الفكرالإسلامي
تعريب: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)
قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾[البقرة/183].
هذا الحكم خاص بالصوم، وهو من أركان الإسلام، ويشق على عبدة النفس و أهوائها كثيراً، فأتى به بمؤكدات. وهذا الحكم مستمر من لدن آدم إلى يومنا هذا، وإن اختلفوا في تعيين الأيام. والأمر بالصبر الذي تضمنته الأصول السابقة يشكل الصومُ ركناً ركيناً منها، و وصف الحديثُ الشريف الصومَ بنصف الصبر.
وجوب الصوم وحكمته:
قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة/183].
أي أن الصوم يعوِّد المسلمَ منع النفس عن شهواتها، فتمكنون – أيها المؤمنون!- من منعها عن الشهوات التي حرَّمها الله تعالى، كما أن الصوم يضعِّف قوة النفس وشهوتها، فتعودون أتقياء. ومن الحِكم العظيمة في الصوم ترويض النفس الطاغية، فيهون عليها أحكام الشرع التي تشق عليها، فتكونون بذلك متقين.
واعلم أن الصوم كان مكتوباً على اليهود والنصارىٰ كذلك. ثم إنهم غيروه وبدلوه نزولاً عند أهوائهم و إشباعاً لشهواتهم. فقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ تعريض بهم. والمعنى: أيها المسلمون، اتقوا المعاصي، أي لاتُخِلُّوا بهذا الحكم كما أخلَّ به اليهود والنصارى.
من أحكام الصيام:
قال تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة/183].
أي أياماً قلائل، غير كثيرة؛ فصوموها. والمرادبها شهر رمضان كما سيأتي لاحقاً.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة/184].
ثم إنه زاد هذه المدة القليلة تسهيلاً فرخَّص لمن كان مريضاً أو شق عليه الصوم، أو كان على سفرٍ، أن يفطر فيها وعليه عدة من أيام أخر، متفرقاً أو موصولاً.
قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة/184].
المعنى: مـن كان في طـوقهم أن يصوموا إلا أنهم لم يتعودوا الصيام في أول الإسلام، فكان يشق عليهم أن يصوموا شهراً كاملاً متتابعاً، فخيّرهم – وإن لم يكونوا ذوي عذرٍ من مرضٍ أو سفرٍ – بين الصوم والفدية عن كل يوم يفطرونه وهو إطعام مسكينٍ واحدٍ بما يشبعه من الغداء والعشاء؛ فإنه لما أنفق طعامَ يومٍ واحدٍ على غيره، فكأنه صبر نفسَه عن طعام يومٍ واحدٍ. فأشبه بالصوم في الجملة. فلما تعوَّد الناس الصيام زالت الرخصة التي يأتي بيانها في الآية التالية. وذهب بعض السلف إلى أن المراد بقوله: ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ هي صدقة الفطر. والمعنى: من أطاق أداء الفدية فعليه أن يطعم قدر طعام مسكين واحدٍ، وقدَّره الشرعُ بصاعٍ من برٍ أو صاعٍ من شعيرٍ. فالآية محكمةٌ غير منسوخةٍ. وأما من قال: إن الرخصة قائمة ليومنا هذا، فمن شاء صام رمضان ومن شاء أفطر و افتدى، فإنه جاهلٌ أو ملحدٌ.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ [البقرة/184].
أي أعطى مسكيناً واحداً أكثر من طعام يومٍ واحدٍ، أو أشبع عدة مساكين فنعما هي.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة/184].
أي لو علمتم فضل الصوم وحِكمته ومنافعه لأدركتم أن الصوم أفضل من الافتداء، إذاً فلاتقصروا في الصوم.
رمضان شهرٌ نزل فيه القرآن:
قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة/185].
روي أن صحف إبراهيم، والتوراة والإنجيل؛ كلها نزل في شهر رمضان. وأنزل القرآن الكريم في الليلة الرابعة و العشرين من رمضان من اللوح المحفوظ إلى السماء الأولى جملةً واحدةً، ثم نزل متفرقاً حين الحاجة إليه، وكان جبرئيل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم ما تم نزوله من القرآن في كل رمضان. وكل ذلك يدل على فضل رمضان، ومناسبته للقرآن الكريم، واختصاصه به دلالةً واضحةً. وعليه شُرِعَت التراويحُ في هذا الشهر، فيجب العناية بخدمة القرآن الكريم كلَّ العناية فيه، حيث تقرر لذلك واختص به.
مسائل الصيام:
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة/185].
أي بعد أن تبين لكم ما اختص به هذا الشهر الفضيل من المناقب والفضائل الجمة فمن شهد منكم هذا الشهر وحضره فليصمه. وأما رخصة الفدية التي نزلت في أول أمر الصوم فكانت مقتصرةً على زمنٍ، وتمَّ نسخُها.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة/185].
ويوهم عموم هذا الحكم أن رخصة الإفطار و الافتداء التي نزلت للمريض والمسافر ربما نسخت كذلك، و كما نُهِيَ المطيقون للصيام عن الإفطار، نُهِيَ المريض والمسافرعن الإفطار أيضاً، فأعاد حكم المريض و المسافر ونصَّ على أن الرخصة التي نزلت لهما في رمضان من الإفطار والقضاء في أيام أخر، لازالت قائمةً على ما كانت عليه، ولم تُنسَخْ.
قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة/185].
المعنى: أن ما أمر الله تعالى به – في أول الأمر- من الصيام، و رخَّص للمريض والمسافر للعذر، ثم إن الله تعالى أمركم بعدة من أيام أخرى تقضون الأيام التي أفطرتموها في رمضان، لايشترط في ذلك التتابع أو التفريق؛ فإنه تعالى أراد بذلك التيسير عليكم دون التعسير، كما أراد أن تتموا عدة الصيام، دون أن يُنقصَ من أجوركم شيئاً، وأراد أيضاً أن تكبِّروا الله تعالى على ما هداكم، وأراد كذلك أن تشكروه على هذه النعم، وتكونوا من الشاكرين، فسبحانه ما أعظم شأنه، فرض علينا عبادةً عظيمةً مثل الصيام، ثم يسَّر علينا حين واجهنا فيه العسر و المشقة، وهدانا إلى ما نتلافي به هذا التقصير في أوقات الفراغ.
الرخصة في إتيان النساء ليالي الصيام:
قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة/187].
كما نزلت الرخصة فيما حرم عليكم من الأكل والشرب وإتيان النساء بعد العشاء، فلكم أن تأتوهن في أي وقتٍ من الليل.
قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة/187].
واللباس كناية عن تعانقهما والتصاقهما. فالرجل والمرأة يتعانقان بعضهما ببعضٍ، ويلتصقان لصوق الثياب بالجسد.
قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة/187].
معنى قوله تعالى: ﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ تأثمون بإتيان النساء بعد النوم فتستحقون العتاب وتُنقَصُون الأجرَ لما فيه من مخالفة أمر الله تعالى، فمَنَّ الله تعالى عليكم بالعفو، و رخَّص لكم في ذلك.
غرض الجماع:
قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ [البقرة/187].
أي ليكن القصد من إتيان النساء تحصيل ما قدر الله تعالى لكم في اللوح المحفوظ من الذرية، دون قضاء الشهوة فحسب. وفيه إيماء إلى كراهة العزل وحرمة اللواط أيضاً.
مسائل الصيام والاعتكاف:
قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة/187].
أي كما رخَّص لكم في الجماع ليلة رمضان كلها، رخص لكم في الأكل والشرب إلى طلوع الفجرالصادق أيضاً.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة/187]
أي أكملوا الصيام من طلوع الفجرالصادق إلى الليل. وفيه دليل أيضاً على كراهة مواصلة الصيام بحيث لايتخلله الإفطار في الليل.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة/187].
أي أبيح لكم إتيان النساء في ليالي الصيام، ولايباح لكم ذلك في الاعتكاف ليلاً ولانهاراً.
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ اٰيٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة/187].
أي هذه الأحكام التي سبق ذكرها فيما يخص الصيام والاعتكاف إباحةً وتحريماً، مما حدده الله تعالى ورسمه، فلا تخرجوا عليها، بل احذروا أن تقربوها، والمعنى: ماكان لكم أن تخرجوا عنها قِيد شعرةٍ لرأي رأيتموه أوحجةٍ.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1435 هـ = يونيو – أغسطس 2014م ، العدد : 9-10 ، السنة : 38
(*) email:almubarakpuri@gmail.com