الأدب الإسلامي
بقلم : معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
وصلة الرحم تبدو في أجلى مظاهرها عند أمهات المؤمنين ، وعائشة رضي الله عنها على رأسهن، وإذا صح الخبر المروي عنها ، فهو يدل على فكر خيّر ، ولا يستغرب عطف أم المؤمنين عائشة على بقية أزواجه ﷺ .
«بعث معاويــة إلى عائشـة طوقًا من ذهب ، فيه جــواهــر قُوِّم بمئة ألف ، فقسمته بين أزواج النبي ﷺ ».(1)
والذهب للمرأة والجواهر الثمينة ، من أمور الزينة ، التي تحرص عليها المرأة ، لأن طبيعتها تتطلب مثل هذا ، لأنه مكمل لزينتها ، وزينتها جزء من أنوثتها ، وأنوثتها جزء من مفاخرها ، ولكن أم المؤمنين بحكم سنها وإيمانها ، أرخصت ما هو غالٍ في الدنيا إلى ما عند الله في الآخرة ، ورجت أن تكسب من صلة الرحم أجرًا في الآخرة مضاعفًا .
وتَغْلِبُ صلةُ الرحم محاولةَ الإِيقاع بين اثنين ، فينجح أحدهما في إبطال ما أراد ثالث أن يستثيره على الخليفة ، ويقول في ردِّهِ حكمةً تدل على نضج، وعلى مراعاةٍ على صلة الرحم ، ورابطة النسب ، والقصة كما يلي :
«قيل لأبي سفيان : إن عثمان حجبك ، فقال: لاعدمت من قومي مَنْ إذا شاء حجبني».(2)
لقد نسي أبو سفيان ، وهو عظيم في قومه ، مقدم في زمنه ، نفسه ، ولم يذكر إلا قومه ، وصلة رحمه بهم ، فهو يفخر بقوة الحاكم الذي يمت إليه بصلة ، وإن عنده من القوة ما يرفع رأسه .
وحكم القرابة وإن كان لايخلو في بعض الأحيان من الجور إلا أنه مُنَفَّذٌ ومقبول ، لأن مخالفته فيها من الضرر أكثر مما قد يبدو من النفع ، لأن نفع المجموع مقدم على مصلحة الفرد في نظر المجتمع ، بل إنه قد لا يلتفت إلى مصلحة الفرد ، إذا كانت مصلحة الجماعة واضحة ، وفي القصة الآتية صورة من صور قوة القرابة في نظر المجتمع ، وإهدار ما قد يكون للفرد من حق :
«قال بعضهم :
رأيت بطريق مكة أعرابية ما رأيت أحسن منها، فقعدت أنظر إليها متعجبًا من جمالها ، فجاء شيخ قصير ، فأخذ بأذنها ، فسارّها ومضى .
فقلت : من هذا ؟
قالت : زوجي .
قلت : كيف تَرضَى مثلك مثله ؟
فقالت :
أَيَا عَجَبًا لِلْخَــوْدِ يَجْـــــرِيْ وشَاحُهَا
تـــزَفُّ إِلىٰ شَيْخٍ مِـــنَ الْقَـــــوْمِ تنْبَالِ
دَعَـــانِــيْ إِلَيْـــــهِ أَنَّـــهُ ذُوْ قَـــــرَابَــــــةٍ
فَوَيْلُ الْغَوَانِيْ مِنْ بَنِيِ الْعَمِّ وَالْخَالِ» (3)
والقرابة وصلة الرحم لاتموت ، مهما كان الظرف عصيبًا ، فالدم يصرخ للدم ، يناديه ، فيقترب منه بين حي وميت ، في ظرف حرج ، ولكن ما ظهر من صلة الرحم أعجب ، حتى من كان يتوقع منه أن يغضب ، وأن لايرحب بهذه الصلة للرحم :
«لما وجه إلى عبد الملك رأس ابن الأشعث ، بعث به مع خادم له إلى امرأة من كندة ، كانت ناكحًا من قريش ، فلما رأته قالت :
«مرحبًا بزائر لا يتكلم ، وملكٍ ابن ملوك طلب ما يستحقه ، فأبى عليه القدر» .
فأراد الخادم أن يرد الرأس فقالت :
كلا والله ، ثم أمرت به فغسل ، ورُجِّل ، وطُيِّب ، ثم قالت : شأنك الآن .
فرجع الخادم إلى عبد الملك فأخبره ، فلما دخل عليه زوجها قال له :
إن قدرت أن تصيب منها سخلة فافعل».(4)
لقد أعجب عبد الملك بحسن تصرفها مما يدل على ذكاء في العنصر لم تذهله الصدمة ، وهذا جعل عبد الملك يحث زوجها الهاشمي على أن يكون له منها نسل ، فمثلها لا يأتي منه إلا عنصر فاخر ، وجملة عبد الملك جملة مشهورة عند العرب يقولونها عند الاعجاب بالعنصُر أو القوة أو الشجاعة ، أو سلامة الرأي .
وتتطاحن عاطفتان ، وتتصادم قرابتان ، إحداهما أصيلة بالمولد والوراثة ، والثانية بالزواج والمصاهرة ، فتأخذ هذه شرقًا ، وتأخذ تلك غربًا، ويتجاوب الدم مع الدم في جانب ، وتصطرع المصلحة مع الواجب في جانب ، فيغلب جانب المصلحة ، وهذه هي القصة :
«خرج صخر بن عمرو بن الشريد ، أخو الخنساء ، في غزاة ، فخرج فمرض ، فقال بعض عواده لامرأته : كيف أصبح صخر؟
فقالت : لا حي فيرجى ، ولا ميت فينسى ، لقينا منه الأمرَّين .
وسأل أمه ، فقالت : أصبح بنعمة الله صالحًا ، ولا يزال يخير ما رأينا سواده بين أيدينا كأصلح ما يكون عليل .
فقال صخر :
أَرَى أُمَّ صَخْــــرٍ لاَ تَمَلُّ عِيَــــادَتِيْ
وَمَلَّتْ سُلَيْمىٰ مَضْجَعِــي وَمَكَانِـي
وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أَكُوْنَ جِنَازَةً
عَلَيْك ، وَمَـــنْ يَغْـــــتَرَّ بِالحَــــدَثَانِ!
فَأَيُّ امــــرِئٍ سَاوَى بِأُمٍّ حَلِيْلَــــــــــةً
فَلاَ عَــــاشَ إِلاَّ فِـيْ شَقاً وَهَــــــوَانِي
لَعَمْرِي لَقَدْ أَيْقَظْتُ مَــنْ كَانَ نَائِمًا
وَأَسْمَعْتُ مَنْ كَانَتْ لَـــــــهُ أُذُنَــــانِ
أَهِمّ بِأَمْرِ الحَـــــــزْمِ لَوْ أَسْتَطِيْعُــــــهُ
وَقَدْ حِيْلَ بَيْــــنَ العَيْــرِ وَالْنَّــــزَوَانِ
كان قد خبأ سيفه تحت فراشه ، فلما جلست رفع السيف ليضربها به ، فلم يقدر ، فهو معنى قوله : «أهم بأمر الحزم».(5)
ويغلي دم القرابة في أوردة زيد بن عمر بن الخطاب ، ويطيش عقله ، فيثأر لصلة الرحم بما يتناسب مع جرمٍ أقدم عليه معْتدٍ ، والقصة كالتالي:
«خرج زيد من عند معاوية فأبصر بسر بن أرطأة على دكان ينال من علي رضي الله عنه فصعد الدكان ، واحتمله وضرب به الأرض ، وطفر عليه ، فدق ضلعين من أضلاعه .
فقال معاوية : أبْعد الله بسرًا ، أبعد الله بسرًا ، أيشتم هذا الرجل وهو يسمع ؟ أما علم أن زيدًا بين علي وعمر ؟ وأم زيد ابنة علي من فاطمة بنت رسول الله ﷺ ».(6)
ولا غرابة أن يثأر زيد لجده من هذا الشتّام ، ويأخذ منه الحق بقوة وعزم ، ومعاوية دعا على بسر لسوء تصرفه ، وجهله بالانساب ، والرحم وحرمتها ، والحرص على حمايتها .
وزيد في صلته لرحمه بالدفاع عن اسم علي ، وسمعته ، سار في طريق واحد مع والده رضي الله عنه فعمر كان له من المجد ما جمع فيه أطرافه ، ولم يبق له إلا أن يضيف إلى ما هو فيه من شرف ، شرف المصاهرة مع آل بيت رسول الله ﷺ فكان له ذلك بزواجه من ابنة علي رضي الله عنه من فاطمة رضي الله عنها وهذا الحرص في عمر ، وهذه الرغبة النبيلة في القرب من الرسول ﷺ ، انتظمت ابنه زيدًا في حميته ، ودفاعه عن هذه الصلة ، والخبر الآتي يكشف ما وراء هذا القول ؛ فعمر بعد ما وافق علي على زواج عمر من ابنته جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين فقال :
«رفئوني ، سمعت رسول الله ﷺ يقول :
كل سبب ، ونسب ، وصهر ، منقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري ، وصار لي به السبب ، والنسب ، فأردت أن أجمع إليه الصهر».(7)
وقد يختل ميزان القرابة ، فيسيء مسيء إليها ، ويجرح صفحة صلة الرحم ، بما يأتي به من أقوال أو أفعال ، ولعل الحلم الآتي يصور فداحة هذه الحالة ، كما فسرها ابن سيرين :
«سئل ابن سيرين عن رجل رأى في منامه كأنه يمضغ شدقة ، فقال : هذا رجل يغتاب أقرباءه».(8)
وصلة الرحم عند العرب ، والقبائل تبعد وتقترب ، ولها قواعد معتبرة عندهم في الحمالة ، وتحمل الديات ، وما يترتب على الصلح من غرم ، إذا ما أوجب الأمر ذلك ، وتصل أحيانًا إلى شيء عظيم من عدد الجمال ، ونوعها ، وقد يتحملها شخص واحد ، لا دخل له في الخطأ الذي استوجب تحملها ودفعها ، والقصة التالية عن مثل هذا :
«أتى رجل طلحة بن عبيد الله يسأله حمالة ، فرآه يهنا [يطلي من الجرب] بعيرًا له ، فقال : ياغلام اخرج له بدرة .
فقبضها ثم قال : أردت أن انصرف حين رأيتك تهنأ البعير .
فقال : إنا لا نضيع الصغير ، ولا يتعاظمنا الكبير».(9)
فهذا الرجل مع حرصه على الصغير ، وهو مثل القطر الذي يتجمع منه الماء العظيم ، لم يبخل بما جمعه بعد كد وكدح ، أن يعطي عطاءًا جزلاً، لأن في هذا صلة للرحم ، وإحياءًا لعادة متبعة بين بني قومه .
ومثل هذه القصة قصة أخرى تسير على نهجها ، وتتجه إلى هدف مماثل لهدفها ، وترمي إلى ما ترمي إليه ، بدؤها مثل بدء تلك ، اقتصاد وتدبير، ثم عطاء جزل متناه ، أدهش الناظر وأعجبه :
«قال الأصمعي : أخبرني شيخ من مشيختنا – وربما قال هارون الأعور – أن قتيبة بن مسلم قال:
أرسلني أبي إلى ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة ، فقال :
قل له : قد كان في قومك دماء وجراح ، وقد أحبوا أن تحضر المسجد فيمن يحضر .
قال : فأتيته فأبلغته ، فقال :
ياجارية غديني .
فجاءت بأرغفة خشن ، فثردتهن في مربس ، ثم برقتهن ، فأكل .
قال قتيبة : فجعل شأنه يصغر في عيني ونفسي، ثم مسح يده ، وقال :
«الحمد لله حنطة الأهواز ، وتمرالفرات ، وزيت الشام» ، ثم أخذ نعليه وارتدى ، ثم انطلق معي ، وأتى المسجد الجامع ؛ فصلى ركعتين ، ثم احتبى ؛ فما رأته حلقة إلا تقوضت إليه ؛ فاجتمع الطالبون والمطلوبون ، فأكثروا الكلام ؛ فقال :
إلى ماذا صار أمرهم ؟
قالوا : إلى كذا وكذا من إبل .
قال : هي عليّ ثم قام» .(10)
كان الرجل قليل الكلام ، كبير الفعْل ، ترك القوم يتجادلون ، ويأخذون في الكلام ويعطون ، ولم يتدخل فيقال : إنه وجه الرأي إلى اختصار عدد الإِبل ، وعندما وصلوا إلى النتيجة ، وعرفها ، تحملها كلها . وهكذا يصبح أحد أفراد القبيلة محورًا يدور عليه أفرادها ، ويلتفون حوله ، يوحد كلمتهم، ويجمع صفوفهم ، ويداوي جراحهم ، ويحل مشاكلهم ، ويقضي على ما قد ينشأ بينهم من خلاف ، وهذا هو منتهى صلة الرحم ، ومراعاة القربى .
وقصة أخرى تشبه تلك التي ذكرنا عن طلحة بن عبيد الله ، وهي عن قيس بن عبادة ، وقد قصده أناس من قومه ، أملاً في نجدتهم بمال تحقق عليهم ، فرأوا منه قبل أن يكلموه ما ظنوا معه أنه أبعد من أن يكون الرجل الذي يستجيب لطلبهم ، والقصة كالتالي :
«أتى قوم قيس بن عبادة يسألونه في حمالة ؛ فصادفوه في حائط له ، يتبع ما يسقط من التمر، فيعزل جيده عن رديئه ، ويجعل كل صنف منه على حدته ؛ فهموا أن يرجعوا ؛ وقالوا :
«ما نظن عند هذا خيرًا» .
ثم عزموا على لقائه ؛ فأقاموا حتى فرغ من حائطه ، فكلموه ، فأعطاهم .
فقال رجل من القوم له : لقد رأيناك تصنع شيئًا لايشبه فعالك ، وأخبروه .
فقال : إن الذي رأيتم من صنيعي قضيت به حاجتكم».(11)
لقد كانت القرابة تأتي بالمحتاج من أبعد الديار، لأن لحمة النسب هي العماد في الرابطة بين الناس ، في ذلك الزمن ، وجاء الإِسلام ليؤكدها ، ويحث على تقويتها ، عن طريق معرفة الأنساب ، تمهيدًا لصلة الرحم ، مهما كانت بعيدة في سلسلة القرابة والنسب .
وكنا ذكرنا بعض ما جاء في الدين الإِسلامي عن فضيلة صلة الرحم ، ومراعاة نفع الأقارب ، وعدم الابتعاد عنهم ، والتصدي لإِحقاق حقوقهم، ونزيدها بعض النصوص الواضحة في هذا ، وهي مكملة لما سبق أن ذكرناه :
«عن المقدام بن معديكرب ، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :
إن الله عز وجل يوصيكم بالأقرب فالأقرب».(12)
وفي هذا الحثّ تفضيل للأقرب ، ولكنه يحمل ضمنًا حق الأبعد ، وفي حديث مماثل مع بعض الاختلاف في اللفظ ، وهو أيضًا مروي عن المقدام بن معديكرب ، عن الرسول ﷺ نسوق الآتي :
«إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بآبائكم ، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب».(13)
وقد جاءت الوصية بالأقرب فالأقرب بعد الأم والأب ، وهما من أعطاهما الدين الإِسلامي حقًا كبيرًا ، وتوعد من فرط فيه ، أو أهمل في إعطاء هذا الأمر أقصى حده ، واجتهد فيه غاية الاجتهاد.
ويتابع الدين الإِسلامي التوصية برعاية ذوي القربى من غير من ذكر من ذوي القربى ، فيروي سلمان بن عامرالضبي عن النبي ﷺ أنه قال :
«الصدقة على المسلمين صدقة ، وإنها على ذي رحم اثنان : صدقة وصلة» (14)
* * *
الهوامش :
- ربيع الأبرار : 4/43 .
- ربيع الأبرار : 4/246 .
- ربيع الأبرار : 4/282 ؛ البصائر : 9/13 .
- ربيع الأبرار : 4/284 .
- ربيع الأبرار : 4/298 .
- ربيع الأبرار : 4/304 .
- ربيع الأبرار : 4/304 .
- ربيع الأبرار : 4/339 .
- المحاسن والمساوئ : 290 .
- عيون الأخبار : 1/455 ، قارن بما ورد في ربيع الأبقاه ليسمع ، والقصة التالية تُرِي راسب الماضي بكدره ، وصافي الحاضر بنقائه وحلاوته ، فيرار: 3/686 . أنظر أيضًا : إطلالة على التراث : 4/209 .
- المحاسن والمساوئ : 290 . محاضرات الأدباء : 180 .
- مسند الشاميين من مسند الإِمام أحمد بن حنبل : «366» 1/368 .
- مسند الشاميين : (369) : 1/169 .
- مسند الشاميين : (1049) : 2/1886 . (1059) : 2/886 .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1426هـ = يونيو – يوليو 2005م ، العـدد : 5 ، السنـة : 29.