» بالعربية كاملاً ورسائل ومؤلفات أخرى له، كما سَعِدَ بتبييض عدد من كتبه.

       أما الفقيد فكان يشتغل في مثل هذا الوقت – فيما قبل دخول الكهرباء قريةَ الشيخ – بإيقاد مصابيح الغاز التي كان يضعها في أكثر من مكان في المَضْيَفَة، كما يضع أكبرها أمام الشيخ – رحمه الله – وكان يُعْنَىٰ بأمور أخرى يحتاج إليها المضيفة أو كان يجلس في ناحية من مجلس الدراسة هذا في صمت وهدوء ينتظر توجيهات الشيخ في شأن من الشؤون التي تخصّه أو تخصّ البيت أو دارالضيافة، أو يُقَدِّم إليه من الأدوية ما هو مُخَصَّص لمثل هذا الوقت.

       وإثر صلاة العِشاء كان الفقيد يمدّ سُفْرَة العَشَاء، فيتناوله الشيخ مع الضيوف، وبعد الانتهاء منه كان يجلس قليلاً معهم ويدور في المجلس حديث حول الدين أو الأحداث والقضايا الحاضرة ولاسيّما التي تمسّ الإسلام والمسلمين في العالم، وخلال ذلك ينتهي الفقيد من تناوله العَشَاء مع من بقي من المقيمين بدارالضيافة إذا كان الضيوف كثيرين لم تسعهم المائدة في المرة الأولى ومع من يقوم – من طلبة العلم وأساتذة دارالعلوم ندوة العلماء بلكناؤ المتوافدين لزيارة الشيخ من وقت لآخر – على إطعام الضيوف والقيام بخدمات لا بدّ منها للضيوف خلال تناولهم الطعام.

       ثم كان الشيخ يتوجّه لبيته ليأخذ حظَّه من النوم، وربّما نام على سريره في غرفته في المضيفة، بعد ما يكون قد فرغ من تناول وجبته من الأدوية التي كان يتناولها في مثل هذا الوقت أو يلقيها الفقيد في عينيه حسب توجيه الأطبّاء المَعْنِيِّين.

       وبعد ذلك كان يتفقّد الفقيد ضرورات الضيوف ويطوف عليهم، ويقوم بكل ما يحتاجون إليه من الخدمة، ثم كان يأخذ حظّه من النوم، لكي يصحو منه في وقت مبكر لدى نداء الشيخ على اسمه في السحر خارجًا من بيته واقفًا ببوابته، فيساعده على صلاة التهجد وصلاة الفجر.

       وعندما كان يُظِلّ شهر رمضان كان الفقيد يتخذ استعدادات مُكَثَّفَة له منذ شعبان فيستكمل جميعَ الحاجات للمتوافدين إلى الشيخ – رحمه الله – للاعتكاف معه في مسجده أو لقضاء كامل شهر رمضان أو بعضه معه؛ حتى لا يتأذّى أحد منهم من أي خلل في الحوائج اللازمة. وأذكر أنّه ذات مرة اجتاحت فيضانات هائلة في شهر رمضان قرية الشيخ وغمرت مياهُ السيل الطريقَ والزقاقَ والساحةَ التي بين المضيفة وبين المسجد، فاتّخذ الفقيد جسرًا من القصب متينًا بين المضيفة – التي كانت قاعدتُه مرتفعة لثلاث أقدام تقريبًا – وبين المكان المُخَصَّص لتناول الطعام، الذي أعدّه على أنقاض الدار التي كان يسكنها – كما قيل لي – الشيخ الكبير والمجاهد الجليل السيّد أحمد بن عرفان الشهيد رحمه الله (1201-1246هـ = 1786-1831م) وبين هذا المكان وبين المسجد الذي كانت قاعدته مرتفعة كذلك لحدّ قدمين وأكثر، فَسَهَّلَ ذلك على الضيوف قضاءَ رمضان مع الشيخ – رحمه الله – وكلُّهم كانوا ألسنةَ ثناء عليه وإعجاب بإتقانه لشتى الأعمال والخدمات التي يقتضيها الوقت.

       سَعِدَ الفقيد بخدمة الشيخ الندوي – رحمه الله – طَوَال أربعين سنة في حبّ وإعجاب بالغين؛ فعبّ منه الصلاح والتقوى بمعنى الكلمة، وتَخَرَّجَ إنسانًا يحبّه اللهُ ويحبّه خلقُه، فلم أَرَه يَبْغَضه أحد ممّن جلس معه أو عايشه أو احتكّ به لحاجة من الضيوف والزوّار الذين كانوا يقصدون الشيخ أو أحد من أقربائه – الشيخ – الذين كانوا يعدّونه حقًّا عضوًا في الأسرة الحسنيّة الشريفة، والذين كانوا يشاورونه ويستعينون به على قضاء كثير من شؤون بيوتهم.

       ورغم أنّه لم يكن مُثَقَّفًا ثقافةً كبيرةً؛ حيث لم يُلِمَّ إلاّ بقراءة القرآن الكريم واللغة الأردية التي كانت تساعده على قراءة الكتب الدينية المتوفرة بها؛ ولكنّه كان إنسانًا كبيرًا في خُلُقه؛ حيث ما ضُبِطَ عليه قط أنه اغتاب أحدًا، أو شكاه إلى الشيخ، أو حسد عليه أيًّا من نعمه، أو سَخِرَ من أحد، أو احتقره، أو خذل أحدًا وقتَ الحاجة إلى أي نوع من المساعدة، أو حال دونه ودون أن يعرض على الشيخ أيًّا من حاجته، أو يتزلّف إليه بأيّ من حيلته، ولم يحدث أنه طلب إليه أحد أن يستسمحه – الشيخَ – فرصةً ليختلي به ويتحدّث إليه في شؤونه الخاصّة فرفض طلبه، وإنّما لَبَّاه دائمًا ببشر وطلاقة وجه وأسلوب يُبَشِّره بالخير، ولم يُضْبَطْ عليه أنه تخاصم مع أحد أو تشاجر معه، أو تعامل معه بما يسوؤه ويؤذيه ولو قليلاً.

       إن الضيوف كانوا – طبعًا – أنواعًا لا تُحْصَىٰ كأنواع الإنسان، وكان الشيخ لسمعته المطبقة في الدين والعلم، يتوافد إليه الناس من جميع شرائح المجتمع؛ ولكن أحدًا منهم لم يَشْكُ قطّ أن الفقيد تعامل معه بما لا يليق بما يتمتع به من مكانة في المجتمع أو بما يجرح آدميّته أو يمسّ شخصيته.

       ربما يحدث أن المُوَكَّلِين بخدمة الكبار في الدين والعلم قد يعودون يُتْقِنون المكر والدهاء أو يصيرون مصابين بمركب الشعور بالاستعلاء أو مركب الشح والحرص على المال، فيستغلّون مكانتهم – الكبار – لتحقيق مآربهم الماديّة؛ ولكن الفقيد كان حقًّا زاهدًا في الدنيا ولم يستغلّ الشيخَ في جمع المال والثروة على حين إن إشارة من الشيخ على أيّ من الأثرياء ذوي السبق إلى فعل الخير والبذل من أجل رضا الله وإصلاح آخرته، كانت تكفي لأن يتجمع لديه ما يفوق تصوّره. وقد استغلّه فعلاً كثير من الناس وأقاموا منظمات ومؤسسات وجمعوا ثروة طائلة بالتظاهر بالانتماء إليه في حياته أو بعد مماته – رحمه الله.

       الجانب الإنساني كان أسمى الصفات التي كانت تزدان بها شخصية الفقيد، والتي صقلتها صحبةُ الشيخ، فنحتت منها إنسانًا أحبّه الخلق وأحبّه الله تعالى؛ لأنه هو الذي يضع المحبوبية لأحد في السماء ثم في الأرض بعد ما يحبّه هو وملائكته.

       وإلى جانب سعادته بصحبة الشيخ وخدمته الطويلة، سعد عن طريقه بصحبة أو زيارة كثير من العلماء الصلحاء المعروفين في الديار الهندية وعلى رأسهم الشيخ عبد القادر الرائي بوري – رحمه الله – (نحو 1290-1382هـ = 1873-1962م) الذي عليه تخرج الشيخ الندوي في التزكية والإحسان؛ والشيخ المحدث العلاّمة محمد زكريّا الكاندهلوي – رحمه الله – (1315-1402هـ = 1897-1982م)؛ وأمير جماعة الدعوة والتبليغ الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي – رحمه الله – (1335-1384هـ = 1917-1965م) مؤلف كتاب حياة الصحابة باللغة العربية؛ وأمير جماعة الدعوة والتبليغ من بعده الشيخ إنعام الحسن الكاندهلوي – رحمه الله – (1337-1416هـ = 1918-1995م)؛ والمربي الشيخ محمد أحمد البرتابكدهي – رحمه الله – (1317-1412هـ = 1899-1991م)؛ والداعيــة الكاتب الإسلامي الشيخ محمد منظور النعماني – رحمه الله – (1323-1417هـ = 1905-1997م) مؤسس مجلـة «الفرقان» الأردية الشهريــة الشهــيرة التي لاتــزال تصدر، والتي هي أكبر المجلات الدينية في شبه القارة الهندية؛ والشيخ صديق أحمد البَانْدَوِيّ – رحمه الله – (1341-1418هـ = 1923-1997م)؛ والشيخ أبرار الحق الهردوئي – رحمه الله – (1339-1426هـ = 1920-2005م).

       وزار بصحبة الشيخ كثيرًا من أقطار شبه القارة الهندية كما زار بعض البلاد خارج الهند، وعلى رأسها بلادُ الحرمين الشريفين، وقد أكرمه الله بصحبته بالسعادة الكبرى المتمثلة في دخول الكعبة الشريفة عام 1998م والصلاة والدعاء داخلها عندما أكرم الله الشيخَ بإتاحة فرصة فتح قفلها بالمفتاح الخاصّ الذي رفعه إليه سادنها.

       كما سعد بدخولها والصلاة فيها من بعد وفاة الشيخ بصحبة ابني اخته: الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الأمين العام لندوة العلماء بلكناؤ والشيخ محمد واضح رشيد الندوي الأستاذ بدارالعلوم ندوة العلماء، وكانت أرضيّتُها التي يعود تاريخا إلى عهد عبد الله بن الزبير – رضي الله عنه – مفتوحة لإعادة البناء والترميم، كما سَعِدَ بأداء الحجّ وزيارة المسجد النبوي أكثر من مرة.

       ومن حسنات الفقيد الجديرة بالذكر أنه اهتم بنشر التعليم الديني في منطقته ولاسيّما فيما بين بنات المسلمين في القرى الذين يشكون قلة الوسائل والإمكانات، فأسس بقريته «خوشحالبور» التابعة لـ«نصير آباد» مدرسة مخصصة لتعليم البنات. كما اجتهد لإعادة بناء مسجد القرية الذي صار باليًا. ومن حين لآخر كان يدعو الشيخ الندوي لزيارة قريته مع أعضاء أسرته، فينزلون ضيوفًا عليه في بيته فيعكف على إكرامهم والاحتفاء بهم ويسعد بذلك جدًّا كأنّه نال ثروة لا تعدلها ثروة في هذه الدنيا.

       وقد خلّف الفقيد – رحمه الله – من بعده إلى زوجته، ثلاث بنات وأربعة بنين، وهم الأستاذ شبير أحمد الندوي، والحافظ عمر، والأستاذ عمار الندوي، والأستاذ سعد الندوي.

       أدخل الله تعالى الفقيد فسيح جنّاته وجمع بينه وبين شيخه في جنة الفردوس، كما جمع بينهما في الدنيا، وألهم الصبر والسلوان أهله وذويه وجميع ذوي قرباه بمن فيهم أبناؤه وبناته وزوجته وأخوه الأكبر الأستاذ رسول أحمد حفظهم الله جميعًا مع الصحة والعافية وسعة الرزق.

(تحريرًا في الساعة 12 من ظهيرة يوم الأحد 26/ذوالقعدة 1435هـ الموافق 22/سبتمبر 2014م).

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1436 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2014م ، العدد : 1-2 ، السنة : 39

Related Posts