الفكرالإسلامي
بقلم: الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوي (*)
لماذا غلب الجمود وعدم الابتكار على الحركة الفكرية والعلمية في بلاد العرب ابتداءً من القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي- امتدادًا إلى القرن الثامن عشر؟.
لا شك أن زلزالاً مدمراً عصف بالحضارة العربية نتيجة ضربتين قاصمتين تلقتهما في قلبها.
أولها سقوط بغداد وتدمير مكتبتها العظيمة التي كانت أعظم مكتبة في تاريخ البشرية وذلك على يد «هولاكو» في القرن الثالث عشر الميلادي (1258) الذي أمر برمي مخطوطات المكتبة في نهر «دجلة» لتتحول مياهه إلى اللون الأزرق لمدة أشهر طويلة من لون الحبر الذي خطت به هذه المخطوطات، التي كانت تضم إلى جانب آلاف المخطوطات العربية المجمعة ترجمات كل نصوص الحضارة اليونانية القديمة التي كان الخلفاء يدفعون للمترجمين وزنها ذهباً.
*الضربة الثانية كانت سقوط «غرناطة» آخر معاقل العرب في الأندلس في سنة(1492).
لقد فزع العرب – أيما فزع – في فترة تدمير بغداد، وسقوط آخر معاقل العرب في الأندلس (غرناطة) وما كان فزعهم إلا انطلاقاً من استشعار الخطر الداهم الذي استهدف تراثهم وفكرهم الذي يمثل هويتهم حين دمرت المراكز الثقافية في عاصمة الخلاف العباسية ، وأحرقت الكتب والمكتبات مما بدا مؤشراً خطيراً لتدمير ما أفرزه العقل العربي وأنتجته القرائح العربية (مع استدراك ضروري هنا حول تحديد صفة العروبة بعروبة الثقافة والفكر واللغة والنشأة ، وليست مجرد عروبة المولد).
من المعلوم لدى الجميع أن تفرق المسلمين في الأندلس إلى دول طوائف أضعفهم، وأن العديد من حكام هذه الدول الصغيرة بدؤوا يستعينون بـ«الأسبان» ضد الحكام الآخرين من المسلمين، وهكذا بدأت القصة الأليمة لأفول شمس الإسلام من سماء الأندلس. وبينما كان المسلمون غارقين في خضم الفرقة والشتات، خطا «الأسبان» خطوة مهمة في مضمار الوحدة عندما تزوّج «فرديناند» ملك أراغون من «إيزابيلا» ملكة قشتالة، وأصبح الهم الوحيد للأسبان القضاء على آخر دولة إسلامية في الأندلس وهي: دولة بني الأحمر في غرناطة والتي كان يحكمها آنذاك أبو عبد الله محمد وامتدت مدة حكمه عشر سنوات (1482 – 1492م).
ومن المعروف تاريخيًا أنه لم يرحل بدينهم جميع الأندلسيين عن بلادهم لا قبيل سقوطها بيد النصارى ولا بعده – وإن كان الأندلسيون المتأخرون قد عدوا رحيل البعض أو طرد الآخرين من الأندلس ممن ثبتوا على دينهم نعمة وليس نقمة – فلقد بقيت مجموعات منهم بجهات مختلفة من اسبانية. ومن المعروف كذلك بأن هؤلاء لم يستفيدوا إلا أياماً معدودات من معاهدة تسليم أخر ملوكهم – الأمير أبي عبد الله محمد- لغرناطة أخر حواضر الإسلام بالأندلس. فقد وقعت المفاوضات بين -فرنا ندو- ملك أرغون- و- إيزابيلا – ملكة قشتاليه وممثلي أبي عبد الله وتم الاتفاق أن تسلم غرناطة مقابل ضيعة صغيرة سوف يطرد منها فيما بعد وعدة شروط؛ من أهمها حسن معاملة المسلمين الأندلسيين وعدم إكراههم على ترك دينهم – وجمع «أبو عبد الله» الفقهاء وأكابر الجماعة في بهو الحميراء (بهو قمارش) وبعد مناقشات طويلة عاصفة تمت الموافقة على معاهدة التسليم.
غير أنهم «فرنا ندو» و«إيزابيلا» سرعان ما استولوا على أراضي هؤلاء ثم نصروهم وسموهم تبعاً لذلك بالموريسكيين تحقيرًا وإذلالاً لهم وبالنصارى الجدد كذلك تميزًا لهم عن النصارى القدماء، ولاغرو في ذلك فلم يكن من الممكن إيقاف ما يترتب بالضرورة عن منطق الغلبة والقهر من طغيان وجبروت.
ومن الطبيعي أن يثور المسلمين ليس فقط على الاستيلاء على أراضيهم وإنما على حملات التنصير فانخرطوا في انتفاضات وثورات مسلحة ورغم انهزامهم في كل ذلك، أما النصارى وخضوعهم إلى هؤلاء؛ فإنهم لم يدخلوا أبدا في النصرانية ولم يكفوا لحظة واحدة عن التشبث بهويتهم الإسلامية والعربية وكل ما في الأمر أنهم اضطروا إلى إظهار اندراجهم في النصرانية وممارسة طقوس ذلك التشبث وشرائعه بشكل خفي وسري لاتقاء شر الكنيسة ومحاكم التفتيش ولا أدل على ذلك من اضطرار أسبانية الكاثوليكية إلى طرد هؤلاء وإجلائهم عن أراضيها تعبيرًا منها عن فشلها في تنصيرهم وإدماجهم في الحياة الثقافية التي اشتهتها لهم.
فبعد حدوث النكبة وما حصل من تنكيل بالعرب الأندلسيين ثم تهجير ما تبقى من العرب من أمكنتهم ومدنهم وأبيحت حرمة ممتلكاتهم وثقافتهم وخزائن مكتباتهم ذهب ما نهب وأحترق قسم كبير من المخطوطات والكتب وبيع بالمزاد بعض المكتبات ونقل ما توفر من الكتب النفيسة إلى بعض المكتبات ومن هذه المكتبات مكتبة «دير الأسكوريال» في العاصمة «مدريد»، وهذه المكتبة كان يمكنها أن تمتلك أكبر كمية من المخطوطات العربية والإسلامية في العالم لو لم يَعمد الكاردينال «سيسنيروس» وآخرون إلى إحراق آلاف المخطوطات في ساحة باب الرملة الغرناطية بعد خروج العرب من أسبانيا عام 1492م.
وفي الثاني والعشرين من سبتمبر 1609م أصدر الملك «فليب» الثالث ملك أسبانيا أمراً بتهجير ما تبقي من أهل الأندلس نهائياً، فتم ترحيل ما يزيد عن نصف مليون مواطن(موريسكى) من ديارهم إلى خارج شبه الجزيرة الإيبيرية ضارباً عرض الحائط بالاتفاقية التي تم توقيعها عليها ما بين (أبو عبد الله) الصغير آخر ملوك غرناطة ، وملوك أسبانيا الكاثوليك: فرناندو، وإيزابيلا، والتي تعهد بها ملوك «قشتاله» احترام المعتقدات الدينية للمواطنين الأندلسيين وعاداتهم وتقاليدهم مقابل احترام وخضوع هؤلاء لسلطة ملوك أسبانيا، حيث لم تحترم هذا الاتفاق السلطات السياسية والكنسية، وهكذا. تم التهجير ولم يسلم من ذلك حتى الذين تنصروا ممن سموا بالمدجنين كانوا على الدوام محل شك وريبة.
واستمرت مطاردة السياسة الأسبانية للكتب العربية، فجمعت منها خلال النصف الأول من القرن السادس عشر، مقادير عظيمة أخرى حيث كانت لدى الموريسكيين والعرب المتنصرين منها مجموعات كبيرة ولكنها لم تعدم ولم تحرق هذه المرة بل لقيت سبيلها إلى المكتبة الملكية في الاسكوريال أيام الملك «فليب» الثاني.
والأدهى حينما أضطر «مولاي زيدان» تحت ضغط الفتن واشتداد ساعد خصومه أن يغادر عاصمته «مراكش» وأن يحمل معه أمواله وذخائره ومكتبته الثمينة وكانت تحتوي على نحو ثلاثة أو أربعة آلاف من نفائس الكتب المغربية والأندلسية المشرقية في عدة من السفن استأجرها لكي تحمله مع ذخائره شمالاً في اتجاه ثغر «أغادير»، وقد فاجأها الأسطول الأسباني بقيادة – بيدردي لاارا- في عرض البحر واستولى عليها كان ذلك في سنة 1021 هـ – 1612م وحملت هذه المكتبة الثمينة غنيمة لتودع في المكتبة الملكية بقصر «الاسكوريال» وارتفع بذلك عدد المخطوطات العربية في المكتبة الملكية إلى نحو عشرة آلاف مخطوط وكانت أعظم وأثمن مجموعة من نوعها إذ تتألف من نخبة قيمة من الكتب المختارة سواء ما جمع منها من قواعد الأندلس المفتوحة والأخص غرناطة أو ما كانت تحويه «المكتبة الزيدانية» التي جمع معظمها باختيار السلطان الأديب العالم مولاي «زيدان الحسني»، وكان من عشاق نفائس الكتب.
بينما استمرت المحاولات المغربية حتى أمس القريب لاسترجاع ما تبقى من مكتبة مولاي زيدان، لكن كل المحاولات باءت بالفشل حيث أن الأسبان يعتبرون أن هذه المخطوطات الثمينة النادرة هي جزء من تراثهم.
وفي عام 1656م سجل أعلى رقم للمخطوطات العربية والإسلامية في هذه المكتبة قبل أن يأتي نيران حريق عليها عام 1671 م وتلتهم عددًا كبيرًا منها وتروي الحكايات أن عدد المخطوطات المتحرقة أربعة آلاف مخطوط.
ومن محاولات ملوك المغرب استعادة الكتب الأندلسية وبالأخص كتب المكتبة الزيدانية أن أرسل مولاي «إسماعيل» عاهل المغرب الكبير سفيره الوزير «محمد بن عبد الوهاب الغساني» إلى «كرلوس الثاني» ملك أسبانيا عام 1102 هـ – 1690 م ليقوم بمهمة مزدوجة هي الاتفاق على تبادل الأسرى والعمل على استرداد الكتب العربية فزعم الأسبان للوزير إن الحريق قد أتى على سائر الكتب العربية وأخفوا عنه حقيقة ما تبقى منها ولما قام الوزير بزيارة الاسكوريال وشاهد أثار الحريق في المكتبة اقتنع بما ذكره الأسبان واكتفى بالاتفاق على تحرير الأسرى وبعد ذلك بنحو ثمانين عام بعث مولاي محمد بن عبد الله ملك المغرب في سنة 1179هـ – 1766م كاتبه «أحمد المهدي الغزال» بسفارة مماثلة إلى «كرلوس الثالث» ملك أسبانيا تدور حول تحرير الأسرى واسترداد الكتب العربية وقد استطاع السفير المغربي أن يصل إلى إتفاق مع الحكومة الأسبانية لتحرير الأسرى وأن يحصل أيضاً على قليل من الكتب العربية جمعت له من مدريد وغرناطة، ولكن الأسبان اخفوا عنه كما أخفوا عن سلفه الوزير الغساني حقيقة الأمر فيما يتعلق بمجموعة الاسكوريال.
بعد ذلك حاول العلماء العرب استدراك الأمر حين قاموا على تهذيب بعض الكتب التراثية الكبيرة أو اختصارها، كما حاولوا كتابة الموسوعات الكبيرة في كل فروع الثقافة، وبخاصة في اللغة والأدب أملاً في الإبقاء على قليل من كثير ضاع من تراثنا العربي. فظهرت الموسوعات
وانتشرت في العصر المملوكي- مثل – نهاية الأرب للنويري، و «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لابن فضل الله العمري، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، حتى وصف ذلك العصر بعصر الموسوعات، ولكن تأليف هذه الموسوعات كانت خلوا من الابتكار والتجديد، وما هي إلا جمع من آثار المتقدمين. فهي لا تحتاج إلى جهد في التفكير بقدر ما تحتاج إلى جد وصبر كبيرين. وإذا كان لهذه الموسوعات فضل؛ فإنها حافظت على نصوص بعض الكتب التي فقدت عندما حطم المغول مكتبة بغداد.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الحياة الفكرية، أخذت لاسيما في أواخر العصر المملوكي تميل إلى الركود والخمول التدريجيين. كما انعدمت روح الإبداع والتجديد. واتجه المفكرون نحو التقليد، هذا إذا ما استثنينا بعض العلماء الذين شذوا عن هذا الاتجاه، كابن تيمية ت: 728هـ 1328م، وتلميذه «ابن القيم الجوزية» ت: 751هـ1350م و«ابن خلدون» ت: 808هـ 1406م ، وصاحب هذا الركود تحول طرق التجارة العالمية عن البحر المتوسط والشرق الأدنى إلى المحيطات والعلم الجديد.
وهكذا وقعت البلاد العربية تحت الحكم العثماني، وهي تعاني كثيراً من مظاهر الشلل في حياتها الفكرية، ونضباً في إنتاجها العلمي ومواردها الاقتصادية.
فالثابت تاريخياً أن الانتقال من دولة المماليك لدولة العثمانيين لم يؤثر في الحياة الفكرية العربية، فليست هناك فروق جوهرية يعتد بها بين طبيعة الحكم العثماني وطبيعة الحكم المملوكي، وكانت الحضارة الأوربية في ذلك الوقت قد بلغت تقدماً عظيما، مما دفع بعض الرحالة الأوربيين في الولايات العثمانية – بعضهم من المستشرقين – إلى المبالغة في تصوير أحوال تلك الولايات بلون مفرط في السواد. بيد أن الازدهار الأوربي أخفى أن الذين نعموا به حقاً كانوا قلة في كل مكان. وهذا هو منشأ الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات.
والحقيقة أن فترة الحكم العثماني وتشجيع العلم والعلماء، ظهر في استمرار حلقات العلم بالحرم المكي الشريف ومسجد الرسول -ﷺ- بالمدينة و«الأزهر والجامع الأموي والمسجد الأقصى، وجامعة القيروان و القروييين» بالمغرب العربي ولم تخل الأقاليم العربية من المدارس والعلماء المشهورين، الذين كان طلاب العلم يرتحلون إليهم للأخذ عنهم، مثلما فعل الشيخ «محمد مرتضى الزبيدي»، الذي سافر عدة مرات بين الأقاليم والولايات العربية للأخذ من علمائها.
كما كانت الندوات العامة في قصور الأمراء وبيوت العلماء، ومن أشهرها تلك الندوة التي كانت تعقد بقصر «الأمير رضوان كتخدا الجلفي»، كذلك اهتم الأمراء والعلماء والتجار كل على السواء بإنشاء المكتبات الخاصة في منازلهم، إضافة إلى إمداد مكتبات المساجد والجوامع والزوايا بكمية كبيرة من الكتب، وكانت أسرة «الشرايبى» من أكثر الأسر اهتماماً بنشر العلم، فأنشأت مكتبة خاصة في بيتها في «الأزبكية» بالقاهرة، ساعدها على ذاك ثراؤها الضخم، نتيجة اشتغال أفرادها بالتجارة، وكانت هذه الأسر تسمح بإعارة الكتب لمن يريدها.
كما وجد في هذا العصر عدد من الأمراء الذين اهتموا بأخذ العلم عن العلماء بل أن بعضهم شارك في حركة التأليف سواء في العلوم العقلية أو النقلية، مثل الأمير «رضوان أفندي الفلكي» صاحب المدرسة الشهيرة لعلم الفلك في النصف الأول من القرن الثامن عشر.
كما وجد عدد من الباشوات، أخذوا العلم عن العلماء مثل «عبد الله باشا الكبورلي» الذي كان والياً على مصر في الفترة مابين 1142-1144هـ/ 1729-1731م الذي أخذ عن الشيخ «عبد الله الشبراوي»، والوزير «أحمد باشا» المعروف «بكور وزير» الذي كان والياً على مصر عام 1162هـ/ 1749م الذي كانت له اهتمامات بالرياضة والفلك، ورسم عدة مزاول بالجامع الأزهر، وأخذ عن الشيخ حسن الجبرتي.
ووجد في القرن الثامن عشر بعض الأفراد المهتمين بالعلم وتشجيع العلماء، مثل الشيخ أحمد أبو المداد السادات الذي عرف عنه اهتمامه بالفلك، ولذا فقد كلف الفلكي الشهير الشيخ مصطفى الخياط بتحريك كواكب ثابتة حتى عام 1180هـ/ 1766م وأعد له من أجل ذلك حجرة خاصة وتكفل بمصروفاته وأسرته عدة أشهر إلى أن انتهي من عمله.
كذلك شهد هذا العصر – العصر العثماني-عددًا من العمائر العظيمة التي أقامها العثمانيون في جميع الولايات في «مصر» على سبيل المثال أقام كل من الأمير عبد الرحمن كتخدا ت: 1190هـ/ 1776م في الأزهر، والتي بلغ من عظمتها وجلالة قدرها بحيث اعتبر الأستاذ «شفيق غربال» الأمير عبد الرحمن كتخدا «من بناة الأزهر المنشئين» وتلك العمارة العظيمة التي أنشأها الأمير «محمد أبو الدهب» حين أنشأ جامعه المشهور المقابل للأزهر، فإن هذين الأميرين بإقامتهما تلك العمارة استطاعاً أن يجاريا أعظم سلاطين مصر وملوكها وخلفائها في العصور السابقة في العمارات العظيمة والمآثر الهندسية والخيرية الكبرى.
ومع ذلك؛ فإن الحركة الفكرية والعلمية في بلاد العرب قد غلب عليها الجمود وعدم الابتكار قبل أن يأتي العثمانيون إلى تلك البلاد. ويرجع هذا الجمود الذي أصاب الحركة الفكرية الذي أصاب بلاد العرب والعالم الإسلامي من بعد القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي- والذي امتد إلى القرن الثامن عشر إلى ثلاث عوامل:
الأول:
اعتقاد علماء المسلمين في العصور المتأخرة بأن العلوم قد تم وضع قواعدها من قبل، وليس في إمكانهم أن يأتوا بجديد فيها، يقول الشيخ «أحمد الملوي» ت: 1181هـ 1767م في شرحه الكبير على السمرقندية في علم البلاغة «إنه ليس لمؤلفي المتأخرين مع المتقدمين إلا حسن السبك لكلامهم وزيادات وتحقيقات يأخذونها من فحوى نظامهم».
الثاني:
انتشار روح التقليد التي سرت في المذهب السني في ذلك الوقت والتي قاومت أية محاولة للابتكار والتجديد، واعتبارها محاولة لهدم ما بناه الأولون، واتهام كل من خرج عن هذا الطريق ولو قليلاً بالإلحاد والزندقة وهكذا قُفل باب الاجتهاد وضعفت روح الابتكار، وحل محلها التقليد والمحاكاة. وقد عبر الشيخ «أحمد الجوهري» ت:1181هـ /1767م لأحد علماء القرن الثامن عشر المشهورين عن ذلك فقال: «اعلم بأن من يأتي منه العلم النافع والصواب أن الأئمة الأربعة – رضوان الله عليهم – أجمعين في غالية الرفعة والمكانة والقرب من رب العالمين. وإن كل واحدٍ منهم على نورٍ من ربه وخالقه، وأن تقليد أي واحدٍ منهم يرضاه الله ورسوله وإن فعله كل واحد عند الله عظيم، فكل من قلد واحدًا منهم فهو على نور من ربه، لا شك في هذا إلا كل من ابتلاه الله بالمقت والخزي من رب العالمين».
الثالث:
ما انتشر بين المسلمين من عصبية حادة مذهبية وطائفية كالخلاف بين الفقهاء والصوفية، وبين السنة والمعتزلة، وبين السنة والشيعة، والخلاف بين المذاهب الأربعة، وبدلاً من أن تؤدي هذه الخلافات إلى النتيجة الحتمية لها، وهي ظهور نهضة فكرية، فإنها قد أدت إلى عواقب وخيمة على الحركة الفكرية، لأن هذه الخلافات لم تجر في جو يسوده العدل والحرية، وإنما كان طابعها هو الاعتساف والتنكيل بالخصوم؛ كما حدث في مشكلة خلق القرآن، والقضاء على المعتزلة، وقتل الحلاج، ونفي «ابن رشد»، فحرم الفكر الإسلامي من ثروة فكرية كبيرة، لو أتيح لها التعبير عن نفسها، لكان من المحتمل أن تتغير مسيرة الحركة الحضارة العربية التي اتجهت إلى الهبوط والانحدار من بعد القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي- الذي يُعتبر نهاية عصر ازدهار هذه الحضارة.
* * *
* *
(*) دمشيت – طنطا – مصر.
هاتف محمول : 0109356970(002)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1435 هـ = يونيو – أغسطس 2014م ، العدد : 9-10 ، السنة : 38