الأدب الإسلامي
بقلم : أديب العربية الكبير معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
وحزم عمر، وقوة إرادته، وإقدامه على الأمور بعزم هي لصالح المسلمين، ولسلامة جمعهم، فهو إذا كان يتابع أمور الأفراد، فهو لايغفل عن أمر الجمع منهم؛ ولهذا لم يقدم على إركاب جيوش المسلمين البحر، وله فيها موقف مع «عمرو بن العاص رضي الله عنه».
«أراد «عمر» أن يغزي البحر جيشاً، فكتب إليه عمرو بن العاص:
يا أمير المؤمنين، البحر خلق عظيم، يركبه خلق ضعيف، دود على عود، غرق وبرق.
قال عمر: لا يسألني الله عن أحد حملته فيه»(1).
ولكنه يعتبر أيضاً أن تقويم الفرد أو ما يتصل به هو في المدى الطويل تقويم للمجتمع، أو حماية له، فما نسج المجتمع إلا من أعداد أفراده، وبعض الظواهر يمثلها أفراد قلة؛ ولكن «عمر» الحذر بفراسته الفائقة، وبذهنه الصافي، وبتجربته العميقة، وببصيرته الحادة، وبحرصه الشديد، يرى أنها بدء لخطر عظيم، يجب تداركه في أوائله، قبل أن يستفحل، وقبل أن يصبح علاجه صعباً، وقد سارع إلى إبعاد النار عن الحطب في إحدى الظواهر الجديدة في مجتمعه، ولم يخدره حسن الظن بالناس، أو يركن إلى النظريات التي لاتقوم على أسس الواقع والحقيقة. وهناك قصة تُري كيف تنبه لأمر، فقضى عليه في مهده، وأنهاه وهو فضيلة، قبل أن تأتي منه، بالترك والإهمال رذيلة:
قال عمر – رضي الله عنه – وقد رأى بعض الرجال يجلس إلى زوجة أحد الغزاة:
«ما بال أحدكم ثاني وساده عند امرأة مغزية مغيبة؟ إن المرأة لحم على وضم، إلا ما ذُبَّ عنه»(2).
وعينه يقظة، وتصل نظرته إلى عمَّاله في المناطق البعيدة، وتصرفهم مع الناس، ولقد رأى من زياد ابن أبيه بعض ما جعله يقرر عزله، وعندما نسمع عذره في هذا، والسبب الذي جعله يقدم على إبعاد زياد الكفيء عن عمل مهم، ندرك بعد نظره، ورحمته بالناس، وقصة العزل هذه كما يلي:
«عزل «عمر» «زياداً» عن كتابة أبي موسى الأشعري في بعض قدماته، فقال له زياد:
أعن عجز أم عن خيانة؟
قال: لا عن واحدة منها، ولكن أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك»(3).
إنه لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا إلا عبقري مثل عمر.
وحزمه ليس مع أناس بعيدين عنه، بل إن أهله مأخوذون مثل غيرهم بحزمه، وإبداء الملاحظات الشديدة لهم، وله موقف مع أحد أبنائه، وهذه هي قصته:
«نظر عمر – رضي الله عنه – إلى جارية سوداء تبكي فقال:
ما شأنك؟
قالت: ضربني أبو عيسى.
قال: أو قد تكنى بأبي عيسى؟ عليَّ به.
فأحضروه.
فقال: ويحك! أكان لعيسى أب فتكنى به؟
أتدري ما كُنى الأعراب: أبوسلمة، أبوعرفطة، أبوطلحة، أبوحنظلة.
فأدبه، واقتص منه للجارية»(4).
لقد تنبه عمر لما لم يتنبه له ابنه، وهو أن عيسى لم يكن له أب، ومن غير الأدب أن يخترع شيئاً من عنده. وبهذا صحح له أمراً، وهذا أول درس، ثم علمه كُنى قومه، وهذا هو الدرس الثاني، وأدبه بالضرب قصاصاً للجارية، وهذا هو الدرس الثالث، واكتملت أثَافي التربية عند عمر، في هذا الموقف.
وكاد أن يؤدب «حفصة» لولا أن وجد أنها ليست الوحيدة من بين زوجات الرسول التي تقدم على عمل عدَّه خسراناً، والقصة كالآتي:
«قال عمر لحفصة – رضي الله عنها – :
أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالت: نعم.
قال: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟
قالت: نعم.
قال: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر»(5).
وقد التفت مرةً إلى «طلحة» لأمر لاحظه، فقال قول المربي، وأرشد إرشاد المؤدب، وجاء بما يقنع، وبما يُعذِر، ولم يتغاض، ويجد عذرًا للسكوت، وكان بإمكانه أن يجد العذر لذلك بأن الأمر أمر وقت، ولن يطول، والقصة كما يلي:
«قال أسلم، مولى عمر:
رأى عمر على «طلحة» ثوباً مصبوغاً، وهو محرم، فقال:
ما هذا الثوب المصبوغ، يا طلحة؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر (طين).
فقال: إنكم أيها الرهط أئمة، تقتدي بكم الناس، ولو أن رجلاً جاهلاً رأى هذا الثوب لقال: إن «طلحة» كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام»(6).
إن أمر القدوة يشغل بال عمر؛ لأنه يعرف ما تفعله القدوة بالناس، ومدى تعذرهم بها، وسرعة الانتباه لها، وقد حرص أن يكون هو مثال القدوة الحسنة، وأراد من علية القوم، والمعتبرين منهم، أن يكونوا كذلك، فهم أهل رسالة، ويجب أن يؤدوها على الوجه الأكمل، ولقد لفت نظر «طلحة» إلى ما لم يتنبه له، وكان قوله بحكمة، والوسيلة التي قدمها أمام قوله مقنعة؛ لأنها صادقة.
ولقد عاقب «عمر» نفسه بما أمل أن يكون مصدر ثواب عظيم، عاقب نفسه عقاباً جميلاً بما ظنه تفريطاً في حق الله، وعمر يدرك أن الخطأ إذا وقع مرةً فلابد أن يقع مرة أخرى، إذا لم يقتلع السبب الذي أدى إليه من جذوره، ويجتث من أصله، فلا يبقي له أثر، وهذا ما فعله عمر، حدث منه خطأ لم يقصده، وكان له سبب، وله جانب، فقضى على السبب، وأتى على الجانب، والقصة كما يلي:
«خرج عمر – رضي الله عنه – إلى حائط له، فرجع وقد صليت العصر، فقال:
حائطي على المسلمين صدقة، وذلك لفوت الجماعة»(7).
إن فوت الجماعة عند عمر عظيم، ولا يصلح الخطأ العظيم إلا التضحية العظمى، وامتلاك حائط كان من الأمور التي يتمناها المرء في تلك الحقبة، ولقد تمناها «عروة بن الزبير»، ولعله دعا الله فاستجاب دعاءه، ولم يكن عروة يتمنى الحائط إلا؛ لأنه يدر عليه ما يقدره على توفير مشتهياته:
«كان عروة بن الزبير يقول:
أشتهي أن أتخذ مالاً قريباً، أدخل المغتسل، فأفيض الماء، ثم آمر الغلام، فيجني لي من رطبه، فلا يجف رأسي حتى أوتى به.
فلما اشترى «المقتربة»ظفر بذلك»(8).
وكان عروة مثل عمر تقيًّا؛ ولأن الله استجاب له، وأعطاه ما اشتهاه، فقد شكر الله – سبحانه وتعالى – بالصفة الآتية:
«كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه، وأذن للناس في أكله وحمله، وردد: ما شاء الله، لاقوة إلا بالله»(9).
وحزم عمر يجعله في يقظة دائماً، يتابع ما حوله بدقة وبصيرة، فلا يفوته أمر يمر أمام عينيه، ومن القصص التي تعطي صورةً عن هذا القصة الآتية:
«قال ابن عباس:
كنت أطوف مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حول الكعبة، فإذا أعرابي على عنقه امرأة مثل المهاة، وهو يقول:
صرت لها جملاً ذلولاً
موطأ أتبع السهولا
أعدلها بالكف أن تميلا
أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلاً جزيلا
فقال عمر: من هذه المرأة التي قد وهبت لها حجك؟
قال: هذه امرأتي، والله إنها مع ما ترى من صنيعي بها لحمقاء مرغامة، أكول قمامة، مشؤومة الهامة، ما يبقى لها خامَّة.
فقال عمر: فما تصنع فيها إذ كان قولك فيها هذا؟
قال: حسناء فلا تفرك، وأم عيالٍ فلا تترك.
قال: أمالي [كذا]، فشأنك بها»(10).
لقد لفت نظره ما قاله الرجل، ولو تبين له أنها أمه لأنَّبه، وقال الفضل لها عليك، وما قمت بشيء مما يجب لها، ولكن الرجل سلك به طريقاً لم يتوقعه، إذ فاجأه بأنها زوجته، ثم فاجأه المفاجأة الثانية عندما عدد عيوبها، فلفت نظر عمر إلى هذا التناقض، وأحسَّ أن وراء الأكمة ما وراءها، وقد أراح بال عمر عندما جاء بالتفسير المبدد للظلام.
والتفاته إلى ما حوله، وتيقظه لما يوجب الملاحظة، وسرعته في تعديل ما بدا فيه ميل، تفضي به إلى كثير من الإنجاز في هذه الجوانب، فيعالجها بحزم وعدل ومنطق كما فعل في القصة الآتية:
«قال عمر لرجل:
ما معيشتك؟
قال: رزق الله.
فقال: لكل رزق سبب، فما سبب رزقك؟»(11).
هذا الرجل ليس ندًّا لعمر، لقد ألجمه عمر بلجام قوي من أول وهلة، فالرجل تفكيره على السطح، وعمر تفكيره في عمق الأمر، ولا يقبل عمر القول الضحل، ولا القول الذي أساسه كلمات ترص، وأقوال تلفظ، تفيد عموماً، ولا تركز على ما يشفي النفس، ويتجاوب مع العقل، فكلمة «رزق الله» لا تقف وحدها، دون فهم كامل لمراميها؛ فلابد من العمل ليهيء الله الرزق، ولابد من الحركة حتى ينزل الله لصاحبها البركة، والإنسان مطالب بالعمل والاتكال.
وقد شهد عمر في أول عهد الإسلام، صراع الإسلام مع الشرك، وماكان من أوجهه المختلفة، وما تنوع منه، وشهد في زمنه صراع الإسلام مع بعض الملل الأخرى، وتوقع أن يكون هناك من بين غير المسلمين من قد يكيد للإسلام، أو يحاول الاستهانة به، أو بالمسلمين، وقد رسم العلاج في ذهنه، وعمر عندما يرسم فأداته الحزم، وألوانه العدل، وإطار الصورة مصلحة المجتمع.
لهذا عندما علم بحادثة فيها استهانة بامرأة مسلمة، أريد لها الأذى، أو مجرد الهزء والسخرية، غلا مرجله – رضي الله عنه – ومحا العار بما لم يبق له أثراً، ويكون عبرةً لمن أراد أن يعبث بمجتمع عمر الجاد، والقصة كما يلي:
«قال عروة بن رويم اللخمي:
إن يهوديًّا يقال له «حنين» نخس بامرأة مسلمة حماراً، فقحص، فصرعها، فوقعت، فانكشفت.
فكتب إلى عمر، فكتب:
ليس على هذا صالحناهم، قد خلع ربقة الذمة من رقبته، فاصلبوه حيًّا.
فلما نصب على خشبة أتته امرأته، وعليه خفان جديدان، فقالت:
الآن تموت، فما تصنع بالخفين؟
فاجترتهما عنه.
فجعل الناس يقولون: انقلبت بخفي حنين(12)»(13).
وقد يكون ما قيل عن الخفين مزاداً على القصة الواقعة حقيقة، وأوحى بهذه الزيادة اسم الرجل، وما اشتهر عن بخل اليهود، وحرصهم على المال، وتدبيرهم فيه، وضعف العاطفة عندهم أمام المال.
وحزم عمر اشتهر فمهد لهيبته، وقد أراحته هذه الهيبة من كثير من الأمور التي تجرئ الناس على الحاكم، فيُتعبونه بما لا يستحق أن يجهد به. ولهذا قال عنه عمرو بن العاص:
«ما رأيت رجلاً يكلم «عمر بن الخطاب» إلا رحمته؛ لأنه كان أعقل من أن يخدعه أحد، وأتقى لله من أن يخدع أحداً»(14).
والحزم لا تضيئ جوانبه إلا إذا كان مبنيًّا على العدل، أو كان العدل هدفه، فإذا خلا الحزم من العدل دخل حيز القسوة والتسلط والجبروت. والعدل من أهم أهداف عمله – رضي الله عنه – وكثيراً ما تراجع عن أمور رأى فيما بعد فيها مالم ير في أول الأمر، وساعد عمر في عدم المكابرة، والإصرار على الخطأ، أنه خال من عقد النفس، التي تحكم أحياناً تصرفات الإنسان، فكان فيه صراحة، تشمل نفسه وحياته؛ وصراحته جانب من الجوانب المحمودة التي اتصف بها عمر.
وهناك قصة تتصف بالعدل والصراحة وهي كما يلي:
«قال القاضي أبا حامد:
كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إذا كثر عليه الخصوم صرفهم إلى زيد، فلقي رجلاً ممن صرفهم إلى زيد، فقال له:
ما صنعت؟
قال: قضى علي، يا أمير المؤمنين.
قال: لو كنت أنا لقضيت لك.
قال: فما يمنعك، وأنت ولي الأمر؟
قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله، وسنة نبيه، فعلت. ولكني أردك إلى الرأي، والرأي مشترك»(15).
هذه القصة إذا صحت فإنها تدل على أشياء كثيرة منها أن عمر يحترم من نصبهم للقضاء، ولا يرجح رأيه على رأيهم، مادام أن الأمر يعود للاجتهاد والقصة تدل أيضاً على رعايته لمصالح الناس، فهو يحرص على ألا تتأخر أمورهم، ويجد الوقت لها، وهو الرجل الذي تجمعت عليه «ظباء خراش» فما يدري أيهن يصيد.
* * *
الهوامش:
عيون الأخبار: 1/222.
البيان والتبيين: 2/191.
البيان والتبيين: 1/260، عيون الأخبار: 1/450.
ربيع الأبرار: 2/377.
تحفة العروس: 250.
ربيع الأبرار: 3/733.
ربيع الأبرار: 2/147.
ربيع الأبرار: 1/218.
ربيع الأبرار: 1/297.
الإشراف: 211.
محاضرات الأدباء: 181.
انظر ما روي عن فرحته لقتل غلمان في البحرين قسًّا شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ربيع الأبرار: 4/74.
البصائر: 8/57.
من اسمه عمرو: 111.
البصائر: 5/172.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1433 هـ = مارس 2012م ، العدد : 4 ، السنة : 36