دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ محمود الشرقاوي
وكان العرب أول من اهتدى إلى القول بأن الأوبئة تنشأ عن تعفن ينتقل عن طريق الهواء والمخالطة وسمو الأمراض المعدية بالسارية ، ودليلها عندهم أن من خالط مريضًا بها أو لبس ثيابه انتقلت إليه عدواه ، وكانوا أول من فطن إلى تفتيت الحصاة في المثانة . ومن أوائل من استخدموا المخدر – وسموه بالمرقد – ولعلهم أول من اخترع الاسفنجة المخدرة ، واستبدلوا بالأدوية الحارة الأدوية الباردة في علاج الفلاج والاسترخاء ونحوه، على غير ما كان الحال عند أسلافهم من اليونان ، وكانوا أول من استخدم في الجراحة الكاويات ، ونبه إلى شكل الأظافر في المصدورين ، ووصفوا صب الماء البارد لإيقاف النزيف … الخ .
وعالج العرب الجنون علاج الأمراض الطبيعية، وكان يسمى عند الأفرنج بالمرض الالهي أو الشيطاني لأنهم حسبوه من إصابات الأرواح أو الشياطين . ولقد أورد صاحب عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، من أسماء الأطباء العرب ، مانيف عن الثلاثمائة ، هذا عدا كثير من الذين لم يتح لهم حظ الشهرة وذيوع الصيت ، ويعترف الفيلسوف الألماني «هومبولد» بأن العرب قد أبدعوا شيئًا كثيرًا في الطب ، وأوجدوا علم الصيدلة الكيماوية ، وعرفوا كثيرًا من النباتات الطبية ، والتي أضيفت إلى ما كان يعرفه الأغريقيون جاءت في كتب ابن سينا وابن داود وابن البيطار وغيرهم .
وحرص الخلفاء وأهل اليسار على إقامة المستشفيات والمعاهد لتعليم الطب ودور لعلاج المرضى ، وكان أول من أقامها في الإسلام هو الوليد بن عبد الملك (عام 88هـ / 706م) وقد قرر بها الأطباء وأجرى عليها الأرزاق . ثم عرفت حواضر الإسلام المستشفيات الثابتة والمتنقلة مه انتشار الأوبئة والأمراض ، أو تنقل الخلفاء والأمراء؛ وقد زودت بصنوف الأدوية وأنواع الطعام والشراب والملابس والصيادلة والأطباء – وكان في كل مستشفى جناح للذكور وآخر للأناث ؛ وخُصِّصَ لكل نوع من الأمراض جناح خاص بمرضاه ، وألحقت بكل مستشفى صيدلية تضم أنواع الشراب والمعاجين والأدوية ، ويشرف عليها رئيس يتبعه معاونون ، ويقيم المريض بالمستشفى أو يأخذ معه الدواء إلى بيته إذا لم يقتض مرضه الإقامة. ويتفقد الأطباء مرضاهم في الأقسام التي يقيمون بها؛ وكانت تحبس الأوقاف على المستشفيات ، وترصد لها الأموال وينفق عليها في سخاء ؛ وإذا فرغ الأطباء من أعمالهم مضوا إلى خزائن الكتب في مشتشفياتهم أو دورهم وأكبوا على القراءة لتكون عونًا لهم في ممارسة مهنتهم ؛ وإذا دخل المريض المستشفى نزعت عنه ثيابه وحفظت مع نقوده عند أمين المستشفى ثم ألبس ثياب المستشفى وقدم له العلاج والغذاء والدواء بالمجان حتى يبرأ من مرضه . وعلامة ذلك أن يقوى على أكل فروج ورغيف ؛ وعندئذ يعطى له مال وثياب ويؤذن له في الخروج ، كما كان يحدث في مستشفى البيمارستان العتيق الذي أنشأه أحمد بن طولون عام 259هـ / 872م .
وقد اشتغلت النساء المسلمات بالتمريض منذ عهد الرسول وخاصة في أوقات الحروب ، ومن هؤلاء النسوة : رفيدة الأنصارية(1) ، وأم عطية الأنصارية ، ونسيبة بنت كعب التي مرضت في موقعة أحد وحاربت مع الرسول ودافعت عنه ، كذلك حاربت مسيلمة الكذاب في حرب اليمامة وفقدت في الحرب ذراعيها ، وكانت هؤلاء النسوة يمرضن في معسكرات التمريض التي كانت في مؤخرة جيش المقاتلين وينتقلن مع الجنود ويحملن أدواتهن على الجمال والبغال .
4 – في الصيدلة أو الأقرباذين :
يقول البيروني(ت 1050م) إن الصيدلي(2) أو الصيدلاني يراد به : المحترف بجمع الأدوية على إحدى صورها ، واختيار الأجود من أنواعها مفردة أو مركبة ، على أفضل التراكيب التي خلدها أهل الطب ، فهو الذي يجمع الأعشاب التي تستخدم في العلاج ، والدواء وهو العقار في الصيدلية ، ويراد بالأقرباذين تركيب الأدوية المفردة وقوانينها فيما يقول حاجى خليفة .
وقد صح عند الباحثين من الغربيين أن العرب هم الذين ابتدعوا فن الصيدلة ، وأنهم أول من اشتغل بتحضير الأدوية الطبية ، وقد جدوا في البحث عن العقاقير في مظانها المختلفة ، وابتكروا الكثير جدًا من أنواعها ؛ وعنهم أخذت أوربا هذا الفن ، ولا يزال الكثير من العقاقير يحتفظ في اللغات الأوربية بأسمائه العربية ، وكان العرب أول من ألف الأقرباذين على النحو الذي يعرف به في أيامنا الحاضرة .
والعرب هم الذين ارتقوا بالصيدلة من مستوى مجرد تجارة العقاقير والتوابل إلى إنشاء مدارس للصيدلة وحوانيت للصيدلة (الأجزاخانات) وكان أول من وضع الأقرباذين سابور بن سهل المتوفي عام 255هـ ، وأمين الدولة ابن التلميذ المتوفى عام 560هـ . كما وضعوا الكتب الصيدلية الخاصة بالتراكيب أي الأقرباذين . وللدلالة على طول باعهم في هذا المجال هو تأليف دساتير الأدوية ، ونذكر نخبة من أشهرها : الحاوي للرازي ، قانون ابن سينا ، وتذكرة داود الانطاكي ، والجامع المفردات الأدوية والأغذية لابن البيطار ، وكتاب الصيدلة للبيروني ، وكتاب العقاقير للبيروني .
وكان العرب أول من أدخل التقييم المهنى للصيدلة فعينوا لكل مدينة عميدًا للصيادلة ، كما أدخلوا الوصفة الطبية وعلى الطبيب أن يحررها ويكتب الأدوية عليها ؛ كما أدخلوا نظام إجازة الممارسة أسوة بما هو معمول بالطب بحيث لا يسمح للصيدلي بممارسة المهنة إلا بعد اجتيازه الامتحان أمام المحتسب ، وتقييد اسمه في جدول الصيادلة الخاص لذلك .
وهم أول من منع تدخل الصيدلي بأمور الطبيب ومنعوا الطبيب من امتلاك صيدلية أو التعاطى بالأدوية. وهم أول من وضع نظاماً لمراقبة الأدوية وفرضوا تسعيرة الأدوية كما حذروا الصيادلة من بيع السموم الضارة ، وكان يقوم بالتفتيش على الصيدليات المحتسب بشكل دوري ، وربما أسبوعي وأحيانا برفقة الشرطة لمنع الغش والتدليس .
ومن الأعمال التي قام بها الصيادلة العرب تحسين ذوبان وطعم الأدوية ، وأدخلوا تحضيرات جديدة كالمربيات والأشربة الحلوة والمستحلبات . وهم أول من استعمل الوسائل المعطرة بماء الورد والبرتقال والياسمين والليمون واليانسون ؛ وقد حسن العرب المراهم والأدهان والمعاجين واللدائن في معالجة الأمراض الجلدية ، وكانوا أول من غلف الأقراص بالسكر والفضة ، حتى يصير طعمها مقبولاً ، كما حضروا الأقماع والتحاميل .
وقد تقدم علم الصيدلة دونما بشكل فريد، دفع المسؤولين بضرورة حماية الجمهور من سوء استعمال الدواء ، ولذلك كرست الحكومة فصل الطب عن الصيدلة وأصبحت بالفعل مهنة مستقلة قائمة بذاتها، وظهرت فئة من الصيادلة الممارسين وفتحوا حوانيتهم (الصيدلة) على الطرق مباشرة يبيعون الدواء من خلالها للمرضى بناء على وصفات طبية، وبالتدريج تطورت مهنة الصيدلة وانفصلت عن العطار مثلما حدث بالنسبة لانفصالها عن الطب . وكان أول حانوت (صيدلية) قد افتتح في بغداد ولأول مرة في التاريخ ، ولم تفتح الصيدليات في أوربا على هذه الشاكلة إلا بعد خمسمائة سنة(3).
5 – في الكيمياء :
اتجه جمهرة القدماء إلى البحث في خصائص الأشياء ، وتحويل المعادن الخسيسة – من رصاص وحديد وقصدير – إلى ذهب أو فضة . ولهذا اقترنت بحوثهم بالسرية والرمزية والغموض . وسرى هذا التيار عند بعض مفكري العرب في عصورهم الوسطى، ولكن الكثيرين منهم قد انصرفوا عن ذلك إلى الاتجاه ببحوثهم الكيميائية اتجاهًا تجريبيًا واضحًا .
ويكاد ينعقد الرأى اليوم عند الباحثين من الغربيين على أن العرب هم مؤسسو الكيمياء علمًا تجريبيًا شأن غيره من العلوم الطبيعية ؛ فهم الذين خلصوا دراساتهم من السرية والغموض والرمزية التي لازمتها عند أسلافهم – من علماء الإسكندرية بوجه أخص – واصطنعوا فيها منهجاً استقرائيًا يعتمد علىالملاحظة الحسية والتجربة العلمية . وقد استخدموا الموازين والمكاييل وغيرها من الآلات تحقيقًا للدقة والضبط ؛ وكانت هذه وثبة جريئة واعية في التمكين لمنهج البحث العلمي الصحيح .
وقد أحصى المؤلفون العرب الآلات التي استخدمها علماؤهم في بحوثهم الكيميائية فكان منها فيما يروى محمد بن أحمد الخوارزمي الكاتب (ت369هـ/976م) في كتابه «مفاتيح العلوم» : الكود والبوطق (البوتقة) والمشاق (الماشة) والراط الذي يفرغ فيه مايذاب من ذهب أو غيره ؛ وكان من آلات التدبير : الأنبيق والزق (لتصفية الزئبق وغيره) والموقد ؛ وكان من العقاقير التي استخدموها في بحوثهم الملح بأنواعه المختلفة والزاجات (البلورات) واللازورد والكحل والزرنيخ وغير ذلك كثير .
وقد كان في مقدمة رواد الكيمياء علماً تجريبياً جابر بن حيان . ويقول عنه هولمبارد Holmyard أستاذ الكيمياء بكلية كلفتون بانجلترا في كتاب أصدره عن مؤلفات جابر بن حيان سنة 1923: إِنه أول مبدعي الكيمياء على أسس علمية صحيحة ، بل هو فيما قال ناشر رسائله – بول كراوس من أعظم رواد العلوم التجريبية لأنه جعل الميزان أساساً للتجريب ، وهذا خير وسيلة لمعرفة الطبيعة معرفة دقيقة وقياس ظواهرها قياسا كميا، والكمية عند جابر تشتمل على الأعداد والأقدار من الأوزان والمكاييل وماشاكلها ؛ وهكذا أرجع ظواهر الطبيعة وكل معطيات المعرفة البشرية عامة إلى قوانين العد والقياس ، وهذه – فيما يقول كراوس – أقوى محاولكراوس – أقوى ت المعرفة البشرية عامة إلى قوانين العد والقياس ، وهذه – فيما ة في العصور الوسطى لإقامة مذهب كمى لعلوم الطبيعة(4).
ويسمى ابن خلدون الكيمياء بعلم جابر(5). ويعده مؤرخ الطب العربي لوسيان لوكلير أعظم علماء عصره ، ومن أكبر علماء العصور الوسطى كلها ، وكان جابر صاحب مدرسة تابعت بحوثه الكيميائية على أساس من الملاحظة الحسية والتجربة العلمية ، وقد وصف ملح النشادر ونترات الفضة والسليماني وحامض الأزوت ، وعرف كثيرًا من العمليات الكيميائية كالتبخير والتقطير والترشيح والتكليس والإذابة ؛ وكان أول من لاحظ أن نترات الفضة تكون مع ملح الطعام راسبًا أبيض وأن النحاس يكسب اللهب لونًا أخضر وترجمت كتب جابر في الكيمياء إلى اللاتينية وظلت المراجع المعتمدة في الكيمياء لعدة قرون .
وأبوبكر الرازي (866هـ – 944هـ) أعظم رواد الكيمياء الأوائل ، وقد وفق في كتابه «سرالأسرار» الذي ترجمه وشرحه يوليوس روسكا J. Ruska إلى تخليص الكيمياء من الرمزية والغموض ، واتجه بها اتجاهاً تجريبياً علمياً(6)، واقتصر على النتائج التي هدته إليها التجربة ؛ وقد ضمن كتابه المواد التي استخدمها والأدوات التي استعان بها ، وكذلك الطرق التي استعان بها في إعداد الخمائر المطلوبة ، وقد ابتكر أجهزة ووصف أخرى ، منها المعدني والزجاجي وقد حضر الأحماض مثل حامض الكبريتيك وسماه زيت الزاج، وحضر الكحول بتقطير مواد نشوية وسكرية متخمرة وقدر الكثافة النوعية لعدد من السوائل باستعمال ميزان خاص . وحينما أرخ سارطون للعلم في الفترة التي عاش فيها الرازي جعل منه علمًا عليها(7) ، كما أنه أحد الرواد الذين كانوا طليعة المدرسة الكيميائية «الطبية» في عصر النهضة(8) . ويقول مؤرخ الحضارة ول ديورانت: إن الفضل في ابتداع الكيمياء علمًا تجريبيًا يرتد كله إلى المسلمين لأنهم هم الذين اصطنعوا مناهج البحث العلمي وهو ميدان كان يجهله اليونان .
ومن أشهر علماء المسلمين في الكيمياء عزالدين بن أيدمر بن على الجلد كى (ت 1362م) يقول الأستاذ الدكتور عزة مريدن في معرض حديثه عن العلماء العرب : (…. ومنهم هذا الجلد كى العجيب الذي ما قرأت قصيدته مرة إلا أقسمت غير حانث إن هذا هو مكتشف الذرة وواضع أسس الصواريخ ، وهو يصف كنه الذرة في المعادن والعناصر الكيماوية ويشبهها بالمجموعة الشمسية على نحو ما يفعل علماء الذرة اليوم حينما يبحثون في البروتون والنور ترون المركزيين ، والألكترون الذي يحيط بهما(9).
ولعل التاريخ الأوربي لم يتأثر بشيء من كشوف العرب في المعدنيات كما تأثر بكشف البارود واستخدامه في قذائف الحصار وأسلحة القتال .
6- في الطبيعيات :
في دراسات العرب في علم الطبيعة تتمثل خصائص المنهج العلمي التجريبي السليم . ومن أعلام هذا الاتجاه الحسن بن الهيثم (ت 1029م) وأبو الريحان البيروني (ت 1048م) فأما أولهما فقد كان عالماً رياضيًا قدر له أن يكون منشيء علم الضوء غير منازع ، اذ ميزت دراساته دقة أوصافه للعين وإدراك الرؤية وتفسير الانكسار الجوي والرؤية المزدوجة .
وقد درس بمنهجه العلمي الدقيق انعكاس الضوء ووضع نظرية كانت اجابة على هذا السؤال: إذا كانت لدينا مرآة اسطوانية وشيء آخر يشبه النقطة ، فكيف نحدد الوضع الذي تتخذه العين لترى هذا الشيء في المرآة ؟ وكانت إجابة ابن الهيثم في صورة معادلة من الدرجة الرابعة حلها عن طريق خط تقاطع دائرة وقطاع زائد . وهكذا بدت نزعة العلمية الدقيقة في نظريته في انعكاس الضوء .
وكان من رأيه أن الضوء ينشأ من المرئيات ولا ينبعث من العين ليلمسها كما ظن – خطأ – أسلافه من القدماء. وأعظم كتبه في هذا المجال هو «المناظر» (10)، وقد ترجم فردريك رستر Frederick Risner هذا الكتاب إلى اللاتينية ونشر في مدينة بازل بسويسرا عام 1572م بعنوان «كنز البصريات» (11) واثر تأثيرًا بالغًا في وايتلو+ (1207م) Witelo وروجر بيكون + 1292م وليونارد دافنشى + 1519م وكلير+1630م وغيرهم من علماء أوربا المعروفين.
أما البيروني فقد كان بدوره من أشهر علماء الطبيعة والرياضة . وقد توصل في ضوء منهجه العلمي إلى تقديرات للثقل النوعي وأبعاد الأرض ، وظواهر الشفق وكسوف الشمس ونحوها من ظواهر ، في دقة أثارت الباحثين من الغربيين ، حتى قال عنه المستشرق أدور سخاو ، «انه أعظم عقلية عرفها التاريخ» . واستخدم البيروني في تقديراته للثقل النوعي جهازه المخروطي الذي يعد أقدم مقياس للكثافة .
والخازن وهو أحد علماء النصف الأول من القرن الثاني عشر – وصف الموازين ، وله كتاب «ميزان الحكمة» وبه وصف دقيق للموازين التي كان يستعملها المسلمون في تجاربهم ، ومنها ميزان توزن فيه الأجسام في الهواء والماء . ويشتمل الكتاب كذلك على الكثير من الأوزان النوعية للمعادن والسوائل وسائر المواد الأخرى .
وللخازن ايضًا نظريات في الضوء . وقد لاحظ من ألف سنة انكسار الأجسام عند انغماسها في الماء ، وقد ترجمت كتب الخازن إلى اللاتينية ثم إلى الايطالية في وقت مبكر واستعان بها رجال العلم في أوربا . واستقى روبرت جروستست Grosseteste (1175-1253م) أسقف لنكولن الذي يعتبر أول مثل بارز لعلماء الطبيعة في غرب أوربا في أوائل القرن الثالث عشر معلوماته من ترجمة لاتينية لكتاب الخازن. كذلك أخذ روجر بيكون .
ولقد ساعدت أفكار البيروني وابن سينا في الجاذبية الأرضية نيوتن ، ومهدت له سبيل الكشف لقانون الجاذبية وتعليل الثقل على الأساس العلمي الحديث(12).
7- في الفلك :
برع العرب في علم الفلك وتقدموا فيه تقدمًا كبيرًا ، وكان علم الفلك يدرس في حماس في مدارس بغداد ، ودمشق ، وسمرقند ، والقاهرة ، وفاس ، وطليطلة ، وقرطبة ، وغيرها(13) وأقاموا له المراصد العديدة التي انتشرت في مختلف البلاد الإسلامية من أواسط أسيا إلى المحيط الأطلسي وكان من أهمها مرصد بغداد الذي دام ازدهاره سبعة قرون من سنة 750 إلى سنة 1450م(14) . وقد توصلوا عن طريق هذه المدارس ، وتلك المراصد إلى معلومات واكتشافات هامة ، منها :
ادخال خطوط التماس في الحساب الفلكي منذ القرن العاشر الميلادي ، ووضع جداول لحركة الكواكب ، وتحديد سمت الشمس تحديدًا دقيقاً ، وتدرجه في النقص ، وتقدير تقدم الاعتدالين(15) تقديرًا صحيحًا ، ووضع أول تحديد صحيح لمدة السنة ، وإثبات مافي أكبر حظ عرض للقمر من ضروب عدم الانتظام ، واستكشاف عدم التساوى القمر الثالث المعبر عنه اليوم بالتغيير(16).
والتوصل إلى نظرية دوران الأرض ، والاسطرلاب ، وكان أنواعاً من التام والمسطح والهلالى والمطبح(17) واختراع آلة الرصد(18) «التلسكوب» والآلة المعروفة بالمثقال التي يعرف بها الأوقات على غير رسم ومثال ، وحددوا في جميع أنحاء الدولة اتجاه القبلة في المساجد تحديدًا دقيقاً ، إِلى كثير من المعلومات الفلكية الهامة .
وبذلك أضافوا إلى الفكر الإنساني معلومات فلكية جديدة لم تكن معروفة من قبل ، وإلى جانب هذه الاكتشافات العظيمة العديدة صححوا كثيرًا من الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها الأغريق(19) وبهذا وذاك استفادت أوربا والحضارات الحديثة فوائد ذات بال في علم الفلك ، مما نشاهد آثارها اليوم ، وما زال علم الفلك إلى الآن ملئ بالاصطلاحات العربية .
وكان من مقدمة رواد الفلك من العرب بنو موسى بن شاكر ، وأبو معشر البلخي (ت 272هـ / 886م) وثابت بن قرة ، والفرقاني ، والبوزجاني، والبيروني وغيرهم ، ممن ترجمت مؤلفاتهم إلى اللغة اللاتينية خاصة ، وكانت مرجع الأوربيين حتى أواخر عصورنا الحديثة .
8 – في الرياضيات :
وجه العرب جانبًا كبيرًا من اهتمامهم بالعلوم إلى الرياضيات . فذاعت دراستها لديهم ونبغوا فيها، وتقدموا في أبحاثها تقدمًا سريعًا جوهريًا ، وأضافوا إلى ما نقلوه عن اليونان والهنود الكثير مما لم يكن معروفًا من قبل .
ترجم العرب رسائل هندية في الفلك وعنها عرف العرب الأرقام الهندية التي هذبوها وسلموها إلى أوربا فعرفت باسم الأرقام العربية . وقد استخدم محمد بن موسى الخوارزمي هذه الارقام في جداوله الرياضية وقد اطلق اسمه على الطريقة الحسابية التي تقوم على النظام العشرى ، كما أنه أسهم في تقدم الحساب والجبر بكتابه المنظم المبتكر «حساب الجبر والمقابلة» وقد نقله إلى اللاتينية في النصف الأول من القرن الثاني عشر «ادلار أوف بات» الذي درس العربية في مدارس الأندلس ، ونشره تحت عنوان «الفورتمي» نسبة إلى اسم صاحبه العربي .
وفي عام 976م رأى محمد بن أحمد الخوارزمي (ت 387هـ/997م) في كتابه «مفاتيح العلوم» أن العمليات الحسابية اذا خلت من رقم في مكان العشرات ، تعين وضع دائرة صغيرة حتى تساوى الصفوف ، وأطلق على هذه الدائرة اسم «الصفر»، والصفر يعتبر من أخطر النظريات التي اهتدى اليها العقل البشري في الرياضيات ، وفضل العرب فيه عظيم ، يقول المؤرخ «أير» «إن فكرة الصفر تعتبر من أعظم الهدايا العلمية التي قدمها المسلمون إلى عرب أوربا «والواقع أن علامة الصفر خطوة عظيمة الأهمية في تصحيح الحساب» .
وقد استعمل العرب (الصفر) للدلالة على (لاشيء) كما يبدو من بيت الشعر الذي جاء في قصيدة لحاتم :
ترى أن ما أهلكت لم يك ضرنى
وأن يدى ما بخلت بــــه صفر(20)
وكما ساعدهم نظام الأعداد العربية على إدراك الكمال في الطرق الأولية للحساب فإن معرفتهم خصائص الأعداد الفردية والزوجية ، وما بينهما من العلاقات ساعد على استخراج الجذور التربيعية والتكميلية(21).
* * *
الهوامش :
- ابن الأثير : أسد الغابة 7/110 .
- جاءت كلمة الصيدلة من أصل هندي ، واللفظ «صدلي» منقول إلى العربية من الهندية من لفظ «جندنانى» والجندن وهو الصندل ، وكان الصندل الهندي من العطور المعروفة عند العرب ، واستعمله الهنود دواءً ردحًا من الزمن .
- رياض رمضان العلمي : الدواء من فجر التاريخ إلى اليوم . الكويت 1408هـ . ص 37-39 .
- بول كراوس : جابر بن حيان : المجلد الثاني ، ص 10 .
- ابن خلدون : المقدمة ، ص 504 .
- بارتنجتن : موجز تاريخ الكيمياء ، ص 29 .
Partington, J.R. “Ashort History of Chomistry, Now York, 1960 P.29.
- جورج سارطون : مقدمة لتاريخ العلم . المجلد الأول ، ص 587 .
- المصدر نفسه : وانظر أيضا و. س. دامبيير: تاريخ العلم، ص81 .
- عزة مريدن : فضل العرب على الانسانية في الميادين العلمية. محاضرة نشرها المجلس الأعلى للعلوم عام 1961، ص 9-16.
- وصف العلامة مصطفى نظيف ابن الهيثم بأنه يأتي «في المقدمة بين علماء الطبيعة النظرية بما وضع من ظواهر الضوء . وأن أثره في العلم لا يقل عن أثر نيوتن في علم الميكانيكا» . انظر حميد موراني وعبد الحليم منتصر : قراءات في تاريخ العلوم عند العرب، ص 127-128 .
- جوان فيرنيه : الرياضيات والفلك والبصريات في (تراث الإسلام) ترجمة حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد : الجزء الثاني ، ص 340 .
- عباس محمود العقاد : أثر العرب في الحضارة الأوربية، ص40.
- الفونس ايتين رينيه : محمد رسول الله ، ص 375 .
- جوستاف لوبون : حضارة العرب ، ص 481 .
- الاعتدالان : الاعتدال الربيعي هو اليوم الحادي والعشرون من مارس من كل عام حيث يتساوى فيه الليل والنهار ، والاعتدال الخريفي مماثل يقع في الثالث والعشرين من سبتمبر .
- جوستاف لوبون : حضارة العرب ، ص 481 .
- انظر مادة اسطرلاب القيمة التي كتبها نللينو في دائرة المعارف الإسلامية ج2، ص 114-118 .
- يصفه أبوالحسن الذي اخترعه بأنه أنبوب مثبت في طرفيه عدسات .
- قاس الفلكيون العرب زمن الخليفة المأمون محيط الكرة الأرضية وتوصولوا إلى الرقم 41248 كيلو مترا، وهو مقارب جدًا للرقم الحقيقي البالغ 4000 كم ، وصححوا بذلك الرقم الأغريقي وهو 38340 كم . كما عرف الفلكيون القدماء قطر الأرض وقدروه بالرقم 7636 ميلاً تقريباً وبذلك يكون نصف القطر عندهم 3818 ميلاً تقريبًا (انظر ماذكره ابن ستة في «القول في الأجرام والأبعاء» الاعلاق النفسية، ص 17-20.
- جورج يقوب : أثر الشرق في الغرب ، ص 22-24 .
- ى. هل: الحضارة العربية ترجمة ابراهيم العدوى ، ص 108.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1426هـ = يونيو – يوليو 2005م ، العـدد : 5 ، السنـة : 29.