الأدب الإسلامي
بقلم : أ. د. جمال الدين عبد العزيز شريف(*)
توطئة:
إنّ التناسب والانسجام من أهم الخصائص والسمات التي يتحقّق بتحققها الجمال وينتفي بانتفائها؛ إذ لابد لكل عمل بديع وصنعة مستحسنة من وجود آصرة تجمع المختلف منها والمؤتلف والمتشابه فيها والمتباين، ولا ريب أنّ النظم المحكم والرصف المتفرد والبناء المتلاحم من أخصّ خصائص القرآن وأدق صفاته، حيث أنه ما سمى «قرآناً» إلا لسبب مخصوص وغرض معين؛ وهذا الغرض إنما هو دلالته في اللغة على الضم الرائع والتأليف المتفرد والرصف الذي ليس له مثيل ؛ فكلمة (قرآن) نفسها في اللغة العربية تدلّ على الترابط والتناسب والانسجام ، فهي مصدر من الفعل (قرأ) بمعنى: جمع وضم؛ يقول عمرو بن كلثوم:
تُرِيكَ، إذا دَخَلتَ على خَلاَءٍ
وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونَ الكاشِحينَا
ذِراعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَــاءَ بِكْـرٍ
هِجانِ اللون لم تَقــرأْ جَنينا
ولم تقرأ جنيناً بمعنى: لم تضم في رحمها جنيناً(1)، وقال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) «سورة القيامة 17» أي: جمعه وضمه كما ذكر علماء اللغة والمفسرون(2).
ومن خصائص القرآن التي لا يخطئها المتأمل تناسبه وانسجامه وأخذ بعضه بحجز بعض، وهذه الصفة ليست صفة ثانوية هامشية بل هي في غاية الأهمية والعظم؛ إذ فيها يكمن سرّ الإعجاز ودقائق المعاني كما أشار العلماء المحققون؛ فالنظم القرآني نظم شديد الترابط والتناسب والانسجام فلا اختلاف فيه ولا تنافر، وذلك لأن القرآن أحسن الحديث وأجود الكلام وأرفعه؛ وليس ذلك فحسب؛ بل إن هذا النظم المنسجم من أعظم وجوه الإعجاز القرآني؛ إذ إن صفة الترابط والتناسب والانسجام هذه هي التي تميّز نظم القرآن عن سائر نظوم البشر، وهي دلالة على أنه من عند الله؛ إذ لو كان من عند غيره لما سلم من الاختلاف والتنافر؛ قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) «النساء:82» وبمفهوم المخالفة – كما يقول الأصوليون – فإنه لما كان من عند الله فقد وجدوا فيه انسجاماً وتناسباً وتعاضداً وتماسكاً لا يكون لسواه من أنواع الكلام على إطلاقها.
ولقد عرف العرب البلغاء الأوائل هذه الصفة في القرآن، ويُرْوىٰ أن أعرابياً في زمان عمر بن الخطاب سمع رجلاً يقرأ خطأً: «فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم» فقال الأعرابي: لايكون(3)، وذلك لعدم المناسبة بين الجملة الأولى والثانية؛ إذ إن الضلال بعد معرفة الهدى لا يُقابَل بالغفران والرحمة، والصحيح في القرآن هو: (فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) «البقرة 209».
وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم أهمية النظم والسياق في معرفة المعنى وإدراك الدلالات القرآنية؛ يقول ابن مسعود: (إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ آية كذا وكذا فليسأله عما قبلها وعما بعدها)(4) وبهذا أشار ابن مسعود إلى منهج النظم السياق، ويعضّد ذلك ما قاله مسلم بن يسار: (إذا حُدِّثْتَ عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده)(5).
ولا شك أن معرفة المعنى من خلال السياق وإدراكه من النظوم والتراكيب ليس منهجاً جديداً ولا أسلوباً محدثاً ولا طريقةً مبتكرةً؛ وإنما هو أمر ثابت معروف ، وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم واستخدمه في استدلالاته؛ ومن ذلك ما روى الترمذي من أن عائشة رضي الله عنها قد سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ: ثم قرأ بعدها: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)(6) وقد دلّ هذا الحديث بصورةٍ واضحةٍ لا لبس فيها ولا خفاء على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استشهد بالنظم والسياق وأعمله في بيان المعنى المراد عند وصله للآية المسئول عنها بما بعدها.
وللمكانة المنهجية العظمى التي يحتلّها النظم ولكونه أمراً ضرورياً في استنباط المعاني وضبطها فقد حفل به المفسرون، إذ أشار الزمخشري إلى أنه أهم ما يجب على المفسر معرفته(7)؛ وما ذاك إلا لأن الأسرار والمعاني واللطائف القرآنية كامنة فيه، يقول الإمام الرازي: (أكثر لطائف التفسير مودَّعة في الترتيبات والروابط)(8)
تأريخ دراسة النظم القرآني:
ذهب إبراهيم بن سيار النظام مذهباً عجيباً؛ حيث زعم أن سر الإعجاز القرآني ليس في نظم القرآن وإنما في معانيه المجردة وفي إخباره عن الغيوب(9)؛ وبذلك قصر الإعجاز على وجهٍ واحدٍ؛ يقول الشيخ محمد رشيد رضا عن رأي النّظام: (هذا رأي كسول أحب أن يريح نفسه من عناء البحث وإجالة قدح الفكر في هذا الأمر)(10) ويقول الشيخ محمد عبد الله دراز – عن رأي النّظام -: (هو – وإن كان اعترافاً في الجملة بصحة الإعجاز – إلا أنه لا يقول به إلا من لم يذق للبلاغة طعماً)(11) ويقول محمد عليّ الصابوني: (ولعمري هذا قول من لم يتذوق طعم البلاغة ولا عرف أسرارها؛ بل هو قول من لم يدر من العلوم إلا قشوراً لا تسمن ولا تغني من جوع)(12). وإذا كان النّظام قد عوّل على المعاني والإخبار بالغيوب غير معتد بالنظم؛ فإن تلميذه عمرو بن بحر الجاحظ قد نظر وبحث واستقصى؛ حتى أقام الدليل الساطع والحجة النيرة على معجزة النظم القرآني، وقد ألف الجاحظ كتابه «نظم القرآن» رداً على أستاذه النظام فقال فيه: (فلم أدع فيه مسألة… لأصحاب النّظام ومن نجم بعد النّظام ممن يزعم أن القرآن حقّ وليس تأليفه بحجة وأنه تنزيل وليس ببرهان ودلالة)(13) وبذلك يُعتبر الجاحظ أول من ألّف في نظم القرآن، ولا يعني هذا أنه أول من اكتشف قانون النظم؛ إذ إن الأمر معروف عند العرب كما سيأتي. وقد جاء بعد الجاحظ علماء وبلاغيون أثبتوا أن النظم من أهم وجوه الإعجاز القرآني؛ فذهب الخطابي إلى أن من وجوه الإعجاز: النظم الذي هو وضع كلّ نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأشكل به(14)، وذهب الباقلاني إلى أن من وجوه الإعجاز بديع النظم وعجيب التأليف في البلاغة(15)، وذهب القاضي عبد الجار الهمداني إلى أن من وجوه الإعجاز الضمّ: وهو ضمّ أفراد الكلم إلى بعضها وكذلك الموقع: وهو أماكن وضع المفردات من التركيب(16).
والحق أنه ما من نظريةٍ في دراسة الإعجاز القرآني قد بلغت من التفرّد والتميّز والقوة والدِّقة ما بلغت نظرية عبد القاهر الجرجاني «نظرية النظم»؛ تلك النظرية المنهجية العظيمة التي كان لها صدى في الآفاق عالٍ ومكانة في العلم رفيعة، ولما كانت هذه النظرية على ذلك القدر من الأهمية – في العلم – فلا غرو أن يكتب لها من الثناء والتقدير ما لم يكتب لسواها من النظريات في هذا المضمار؛ وقد كان للسفرين الذين أورثهما هذا الإمام الفذّ للأمة الإسلامية أثر في العلم بالغ؛ إذ أشاد بجهده المتقدمون والمتأخرون؛ إذ ما من عصر من العصور المتعاقبة ولا من حقبة من حقب التأريخ بعده، إلا وفيها من الأئمة الكبار والعلماء الأفذاذ من يعلي شأنه ويعظِّم جهده ويشير إليه إشارة من يدل على موضع الفائدة لتُطلب ومكان الكنز ليُخرج، وليس ذلك فحسب بل ظهر من العلماء من استند على جهد الجرجاني فغدوا- بذلك- في العلم أئمةً أعلاماً؛ نحو الإمام الزمخشري المفسّر وابن الزملكاني البلاغي وغيرهما. ولما لم يقتصر التنويه بجهد الجرجاني على زمن مخصوص؛ ولما لم تنحصر الإشادة به في بقعةٍ معينةٍ؛ فإننا نجد رواد الإصلاح وغيرهم في المشرق والمغرب يعنون به غاية العناية ويولوه من الاهتمام ما يستحق، ومن هؤلاء المهتمين الشيخ محمد رشيد رضا والإمام محمد عبده والإمام محمد الطاهر بن عاشور والعلامة محمد محمود التركيزي؛ ويقول الإمام محمد عبده عن كتابه «أسرار البلاغة»: (لم أر كتاباً في هذا الفن بقلم متأخر ولا بقلم متقدم يقرب هذا الكتاب)(17) وليس ذلك فحسب بل إنّ الإمام محمد عبده والعلامة التركيزي لما أحسا بالقيمة العظيمة للدلائل وأنّ حاجة الفكر الإسلامي إليه ماسة قاما بتصحيحه وتحقيقه؛ ويعلِّق العلامة محمود محمد شاكر على ذلك بقوله: (وناهيك بكتاب اجتمع على تصحيح أصله علامتا المعقول والمنقول)(18)، ومن جهة أخرى يقول الأديب الشهير محمد مندور: (إنني لا أعدل بكتاب «دلائل الإعجاز» كتاباً آخر)(19) وقد عالج عبد القاهر الجرجاني نظم القرآن في كتابه «دلائل الإعجاز» هذا بصورة لم يسبق إليها؛ يقول(20)
إني أقول كلاماً لست أخفيــه
ولست أرهب خصماً إن بدأ فيه
ما من سبيل إلى إثبات معجـزة
في النظم إلا بما أصبحت أبديـه
مكانة النظم عند بلغاء العرب:
إن انسجام النظم وتناسبه وتعاضده وتماسكه – وإن بلغ في القرآن شأواً بعيداً لا يُدرك – إلا أنه صفة كل تعبير بليغ متميز، وهذه التعابير البليغة المتميزة التي نشير إليها – في نفسها- على درجاتٍ ومراتبَ، وهي في أسمى حالاتها وأعلى مراتبها تتقاصر تقاصراً بيّناً عن إدراك مرتبة القرآن، وهي حين تكون في تلك المراتب العالية فإن نظومها تتماسك تماسكاً لا يصلح معه غير ما قيل فيها؛ فإذا كانت شعراً مثلاً وأُنشد شطر منه على مبرّز في البلاغة توقّع تمامه، وقد حُكي أن ابن أبي ربيعة جلس إلى ابن عباس رضي الله عنه، فأنشده:
شطّ غداً دارُ جيراننا
فقال ابن عباس:
وللدّارُ بعدَ غدٍ أبعدُ
فقال له عمر: هكذا والله صنعت(21)
ويقرب من هذه القصة قصة عدي بن الرقاع العاملي حين أنشد الوليد بن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق قصيدته التي مطلعها:
عَرِفَ الدّيَارَ تَوَهُّماً فاعتَادَها
حتى انتهى إلى قوله:
تُزْجِي أَغنَّ كأنَّ إبْرةَ رَوْقِهِ
ثم شغل الوليد عن الاستماع، فقطع عدي الإنشاد، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يقول؟ فقال جرير: أراه يستلب منها مثلاً، فقال الفرزدق، إنه سيقول:
قَلَمٌ أصَابَ مِن الدَّواةِ مِدادَها
فلما عاد الوليد إلى الاستماع وعاد عدي إلى الإنشاد قال:
قَلَمٌ أصَابَ مِن الدَّواةِ مِدادَها
فقال الفرزدق: (والله لقد أشفقت عليه فلما قالها انقلبت الشفقة حسداً)(22)
سر الإعجاز في النظم:
من المعاني التي تشير إلى تناسب النظم القرآني معنى «الإحكام»؛ وقد ذكر الله تعالى أن القرآن كتاب أحكمت آياته، وذهب المفسرون إلى أن من معاني الإحكام: الإحكام في النظم والرصف والتأليف(23)، ولما كان الأمر على هذا الوجه فإنّه ينبغي مراعاة هذه الصفة التي عليها القرآن عند التعامل معه.
وإذا كان الضم الحسن والنظم المتفرد والرصف الرائع والتأليف البديع من أبرز سمات القرآن وأظهر خصائصه، فهو أيضاً من أهم الحصون التي تدفع عنه التبديل وتمنع عنه شائبة التحريف والتغيير؛ إذ إن القرآن لكونه دقيق النظم وثيق الروابط حساس البنية فهو غير قابل لما هو ليس منه على الإطلاق، والفرق كبير وشاسع بين النظم الإلهي والنظوم البشرية الأخرى؛ ولأجل ذلك يقول الجاحظ: (وفرق بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه)(24)؛ ولهذا فإنّ القرآن -لدقة النظم وإحكامه – لا يمكن أن يدخل فيه ما ليس منه؛ يقول الإمام القرطبي: إن آياته قد: (نظمت نظماً محكماً لا يلحقها معه تناقض ولا خلل)(25).
ولما كان النظم بهذه الصفة وكان من الأهمية في هذا المكان السامي الذي ذكرنا فقد وجب الاعتناء به وتوجيه الاهتمام إليه؛ ولأجل ذلك مال المفسرون والبلاغيون إليه وعدوه أصلاً للإعجاز ومناطاً للتحدي؛ فالقرآن لتناسبه الشديد لا يستطيع الفصحاء والبلغاء الإتيان بمثله في النظم والتأليف؛ فهو نص إلهي متماسك الأجزاء؛ متلائم التراكيب؛ آخذ بعضه بحجز بعض، الأمر الذي تجد خلافه في نظوم البشر وتآليفهم.
فالنظم إذن هو الذي يحدد جمال الكلام أو عدمه؛ فالكلام الجيد المتميز هو الذي حسنت نظومه وتراكيبه، والكلام الردئ هو الذي ساءت تراكيبه ونظومه، وليست العبرة بالمفردات اللغوية المجردة خلافاً لما يقول أصحاب اللفظ في البلاغة العربية، ويسلك عبد القاهر الجرجاني مسلكاً فريداً في إثبات هذا المعنى؛ إذ يأتي بلفظين أحدهما: حسن جميل؛ والآخر: خشن غير لطيف – حسب قواعد اللفظيين – فيستقرئ هذين اللفظين داخل النظوم العربية؛ فيجد هذين اللفظين – على تفاوتهما حال الإفراد – على هيئةٍ واحدةٍ؛ إذ يحسنان تارةً وينالهما القبح وتعتريهما الشناعة حسب موقعهما من النظم والتركيب تارةً أخرى، وبذلك لم يترك الجرجاني لهؤلاء اللفظيين من الدعاوى ما يتكئون عليه، يقول في ذلك: (ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضعٍ؛ ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضعٍ آخر؛ كلفظ: «الأخدع» في بيت الحماسة:
تلفتّ نحو الحي حتى وجدتني
وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وبيت البحترى:
إنِّى وإن بلغتني شرف الغنى
وأعتقت من رق المطامع أخدعي
فإنّ لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن؛ ثم أنّك تتأملها في بيت أبى تمام:
يا دهر قوم أخدعيك فقد
أضججت هذا الأنام من خرقك
فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة ومن الإيناس والبهجة.
ومن أعجب ذلك لفظة «الشيء» فإنّك تراها مقبولةً حسنةً في موضعٍ وضعيفةً مستكرهةً في موضعٍ آخر؛ وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى قول عمر بن أبى ربيعة:
ومن مالئ عينيه من شئ غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقول أبى حية:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة
تقاضاه شئ لا يمل التقاضيــا
فإنّك تراها تقل وتضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم. وهذا باب واسع فإنّك تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلماً بأعيانها؛ ثم ترى هذا قد فرع السماك وترى ذاك قد لصق بالحضيض، فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم – لما اختلف بها الحال؛ وكانت إما أن تحسن أبداً أو لا تحسن أبداً )(26)
ولما كان الأمر على الوجه الذي ذُكر – فإنه قد ثبت أن لكل نظمٍ وسياقٍ مفردات تناسبه؛ ومن أمثلة ذلك أنك ترى القرآن يصف الأرض في موضعٍ بأنها (هامدة) ويصفها في موضعٍ آخر بأنها (خاشعة)، وما كان ذلك كذلك إلا لسببٍ مخصوصٍ وغرضٍ معينٍ؛ وهو اختلاف النظوم باختلاف المعاني العامة؛ إذ ذكر الأرض (هامدة) مع ذكر البعث والإحياء؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْـمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) «الحج: 5». أما ذكر الأرض (خاشعة) فقد جئ به في سياق التسبيح والذكر وسجود الملائكة للخالق العظيم؛ قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) «فصلت 37- 39» وسياق الآية سياق مهيب يبعث في النفس الخشوع والخضوع.
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى في سورتي إبراهيم والنحل: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا) وقد ختمها في سورة إبراهيم ختماً مختلفاً عنه في سورة النحل؛ إذ أن السياق والنظم ليس واحداً، لأن الله قد وصف في سورة إبراهيم الإنسان وما فيه من ظلم وإنكار لفضل المنعم؛ ثم قال: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَتُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) «إبراهيم34» أما في سورة النحل فقد وُصف الله وذُكرت صفاته وأُثبتت ألوهيته؛ ثم قال: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) «النحل 18».
وقد وصف الله الحياة الدنيا في سورتي يونس والكهف بقوله: (..مثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) ولكنه أطنب في سورة يونس وأوجز في سورة الكهف، وما ذلك إلا لاختلاف النظمين، ففي سورة يونس كان السياق يصوّر استغراق الإنسان في الحياة الدنيا وأن الله لا يعجل للناس بالشر استعجالهم بالخير، وقد صُوّرت الأرض – في هذا السياق – وكأنها عروس مجلوة وأهلها مزهوون بها يظنون أنها بجهدهم قد أزينت وازدهرت لا يغيرها عليهم مغير ولا ينازعهم فيها منازع، وهذا النظم يصوّر بذلك حالة الخصب والنشوة والفرح والاطمئنان الواثق(27)، ولهذا أطال في العرض؛ فقال: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) «يونس: 24» أما في سورة الكهف فقد كانت الأحداث في النظم كلها سريعةً خاطفةً؛ إذ انتقل من مشهد الدمار الذي حاق بالجنتين إلى ضرب المثل للحياة الدنيا كلها، فإذا هي سريعة قصيرة؛ قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) «الكهف:45» والماء هنا لم يُذكَر أكلُ الناس والأنعام مما أنبت، ولم يُذكَر أيضاً ازديان الأرض وزخرفتها به كما ذُكر في سورة يونس، وإنما نزل هذا الماء فلم يلبث أن اختلط به نبات الأرض حتى أصبح هشيماً خفيفاً تحمله الرياح ولا فائدة منه.
والإعجاز – عند الجرجانى – لا يتركز في المفردات المجردة بل في النظم الذي هو سمة دقيقة يكون بها التفاضل بين البلغاء؛ فجودة التراكيب وجمال النظوم يرفع الكلام درجاتٍ عاليةً؛ فإذا انسجمت المفردات وتناسبت الكلمات وقويت الرابطة حتى تناتج الفضل ما بينها وحصلت المزية من مجموعها، فإنّ تلك هي البلاغة الكاملة؛ ويمثِّل الجرجانى لذلك بقوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْـمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) «هود: ٤٤» حيث إنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة الباهرة إلا لأمرٍ يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وإن شككت فتأمّل: هل ترى لفظةً منها لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدَّتْ من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟ قل «ابلعي» واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها وكذلك اعتبر سائر ما يليها: (وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء بـ«يا» دون «أي» نحو «ياأيتها الأرض»، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال «ابلعي الماء»، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها – نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصّها، ثم أن قيل «وغيض الماء» فجاء الفعل بصيغة «فعل» الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمرٍ وقدرة قادرٍ، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: (واسْتَوَتْ عَلَى الجُوْدِيِّ)، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة «قبل» في الخاتمة بـ«قبل» في الفاتحة؟ أفترى لشيءٍ من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقاً باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كلّ ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟ فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة وأن الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها وما أشبه ذلك؛ مما لا تعلّق له بصريح اللفظ)(28)
وهذا هو سرّ تفاضل البلغاء في الكلام البليغ؛ فكلما ارتفعت الدرجة في البلاغة كان الكلام أكثر تماسكاً وانسجاماً، حتى يصل الأمر إلى مرتبة الإعجاز التي انفرد بها القرآن عن سائر أنواع الكلام.
ولا يقتصر الجرجاني في دراسته العظيمة للإعجاز على ترابط الألفاظ المفردة فحسب؛ بل يتعداه إلى الربط بين الجملة والجملة؛ ويصف هذا العلم المتعلّق بربط الجمل بأنّه: خفي وغامض يقول: (اعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: إنه خفي غامض ودقيق صعب – إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب)(29) ولصعوبة هذا العلم ودقته بولغ فيه حتى قيل إنّه هو البلاغة نفسها؛ يقول الجرجاني: (اعلم أنّ العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة تستأنف واحدة بعد أخرى – من أسرار البلاغة ومما لا يتأتى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلص وإلا قوم طبعوا على البلاغة وأوتوا فناً من المعرفة – في ذوق الكلام – هم به أفراد، وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حداً للبلاغة؛ فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: «معرفة الفصل والوصل» وذاك لغموضه ودقة مسلكه وأنه لا يكتمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة)(30)
ولما كان الأمر كذلك فإنّ هذا الربط بين الجمل علم عظيم تتكَّشف عنه من المعاني ما لا يتكشف في سواه؛ وقد ذكر الجرجاني أنّه في غاية الدقة وهو الذي يكون به الانسجام والتناسب؛ فالعطف لا يكون لمجرد التشريك؛ وإنما شرطه أن يكون بين الجملتين ما يربطهما كالنظيرين والشريكين؛ وتكون الأولى بسبب من الثانية؛ فإذا لم يكن ذلك فعطفت على الأول شيئاً ليس منه بسبب ولا هو مما يذكر به لم يستقم؛ فلو قلت: «خرجت من داري وأحسن الذي يقول بيت كذا» قلت ما يُضحَك منه، ومن هذا عابوا على أبي تمام قوله:
لا والذي هو عالم أن النوى
صبر وأنّ أبا الحسين كريم
وذلك لأنّه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ؛ ولا تعلّق لأحدهما بالآخر(31).
ولهذا نبه العلماء إلى ضرورة معرفة تناسب النظم بين الآي والجمل القرآنية؛ وذكر أبو بكر بن العربي المفسِّر أنّ لهذا التناسب أسراراً عجيبة إلا أنه قد قلّ اهتمام الناس به؛ يقول: (ارتباط آي القرآن ببعضها حتى تكون كالكلمة الواحدة؛ مشتقة المعاني؛ منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرَّض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ثم فتح الله عزّ وجلّ لنا فيه؛ فلما لم نجد له حملةً ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه)(32).
دور النظم في تحديد المعاني وإدراك الدلالات:
للنظم دور مقدر وأثر واضح في تحديد المعاني وإدراك الدلالات، وربّ أسلوب من الأساليب أو عبارة من العبارات أفادت حال انفرادها معنى معيناً فإذا انضمت إلى السياق واحتواها النظم والتركيب تغيّر ذلك المعنى بصورةٍ مباشرةٍ، وليس أدلّ على ذلك من الأمر والنهي داخل سياقات القرآن؛ فـ«الأمر» هو طلب الفعل على وجه القطع والأصل فيه هو الوجوب، والنهي هو طلب اجتناب الفعل على وجه القطع والأصل فيه هو التحريم، فإذا دخل هذا «الأمر» في السياق وأحاطت به بعض القرائن فربما صار إلى معنى آخر من تهديدٍ أو إباحةٍ وتخييرٍ، وإذا أردت مثالاً بيناً على ذلك فخذ قوله تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله) «الجمعة:10» فهذه الجملة تدل حال انفرادها على وجوب الانتشار والابتغاء من فضل الله، ولكن ليس المقصود ذلك إطلاقاً إذا نظرنا إلى النظم كله؛ إذ تقدّم – قبل هذه الجملة- حظر الانتشار والابتغاء من فضل الله بقوله: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ) «الجمعة: 9» ولما كان هذا النهي حظراً للانتشار عندما يُنادَى لصلاة الجمعة فإن قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله) قد كان رفعاً لهذا الحظر(33)؛ ولهذا أفاد ذلك داخل هذا النظم معنى الإباحة والتخيير، والمعنى: لكم أن تنتشروا فتبتغوا من فضل الله أو لا تنتشروا، إذ أنكم مخيرون والأمر لكم بعد قضاء الصلاة لا قبلها. ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ) «المائدة:2» فليس هذا أمراً بالاصطياد في الحلّ، ولكنه إباحة له فحسب؛ إذ تقدم في النظم حظره بقوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) «المائدة:1» فدلّ الأمر بعد ذلك على رفع هذا الحظر. ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن.
ولما كان الأمر على ذلك الوجه الذي سبق فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن من أهم الأمور في معرفة مراد الله وإدراك معانيه ومقاصده هو مراعاة النظم والسياق؛ ولهذا يقول ابن القيم عن النظم: (هو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظيره وغالط في مناظراته)(34)، ويقول الشاطبي: (لا بد من رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره؛ وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف)(35)، ويقول ابن تيمية: (ينظر في كل آية بخصوصها وسياقها وما يبين معناها، فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والاستدلال به مطلقاً ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب وطرد الدليل ونقضه فهو نافع في كل علم خبري أو إنشائي وفي كل استدلال أو معارضة من الكتاب والسنة وفي سائر أدلة الخلق)(36)، وبهذا فإن لمراعاة النظم أهمية كبيرة ومكانة عالية في الاستدلال ومعرفة المعاني والدلالات.
النظم يحدد معاني المفردات:
إن المتكلم عندما يرتّب كلامه وينظم أجزاءه ويضم أطرافه حتى يأخذ بعضه بحجز بعض فتقوم بين هذه الأجزاء علاقات وتنشأ وشائج – فإن هذا الترتيب والنظم والضم ما كان إلا لتدل هذه الأجزاء عند تلاقي بعضها وترابط أولها مع آخرها على غرضٍ معينٍ ومقصدٍ مخصوصٍ، ولا شك أن السامع الذي يريد معرفة المعنى الذي قصد إليه المتكلم والمعنى الذي أراده إنما يتتبع أجزاء الكلام ويربط بينها ولا يقتصر على محاولة النظر إلى المفردات بحيث لا يتعداها؛ وإلا انقلب إليه هذا النظر خاسئاً وهو حسير؛ وذلك لأنه لم يدرك للمتكلم معنى ولا فهم له قصداً ولا عرف له مراداً؛ إذ أن المعنى والمقصد والمراد إنما يتأتى فهمه بتتبع أجزاء الكلام واستقصاء أطرافه، وهذا الأمر يصح في كل كلام وكذلك في كلام الله أيضاً.
ولما كان قصد المتكلم لا يتأتى إلا بتتبع أجزاء الكلام والربط بينها فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن من أهم الأمور في معرفة مراد الله وإدراك معانيه ومقاصده هو مراعاة النظم القرآني؛ ولهذا كان هذا النظم من أعظم الأمور التي يجب مراعاتها في التفسير.
ولما كانت المعاني لا تُعرَف إلا من النظوم فإن فهم المعنى الدقيق للمفردات لا يتأتى إلا من خلال ذلك أيضاً، إذ إن النظم يستبعد الاستخدامات الأخرى للفظ ويحدد المعنى المراد تحديداً دقيقاً، وإذا أردت مثالاً واضحاً لذلك فانظر إلى مفردات نحو: (الأصم، الكريم، شك، ثيابه، محرم)، فإنه يمكنك أن تقول في معانيها:
الأصم: الذي لا يسمع
الكريم : المعطاء
شكّ : ضد أيقن
ثيابه: ما يلبسه من الملابس يستر به جسده
محرّم : التحريم ضد التحليل
ولكن رغم كلّ ذلك انظر إليها في قول عنترة:
فشَكَكْتُ بالرّمْحِ الأصَمّ ثِيابَهُ
لَيْسَ الكَريمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ
فشك في البيت: تفيد الطعن بالرمح، والأصم: الصلب الذي لا تجاويف فيه ولا ينكسر، وثيابه: جسده وذلك للمجاورة نحو قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي: جسدك، والكرم هنا: أقرب إلى الرفعة والشرف منه إلى العطاء، ومحرم: مستحيل وممتنع. ألا ترى كيف تغيَّرت دلالات المفردات اللغوية المنسلخة عن النظم عندما انتظمت فشكلت فكرةً متكاملةً ومقصداً معيناً.
وهذه المفردات لم تأخذ معناها الدقيق إلا عندما نظمها السياق وجمعها النظم والتركيب وضمتها العلاقات والروابط؛ ولذلك أمثلة كثيرة جداً من القرآن، ومن ذلك لفظ (أمة) و (كتاب) و (فتنة) و (وحي) و (ذكر) و (قضاء) فهذه المفردات إذا تأملناها في نظوم القرآن العظيم فإننا نجد معناها يختلف من نظم إلى آخر بحسب المعنى العام، ولكننا في هذا المضمار سوف نقتصر على معنى «الأمة» لضيق المجال؛ فلفظ (أمة) في الأسلوب القرآني يعطي دلالات مختلفةً ومعانٍ متباينةً يحددها النظم والسياق، ومن ذلك أن «الأمة» تعني الآتي:
1- المدة من الزمن(37) كما في نظم قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) «يوسف:45» ومثله نظم قوله: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ) «هود:8».
2- الرجل الجامع لصفات الخير الذي يؤتم به(38) كما في نظم قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) «النحل:120».
3- الجماعة من الدواب والطير(39)، كما في نظم قوله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) «الأنعام:38».
4- الدين(40)، كما في نظم قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) «الزخرف:22».
5- الجماعة من الناس(41) لا يجمعهم شيء سوى مصلحةٍ معينةٍ؛ كما في نظم قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) «القصص:23».
خاتمة:
من خصائص القرآن الدقيقة تناسب نظمه وانسجامه، وهذه الصفة يكمن فيها سرّ الإعجاز ودقائق المعاني ولطائفها، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الصفة، وبيّن الصحابة رضوان الله عليهم أهميتها، واعتنى بها المفسرون وعلماء الإسلام أيما عناية، وما ذاك إلا للمكانة المنهجية العظمى التي تحتلها هذه الصفة ولكونها أمراً ضرورياً في استنباط المعاني والأسرار القرآنية.
* * *
الهوامش:
(1) ابن منظور: لسان العرب دار صادر بيروت 1990م .ج 1 ص128، و الطبري: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي: جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط/1 مؤسسة الرسالة، سنة 2000 م، ج 1 ص 96 ،24 ص 68، والقرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ، الجامع لأحكام القرآن ، ط/ دار إحياء التراث العربي بيروت 1985م ج 3 ص 114
(2) لسان العرب ج 1 ص 128، وجامع البيان ج 1 ص 95، ابن كثير : إسماعيل بن عمر : تفسير القرآن العظيم ، تحقيق : سامي بن محمد سلامة ،ط/2 دار طيبة للنشر والتوزيع ، سنة 1999م، ج5 ص 319 ، والجامع لأحكام القرآن ج 19 ص 106، والبغوي : الحسين بن مسعود : معالم التنزيل، تحقيق عثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش ، ط/4 دار طيبة للنشر والتوزيع1417 هـ، ج 8 ص 284
(3) الجاحظ: عمرو بن بحر: البيان والتبيين، تحقيق فوزي عطوي، ط/1 دار صعب ، بيروت، سنة 1968م ، ج 2 ص 339
(4) أبو بكر الصنعاني: عبد الرزاق بن همام : مصنف عبدالرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط/2 المكتب الإسلامي، بيروت، سنة 1403هـ ، ج 2 ص 365
(5) تفسير القرآن العظيم ج1 ص 7
(6) الترمذي: محمد بن عيسى: الجامع الصحيح: سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون، ط/ دار إحياء التراث العربي ، بيروت، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: سورة المؤمنون ، حديث رقم 3175 ، والجامع لأحكام القرآن ج12 ص 132، وتفسير القرآن العظيم ج 5 ص 480
(7) الزركشي : البرهان في علوم القرآن ، ج 1، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط / دار الجيل القاهرة 1988م ، ص36
(8) المصدر السابق
(9) البغدادي : عبد القاهر : الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم ص 85.: تصحيح محمّد زاهد الكوثري ط/القاهرة ص 143، والشهرستاني :محمد عبد الكريم بن أبي بكر :الملل والنحل ، ط/الأولى دار الفكر للطباعة والنشر 1997م ، ص 57.
(10) محمد رشيد رضا : تفسير المنار ط/دار المعرفة بيروت 1/198.
(11) محمد عبد الله دراز . النبأ العظيم ط/ مطبعة السعادة مصر ، عام 1966م ص 78.
(12) محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ط/ مكتبة الغزالي دمشق 1981م.
(13) رسائل الجاحظ 147 – 148.
(14) الخطابي : إعجاز القرآن (ضمن ثلاثة رسائل في إعجاز القرآن) تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام ط/ دار إحياء الكتب العربية 1968م. ص 21 – 24
(15) الباقلاني:إعجاز القران :تحقيق محمّد عبد المنعم خفاجة ط/1 دار الجيل سنة 1991م. ، ص 26.
(16) القاضي عبد الجبار : المغني تحقيق أمين الخولي دار الكتب 1960م.جـ 16 ص 197
(17) الإمام محمد عبده : الأعمال الكاملة ،2/42 .
(18) مقدمة العلامة محمود محمد شاكر عند تحقيقه للدلائل .
(19) انظر مقدمة الدكتور محمد عبد المنعم خفاجة للأسرار ص 14.
(20) دلائل الإعجاز ص9.
(21) أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني ، تحقيق سمير جابر ،ط/2 دار الفكر ، بيروت، (د.ت) ، ج 1 ص 83 ، وأبو هلال العسكري :الحسن بن عبد الله بن سهل : الصناعتين ، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم ،ط/ المكتبة العصرية ، بيروت، سنة 1986م ، و ابن حجة الحموي : علي بن عبد الله : خزانة الأدب ، تحقيق عصام شعيتو،ط/1 دار ومكتبة الهلال، بيروت ، سنة 1987م ، ج 1 ص 223، والقلقشندي: أحمد بن علي : صبح الأعشى في صناعة الإنشا ، تحقيق يوسف علي طويل، ط/ دار الفكر ، دمشق، سنة 1987 ،ج2 ص 318 ، والعباسي: عبد الرحيم بن أحمد: معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، ط/ عالم الكتب ، بيروت، سنة 1947م، ج 2 ص 238، وشهاب الدين النويري: أحمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الأدب ، تحقيق مفيد قمحية وجماعة ، ط/1 دار الكتب العلمية ، سنة 2004 م، ج 5 ص 63
(22) جلال الدين القزويني: محمد بن سعد الدين : الإيضاح في علوم البلاغة ، ط/4 دار إحياء العلوم ، بيروت، سنة 1998 ، ص 225 ، والمبرد : محمد بن يزيد : الكامل في اللغة والأدب ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ،ط/ دار الفكر العربي ، القاهرة، سنة1997م ،3 ص 105 ، وبهاء الدين العاملي : محمد بن حسين، الكشكول ، تحقيق محمد عبد الكريم النمري، ط/1 دار الكتب العلمية ، بيروت ، سنة 1998م، ج 2 ص 69 ، وخزانة الأدب ج 1 ص 223 ، والبغدادي: عبد القادر بن عمر : خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق محمد نبيل طريفي وأميل بديع اليعقوب ، ط/ دار الكتب العلمية بيروت ، سنة 1998م ، ج 4 ص 417 ، ومعاهد التنصيص 2 ص 238
(23) الجامع لأحكام القرآن ، 4 /10.
(24) الجاحظ: كتاب العثمانية ، تحقيق عبد السلام هارون ، ص16.
(25) الجامع لأحكام القرآن ، 6 /2.
(26) الجرجاني : عبد القاهر : دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، ط2، مكتبة القاهرة ، سنة 1992م 46-48.
(27) سيد قطب : الظلال ، ط/ دار الشروق (د.ت) ، ص 1775.
(28) دلائل الإعجاز ص45-46 .
(29) المصدر السابق ص231.
(30) المصدر السابق ص222.
(31) المصدر السابق ص 225.
(32) البرهان في علوم القرآن 1/36.
(33) الآمدي : علي بن محمد : الإحكام في أصول الأحكام ، تحقيق سيد الجميلي، ط/1 دار الكتاب العربي ، بيروت ، سنة 1404هـ، ج 2 ص 198 ، والزركشي: بدر الدين محمد : البحر المحيط في أصول الفقه ، تحقيق محمد محمد تامر ، ط/1 دار الكتب العلمية ، بيروت ، سنة 2000م، ج 2 ص 112 ، والمرداوي : علي بن سليمان : التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، تحقيق عبد الرحمن الجبرين وآخرون ، ط/ مكتبة الرشد ، الرياض ، سنة 1421هـ ، ج 5 ص 2247 ، والعطار : حسن : حاشية العطار على جمع الجوامع، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1999م، ج1 ص 479، وابن قدامة المقدسي: عبد الله بن أحمد: روضة الناظر وجنة المناظر ، تحقيق : عبد العزيز عبد الرحمن السعيد ، ط/2 جامعة الإمام محمد بن سعود ، الرياض، سنة 1399هـ ، ص198 ، وابن النجار : محمد بن أحمد بن عبد العزيز: شرح الكوكب المنير ، تحقيق محمد الزحيلي و نزيه حماد،ط/2 مكتبة العبيكان، سنة 1997م ،ج3 ص 57 ، والسمعاني : قواطع الأدلة في الأصول : منصور بن محمد بن عبد الجبار، تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي ، ط/1 دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1999م ، وعلاء الدين البخاري: عبد العزيز بن أحمد بن محمد: كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، تحقيق عبد الله محمود محمد عمر ، ط/1 دار الكتب العلمية ، بيروت ، سنة 1997م ، ج 1 ص 182
(34) ابن القيم : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، بدائع الفوائد ، تحقيق هشام عبد العزيز عطا وآخرون، ط/ مكتبة نزار مصطفى الباز – مكة المكرمة – ابن القيم الجوزية سنة 1416هـ ،ج4 ص 815 ، والبرهان في علوم القرآن ج 2 ص 200
(35) الشاطبي: إبراهيم بن موسى :الموافقات ، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن ، ط /1دار ابن عفان ، سنة1997م ، ج 4 ص 267
(36) ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم ،مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق أنور الباز وعامر الجزار، ط/3 دار الوفاء، سنة 1426 هـ، ج 6 ص 18
(37) انظر في ذلك تفسير القرآن العظيم ج 1 ص 158 ،ج4 ص 308، والجامع لأحكام القرآن ج 2 ص 127، ج 9 ص 10، ج 9 ص 201، والأصفهاني:غريب القرآن ، تحقيق محمد سيد كيلاني ، ط/ دار المعرفة بيروت ص 23
(38) تفسير القرآن العظيم ج 1 ص 158،ج2 ص 308،ج 4 ص 611، والجامع لأحكام القرآن ج 2 ص 127، ج 9 ص 10، و الزمخشري: محمود بن عمر :الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، تحقيق عبد الرزاق المهدي ، ط/ دار إحياء التراث العربي ، بيروت، (د.ت) ، ج 2 ص 599 ، و السيوطي :جلال الدين : عبد الرحمن بن أبي بكر : الدر المنثور ط/ دار الفكر – بيروت، سنة 1993م ، ج5 ص 176،و السمرقندي: نصر بن محمد بن إبراهيم ، بحر العلوم ، تحقيق محمود مطرجي ط/ دار الفكر بيروت(د.ت)، ج1 ص 166، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج 12 ص 16 ابن عجيبة: أحمد بن محمد بن المهدي: البحر المديد، ط/2 دار الكتب العلمية، بيروت ، سنة 2002م ، ج 4 ص 92
(39) الجامع لأحكام القرآن ج 6 ص 420
(40) جامع البيان ج 13 ص 243، وتفسير القرآن العظيم ج 1 ص 158، والجامع لأحكام القرآن ج 10 ص 10
(41) تفسير القرآن العظيم ج 1 ص 158
* * *
(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن والبلاغة، ورئيس قسم البحوث بجامعة الجزيرة / السودان.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37