إلى رحمة الله
في نحو الساعة الخامسة من الساعة الأخيرة من الليلة المتخللة بين الثلاثاء والأربعاء: 14-15/ ربيع الأول 1433هـ = 7-8/فبراير 2012م استأثرتْ رحمةُ الله تعالى بالعالم الهندي النشيط في مجال الدعوة والتأليف والكتابة الشيخ محمد أبي بكر الغازيبوري القاسمي، عن عمر يناهز 67 عاماً بالنسبة إلى التقويم الميلادي و 69 عاماً بالنسبة إلى التقويم الهجري، فإِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وافته المنيةُ في مقر جمعيّة علماء الهند بدهلي الجديدة، حيث كان نازلاً به قادماً من مدينة «بهوبال» بولاية «مدهيا براديش» حيث حضر بعضَ المناسبات الدينية والحفلات الدعوية. وفي الليلة المشار إليها كان مدعوًّا من قبل بعض محبيه إلى مأدبة أقاموها له، وحضرها هو مع بعض الإخوان العاملين في مقر جمعية علماء الهند، وعاد من مكان المناسبة إلى المقر في نحو الساعة الحادية عشرة، ثم لجأ إلى الفراش كالعادة، لم يكن به شيء مما يدعو إلى القلق أو الانزعاج فيما يتعلق بصحته أو تحسُّب الخطر على حياته؛ بل كان لديه برنامج خططه مسبقاً لزيارة «ديوبند» وجامعتها الإسلامية: «دارالعلوم» وكان بعضُ أساتذتها ومن بينهم فضيلة الشيخ رياسة علي البجنوري القاسمي قد تواعدوا باللقاء على مائدتهم المسائية؛ ولكنه في نحو الساعة الرابعة بدأت حالته الصحيّة تسوء، وكان في الغرفة بعض الضيوف الآخرين بمن فيهم ضيف من «غوجرات» اتّصل هاتفيًّا في نحو الساعة الرابعة والنصف ببعض مسؤولي الجمعية المعنيين بشؤون الضيوف وأحاطه علماً بأن الشيخ الغازيبوريّ يشكو وعكةً صحيَّة سيئةً للغاية، ويعاني بصفة خاصّة صداعاً شديدًا في الرأس وألماً قاسيًا في الصدر، فأَدْرِكُوه عاجلاً.
ولما جاؤوه وجدوه على حالة مُقْلِقَة جدًّا، فنهضوا به بأيديهم وهو مُسْتَعِدٌّ للتوجّه إلى مستشفى عندما قالوا له: إنهم سيتوجّهون به توًّا إليه، وعند نزوله إلى الفناء حول المقرّ على درجات السلّم بدأ يكرر قراءة «لا إله إلاّ الله محمد رسول الله» وما هي إلاّ دقائق حتى صار جثة هامدة في أيديهم؛ حيث فارقت روحُه جسَده بخفقة واحدة؛ ولكنهم للتأكد من حالته وصلوا به المستشفى، وفحص الأطباء جسَده بالماكينيات الطبية المُخَصَّصَة، فقالوا: إنه قد تُوُفِّيَ.
وعادوا به إلى المقرّ، ونعوه – وهم جميعًا مدهوشون من موته المفاجئ – إلى أهله ومعارفه الذين تلقوا نعيه باستغراب شديد؛ لأنه كان متمتعاً بصحة لابأس بها إلى ما قبل لجوئه إلى الفراش.
وفي نحو الساعة 9 من صباح يوم الأربعاء: 15/ ربيع الأول 1433هـ الموافق 8/فبراير 2012م تَوَجَّه بجثته بعضُ العاملين في مقر جمعية العلماء إلى وطنه بمدينة «غازيبور» بولاية أترا براديش بسيارة الإسعاف، وبعدما قطعوا 1055ك م وصلوا المدينةَ في الساعة الثالثة والنصف. وفي اليوم التالي : الخميس 16/ربيع الأول = 9/فبراير صَلَّوا عليه في الساعة العاشرة، وتَمَّ تورية جثمانه في المقبرة التي تضمّ رفات سلفه الكرام.
لقد كان الشيخ أبوبكر الغازيبوريّ رحمه الله من العلماء المُتْقِنِين المتخرجين من الجامعة الإسلامية الأم دارالعلوم/ ديوبند بالهند في العهد الأخير، وكانت دراسته لعلوم الحديث والفقه والتفسير عميقة، واطلاعُه على الموضوعات الإسلاميّة من السيرة والتاريخ والفرق والمذاهب واسعاً، وكان عالماً باللغة العربية وكاتباً مؤلفاً بها وباللغة الأرديّة. كان من تلاميذ مُعَلِّم العربيّة العبقريّ فضيلة الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي رحمه الله المتوفى (1415هـ/1995م) الرئيس المساعد لدارالعلوم ديوبند سابقاً، وتخرج عليه في اللغة العربيّة، فعشقها وتوفّر على إتقانها والكتابة بها.
وكان شديد الاهتمام بالدفاع عن المذاهب الفقهية المتبعة لدى الأمة، ولاسيّما المذهب الحنفي الذي يتبعه معظم المسلمين في العالم، ولاسيّما في شبه القارة الهنديّة. وكتب في الردّ على الداعين لِلاَّمذهبية عددًا من المؤلفات باللغتين العربيّة والأرديّة، ولاسيَّما على المتطرفين منهم الذين يتحاملون دونما دليل على المذهب الحنفي خصيصًا، والمذاهب الأخرى عموماً، ويتعصبون لِلاّمذهبيّة تعصباً أخرق، ويتعدون في ذلك جميعَ حدود الدين والأخلاق. وقد نهض بعضهم فشنعوا على علماء ديوبند ومشايخها الذين أفنوا أعمارهم في دحض البدع والخرافات حتى سُمُّوا من قبل المبتدعين بـ«الوهابيين» وانقطعو إلى خدمة علوم الكتاب والسنة ونشر الدين والعقيدة الصحيحة، وبفضل جهودهم المخلصة توجد اليوم شجرة الإسلام في الهند مخضرة مثمرة مترامية الأغصان، وتُعَسِّل خلية الإسلام في هذه الديار الواسعة بشكل ينقطع نظيره في غيرها من ديار الإسلام والعروبة. فما وسع الشيخ أبابكر إلاّ أن نهض ليردّ عليهم، وانصرف إلى دراسة كتبهم ومُؤَلَّفاتهم ضدَّ الأحناف وضدّ علماء ديوبند، فصار متخصصًا في الموضوع، واسع الاطلاع عليه، غزير الموادّ فيه، فألف من الكتب أمثال: صور تنطق، وقفة مع اللامذهبية، وفقة مع معارضي شيخ الإسلام، قضايا اللامذهبيين، يوميات اللامذهبيين، مرآة اللامذهبيين، لحظة تفكير للامذهبيين، نظرة على سبيل الرسول، نظرة على صلاة الرسول، مكانة الصحابة في ضوء الكتاب والسنة، تحفة الحق، نظرة على المذهب البريلوي، ذكرُ الشيخ محمد طيب، مرقاة الأدب، شذوذ اللامذهبيين عن الأحاديث النبوية الصحيحة. وما إلى ذلك من الكتب التي تربو على عشرين كتاباً ما بين صغير وكبير.
وكان هشًّا بشًّا، طلق الوجه كثير التفاعل، مرهف الحس، لايتحمل كلمة موجهة إلى العلماء السلف، أسمر اللون، بيضاوي الوجه، مربوع القامة مائلاً إلى القصر، سَمُنَ جسمُه في السنوات الأخيرة. وكان يُصْدِر باللغة الأردية مجلة دورية باسم «زمزم» يتابع فيها في الأغلب مواقف الفرق المتطرفة، وينتقدهم بما يلجمهم ويلقمهم الحجر، وربما يتناول أصحاب هذه الفرق بنقاش حادّ، ومجادلة ساخنة، ويلاحقهم إلى أوكارهم. وكان في ذلك لايتعامل بلين أو رفق، وإنما كان يؤمن أن يكيل لهم الصاعَ صاعين نظرًا إلى تعدّيهم حدودَ الشريعة ومكارم الأخلاق.
وُلِدَ الشيخ محمد أبوبكر بن مَوْلَى بَخْش الأنصاري (المتوفى 1417هـ/1996م) ابن حسين أحمد الأنصاري يوم 15/مارس 1945م الموافق 17/شوال 1364هـ. وتلقَّى مبادئ القراءة وحفظ القرآن الكريم في وطنه مدينة «غازيبور» بالمدرسة الدينية، وتعلم الفارسية والأردية ومبادئ العربية في مدرسة إحياء العلوم ببلدة «مباركبور» وغادرها إلى مدرسة «مفتاح العلوم» بمدينة «مئو» حيث تلقى الدراسةَ الثانوية كلها، ثم التحق بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند عام 1385هـ وتخرج منها 1386هـ، ثم بقي بها يدرس في العام التالي 1386هـ اللغة العربية ويتقنها كتابة وخطابة، وكان أيام تعلمه بالجامعة رئيس تحرير لمجلة حائطية اسمها «الرسالة»فنضج قلمه، وثقف أسلوبه، وسالت قريحته الكتابيّة.
وكان له شقيق وشقيقة يكبرانه وهما محمد فاروق وراشدة، وكانت له شقيقة تصغره، وهي «صادقة» ولايزال كل من محمد فاروق وصادقة وأولادهما أحياء يرزقون. وقد خلف رحمه الله بعده إلى زوجته ابنين وبنتين، والثلاثةُ من أولاده تزوجوا، وآخرهم وأصغرهم وهو عبد الرحمن لايزال متعلماً في دورة الحديث الشريف بمدرسة دارالعلوم بمدينة «مئو».
والجدير بالذكر أن الشيخ محمد أبوبكر الغازيبوري، ظلت تربطه صلات ودّ عميقة بفضيلة الشيخ المفتي أبي القاسم النعماني حفظه الله رئيس الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند حاليّاً، حيث كانا يسكنان غرفة واحدة بالجامعة، وكانا يتلازمان على مائدة الأكل والشرب وفي كثير من النشاطات الدراسية والثقافية، وقد بقيت بينهما هذه الصلات الودّيّة طَوَالَ حياة الشيخ محمد أبي بكر حتى امتدت إلى أسرتيهما، فكان يشاطر أحدهما الآخر الأحلام والآلام، ويحضر كل منهما مناسبات السرور والحزن لدى الآخر.
وكانت أسرة الشيخ محمد أبوبكر يسكن أولاً بيتاً صغيرًا في حيّ «جندن شهيد» Chandan Shaheed بمدينة «غازيبور» ثم اشترت قطعة أرضية كبيرة بالنسبة على شاطي نهر «كنج» بحي «سَيِّدْ وَارَا» Saiyed Wara بالمدينة وأنشأت عليها دارًا واسعة، وانتقلت إليها، ولاتزال تسكنها. وقد قام الشيخ بجميع أنشطته التأليفية والدعوية والدينية في هذه الدار. ولم يكن والده الشيخ «مولى بخش» عالماً متخرجاً في مدرسة إسلاميّة؛ ولكنه كان يحبّ العلماء والدين وأهله، وكان يحب من المنظمات جمعية علماء الهند، وكان ينتمي إليها، وكان يحبّ جدًّا الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند، ويتبع مذهبها المعتدل الذي يحترم جميع الأئمة والسلف، ولايُكَفِّر أو يُبَدِّع أو يُفَسِّق أحدًا إلاّ عن دليل واضح لايقبل تأويلاً.
وقام الشيخ محمد أبوبكر أوّلاً بالتدريس في عدد من المدارس بالهند، ثم انقطع إلى التأليف والكتابة. فدرَّس في مدرسة بيت العلوم بمدينة «ماليغاؤن» والمدرسة الدينية بـ«غازيبور» وجامعة تعليم الدين بمدينة «دابيل وسملك» ومظهر العلوم بمدينة «بنارس» وسبيل السلام بمدينة «حيدرآباد» وجامعة الرشاد بمدينة «أعظم جراه».
وكان مسؤولاً فعّالاً عن جمعية علماء الهند، منذ عهد الشيخ السيد أسعد المدني رئيس جمعية علماء الهند سابقاً، وظل لآخر لحظة من حياته، حتى وافته المنية في مقرها بدهلي الجديدة.
رحمه الله وأدخله فسيح جناته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
(تحريراً في الساعة 5/ من مساء يوم الخميس: 19/ جمادى الأولى 1433هـ الموافق 12/أبريل 2012م)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1433 هـ = يونيو 2012م ، العدد : 7 ، السنة : 36