إشراقة 

       كثيرًا ما سمعنا الناس يقولون : اجتهدتُ كثيرًا ، حتى سَعـدْتُ بالفضل الذي أَسْعَدُ به ؛ اجتهدتُ كثيرًا ، حتى حصلتُ على ما حصلتُ عليه من المال ، وحقّقتُ ما حقّقتُه من الثروة المغنية ووسائل الحياة المريحة ؛ كثّفتُ الجهد ، حتى فزتُ بالعـزّ الاجتماعيّ ، والمكان السياسيّ ، والرتبة العلمية ، والثقة الدينية ، التي أتمتع بها وأُكَرِّسُها لخدمة المجتمع وإفادة الأمة ونفع الخلق ؛ بالغتُ الجهدَ حتى صرتُ كلَّ شيء وكنتُ من قبلُ لاشيئًا؛ لم آلُ جهدًا حتى وصل إلى ما وصل إليه أبنائي من الوظائف المُحْتَرَمَة والمناصب المرموقة ؛ لأني أخذتُهم بالتعليم العالي ، والتثقيف المطلوب ، والتربية الشاملة الكاملة ؛ اجتهدتُ كلَّ الاجتهاد ، حتى بلغت هـذه المؤسسة أو هذه المنظمة أو هذه الجمعية أوجَها الذي تراها فيه ؛ اجتهدتُ اجتهادًا لا اجتهادَ بعده ، حتى تقدّمت البلاد ، ونهضت الأمة ، وانتفع الشعب بالمُعْطَيَات الحضارية والعلمية ، والاكتشافية والاختراعية ، والاقتصادية والصحية ، والصناعية والتجارية ، والزراعية والثقافية ، التي لم يكن له بها عهد ، والتي بفضلها تسير البلاد اليوم بخطى حثيثة نحو الازدهار والرخاء والنماء ؛ بذلتُ كل ما في وسعي ، حتى صرتُ متحليًا من العلم بما لم يتحلَّ به غيري من الزملاء والأقران ، الذين أهدروا الوقت ، وأضاعوا فرصةَ العمر .

       إجتهدتُ بالغًا ، حتى شهدتْ – مثلاً – اللغة القومية تطورات هائلة وأساليب حديثة كثيرة للاستخدام ، يتسابق الشعب إلى تعلّمها وتبنّيها ، والنطق بها ، والكتابة فيها ، وإنجاز الأعمال الدراسية حولها ، واختيارها لغةً للعلم والثقافة ؛ اجتهدتُ بما لا يُتَصَوَّر فوقه ؛ فازدهرت البلاد علمًا وفنًّا وثقافة وأدبًا ولغة وبحثًا ، وإلاّ فكان الشعب يعاني تداعيات سيئة للأمية والجهل . إن جهوده الجبارة أثمرت ، فقامت في أقطار البلاد وقراها ومدنها أنظمة دقيقة للتعليم والتدريس ، وانتشرت شبكة المدارس والكتاتيب ، ووُجدت كليات وجامعات راقية ، وأقبل الجيل الجديد على التسلّح بالعلم والتَحلّي بالمعرفة ، وإلاّ فكان الأطفال ضائعين بين الأمية وفقدان التربية ، وكانوا لايجدون وسيلة لتعلم الأبجديات . لقد بذلتُ مساعي مشكورة ، فعاد أفراد الشعب يعيشون اليوم كإنسان يعرف آداب الإنسانية ، وقد كانوا من قبل يتسكعون كالأنعام .

       في هذه القضايا وغيرها ، يجوز أن يكون جهدُ الإنسان قد ساهم في تحقيق بعض ما أشار إليه أصحابه ، وعدّده في تَباهٍ ، وأشاد بذكره في اعتزاز ؛ لكنّ الفضل فيه إنما يعود رأسًا إلى الله عزّ وجلّ ، وإلى ما يكرمه به الإنسان من التوفيق واتّخاذ الأسباب المؤدّية إلى تحقيق ما يحقّقه إذا شاء الله أن يحقّق .

       الإنسان يقول : إنّه اجتهد ، فاستطاع أن يحقق كذا وكذا ؛ ولكنه ينسى أن يتذكّر من وفّقه للاجتهاد الذي تسبّب في تحقيق ما حقّق ؛ ثم ينسى أن يتذكّر من أكرمه بالعقل والتفكير والصحة والأعضاء والجوارح ، ثم وفّقه أن يستخدم ذلك كله لينجز ما أنجز . إنّه هو الذي هَيَّأ له الأوضاع ، وسَخَّرَ له الأحوال ، وجَعَلَ الملابسات مواتية له ، وإن كانت مناوئة يبدو أنّها ستحول دونه و دون كل عمل مخطّط ، وكل مشروع مراد تحقيقُه .

       إنّك تقول : حقّقتُ المكاسب الكبيرة ؛ لأني سعيتُ لها كلَّ السعي ، وأعملتُ لها كلَّ ما كان لديّ من رصيد التفكير ، ووظّفتُ لها كلّ حيلة ، وتأتّيتُ لها بكل سبب ؛ لكنك تنسى أن تتذكر الذات الإلهية التي مكنتْ ذهنك من التفكير ، وفكرك من التخطيط ، وجوارحك من التحرك المطلوب للمستوى المطلوب وللمدة المطلوبة .

       مثلا : تقول : قد أخذتُ أولادي بالتعليم العالي والتثقيف الرفيع ، والتربية القصوى . وماذا كنت تصنع إذا لم يتوفّروا على التعلّم ، ولم ينصرفوا إلى الدراسة ، ولم يحرصوا عليها الحرص الذي يضمن الأهلية ، ويكسب الملكة الراسخة ؛ أو ماذا كنتَ تصنع إذا كانت المـدرسة مُهْمِلَـةً لا تعتني بالمستوي الدراسي ، وإنما تهتمّ بالشكل والمظهر، والزيّ المدرسي ، والترتيبات الظاهرية ؛ أو ماذا كنتَ تصنع إذا لم تقدر أنت على دفع الرسوم المدرسية ، وشراء المقررات الدراسية ، وتوفير القرطاسية والمواد الكتابية والمستلزمات التي لابدّ منها للطالب ؟ أو ماذا كنتَ تصنع إذا مَرِضَ أولادك أثناء الدراسة لمدة كافية بشكل أرغمهم على الانقطاع عن الدراسة وسبّب ضياع عام أو عامين أو أكثر من أعوامهم الدراسية ، ففاتهم القطار الدراسي وبقوا عاجزين عن استكمال الدراسة ؟.

       كلُّ ذلك أو بعضه أو غيره كان بالإمكان أن يحدث ، فيُضَيِّع عليك الأماني ، ويُفْشِل عليك مُخَطَّطَك ، وتبقى مُتَحَسِّرًا تتجرع الأسف ، وتلتقم الحزن ، وتُقَلِّب جنبي اليأس والإحباط .

       إن إرجاع الفضل في شأن مطالب الحياة ، ومُنْجَزَات العمل ، ومكاسب الجهد ، إلى الاجتهاد الشخصي والمؤهّلات الذاتية ، إنّما هو طريق الكفـرة الفجرة الذين قديمًا قال أحد نقبائهم : «إِنَّمَا أُوْتِيْتُـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي» (القصص / 78) . فالسعيدُ من يعزو كل خير يحقّقه بكل ما يبذله من الجهد ويقوم به من العمل ويُعْمِله من التفكير ، إلى توفيق الله عزّ وجلّ ، ويعتبره حقًّا من فضله تعالى وكرمه سبحانه ، ويرى حقًّا أنّه تعالى هو الذي أَكْرَمَه بالتفكير والعمل والتحرك ، وهَيَّأ كذلك الأسباب والوسائل ، وَمَهَّدَ له الطريق ، وأزال الموانع ، ووفّر له التسهيلات . ولو شاء لأَمَرَ جنودَه في السماوات والأرض أن تعترض طريقَه إلى التفكير فالعمـل ؛ ولكنه لم يصنع ذلك ، وإنّمـا أَمَرَهَا – جنوده – أن تتعاون معه ، وتُسَهِّلَ له الطريق ، وأن تكون أدوات له إلى تنفيذ مهمته وتحقيق ما يريد تحقيقه من مطالبه .

       العمدة في كل عمل جدير بالذكر هو التوفيق الإلهي ؛ فهو الذي يعين على التخطيط الذهني ، فالعمل والاجتهاد ، ومواصلة الجهد لوقت مطلوب لتحقيق عمل وتنفيذ خطّة . خسارةٌ أيُّ خسارة أن يرجع الإنسان الخير الذي يحققه في حياته إلى عمله وجهده ويراهما مُؤَثِّرين وحدهما فيه ومُنْتِجَيْنِ له ، ويرى أنّ سعيه هو الذي كان فاعلاً في المأثرة التي أنجزها ، ولاشيء وراءه كان له أي فضل في وجودها .

       الإيمان بأن جميع الحسنات التي عَمِلَها الإنسان إنما كانت بفضل توفيق الله وحده الذي أزال عن طريق تحقّقها جميع المتاريس ، ووَفَّرَ لوجودها جميع الأسباب هو طريق المؤمنين وأسوة الأنبياء والمرسلين – عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام -. ولوشاء الله لصنع العكس ، فكَثَّفَ الموانـع ، وأزال الأسباب ، ولم يحتج تعالى لذلك إلى كبيرِ عمل ، وإنما يكفيه دائمًا أن يقول لشيء: كُنْ فيكون ؛ فالحمد لله الذي يُوَفِّقُ لكل خير، وَيُجَنِّبُ كلَّ شرّ ، وإذا أراد لأحد أن يقوم بخير ، هيّأ له أسبابه ، وسَهَّله عليه بشكل قد يبقى حيران ، ويعود مستعجبًا لوقت طويل . سبحانه ما أعظم شأنه !.

(تحريرًا في الساعة 12 الجمعة 22/ صفر 1426هـ أول أبريل 2005م)

أبو أسامة نور

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.

Related Posts