دراسات إسلامية
بقلم : محمد محامد حسين(*)
يُعْتَبَرُ العلامة السيّد «غلام علي آزاد البلكرامي» من أبرز وأعظم الكتّاب والشعراء العربية الذين نبغوا في شبه القارة الهندية، ويضاهون كلام النبغاء الذين نشأوا في البلاد العربية، وُلِدَ في حي «ميدان فوره» بمحروسة «بلكرام» في الخامس والعشرين من صفر سنة 1116هـ (29يونيو سنة1704م)(1)، ونشأ في أحضان العلم والأدب والدين الخالص، فقرأ الكتب الدراسية المتداولة على السيد «طفيل محمد» الأترولوي ، ثم لازم جده لأمه السيد «عبد الجليل بن مير أحمد» البلكرامي، وخاله السيد محمد بن عبد الجليل، فأخذ القدرة والتمكن من اللغة والحديث والفقه والسير والفنون العربية والفارسية عن جده المذكور، ومن العروض والقوافي وبعض الفنون الأدبية عن خاله المذكور. وفي سنة 1150هـ نزعت نفسه إلى زيارة الحرمين الشريفين، فرحل في نفس السنة إلى الحجاز للحج والزيارة، حيث أقام فيها سنةً كاملةً وبضعة شهور بذلها كلها في الاستفادة من علماءها، فاستفاد في فن الحديث من الشيخ المحدث «محمد حيات» السندي، وأخذ عنه إجازة الصحاح الستة وسائر مقروءاته، كما يقول بنفسه في «سبحة المرجان» : وقرأت أيام إقامتها صحيح البخاري على شيخي ومولاي محمد حيات السندي المدني ـ قدس سره ـ وأخذت عنه إجازة الصحاح الستة وسائر مقروءاته، واقتطفت ثمارًا أيانع من غصون بركاته «ص:302، واستفاد أيضاً في هذا الفن من الشيخ عبد الوهاب الطنطاوي المصري م1157هـ وأخذ عنه معلومات علميةً كثيرةً، وبعد تأدية فريضة الحج عاد في سنة 1152هـ إلى الهند متوجهاً إلى مدينة «أورنك آباد» حيث استقر بها وقضى فيها بقية الباقية من حياته العزيزة مركزًا على إفادة الناس وتأليف الكتب العلمية وقرض الشعر وإنشاء الدواوين، إلى أن استأثرت به رحمة الله تعالى، وقد كانت حصلت بينه وبين النواب نظام الدولة «ناصر جنك» وإخوته في أثناء إقامته في «أورنك آباد» صلة الصداقة والمحبة العميقة حتى كان لايدع نظام الدولة ناصر جنك مصاحبته في السفر والحضر معاً. فعندما قام «ناصر جنك» بالملك مقام والده اختار «آزاد» لمنصب من مناصب الإمارة وألح عليه بقبوله إلحاحاً شديدًا؛ ولكن العلامة «غلام علي آزاد» البلكرامي أبى قائلاً: إن هذه الدنيا مثلها كمثل نهر طالوت، غرفة منها حلال والزيادة عليها حرام».(2) فاضت روح هذا العلام الكبير الزكية إلى ربها راضيةً مرضيةً في 21/ ذي القعدة سنة 1200هـ المطابق 15/سبتمبر 1786م.
في الحقيقة كان «آزاد» عالماً عاملاً بالدين متضلّعاً من العلوم والفنون تقياً ورعاً بالله مادحاً صادقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، راسخ القدم في الآداب العربية والفارسية والهندية والسنسكريتية، مترسلاً سجاعاً، وشاعرًا مجيدًا، له تصانيف كثيرة ممتعة ـ في اللغة العربية والفارسية معاً – أجلسته في دنيا الأدب والعلم مكاناً رفيعاً، يرجع إليه فضل الأولية والسبقة في شبه القارة الهندية إلى تاليف كتاب تاريخي باللغة العربية حول الثقافة الإسلامية في الهند، والواقع أن الله تبارك وتعالى قد وهبه غايةً من الذكاء والفطنة وقوة الحفظ والإدارك، ومع ذلك كان دائم الاشتغال مكباً على المطالعة كثير التراحل للاستفادة والتحصيل، فكل من هذه النعم الموهوبة ساعدته كل المساعدة على التمهر والتضلع فيما حصل من العلوم العربية والفارسية والمعارف الأدبية الأخرى حيث فاق فيها بين أقرانه، يقول العلامة السيد «عبد الحي» الحسني: «لم يكن له نظير في زمانه في النحو واللغة والشعر والبديع والتاريخ والسير والأنساب».(3) فقد ترك خلفه للأجيال بعده مصنفات عديدةً قيمةً في الأدب والتاريخ والحديث والتراجم والشعر بالعربية والفارسية معاً، كلها حظيت بالقبول والتجاوب لدى العلماء والباحثين، منها بالعربية: «سبحة المرجان في آثار هندوستان» وهو يحتوي على أربعة فصول يشمل فصله الأول والثاني بمصنفين مستقلين بقلمه هما «شمامة العنبر» و «تسلية الفؤاد» والأول يضم ما ورد من فضائل الهند في كتب التفاسير وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني يحتوي على تراجم أعيان الهند وعلماءها، أما فصله الثالث فهو ينطوي على محسنات الكلام من البدائع والصنائع السنسكريتية، وفصله الرابع يحتوي على ذكر المعشوقات والعشاق، و «ضوء الدراري» في شرح صحيح البخاري، وهو شرح غير كامل، وديوان «السبعة السيارة» و «أوج الصبا في مدح المصطفى» و «القصيدة الهمزية» و «مرآة الجمال» في وصف أعضاء المرأة من الرأس إلى القدم، و «مظهر البركات» (وهي مجموعة القصائد المزدوجة(4)) و «شفاء العليل» في انتقاد كلام أبي الطيب المتنبي، وقد ذكر أن له دواوين ومجموعة قصائد غراء أخرى، وبالفارسية: «خزانة عامرة» وهو ملاحظات مرتبة على أحرف الهجاء عن نحو 135 شاعر من شعراء الفرس، و «مآثر الكرام» وهو في أتقياء «بلكرام» وعلماءها، و «سرو آزاد» وهو تراجم لمائة وثلاثة وأربعين شاعرًا هنديًا نظموا بالفارسية أو بالأردية، و «يد بيضاء» وهو مجموعة تراجم لخمسمائة واثنين وثلاثين شاعرًا، رتبهم على أحرف الهجاء، وكان قد صنف هذا الكتاب في الأصل بسيوستان (أي سهوان من أعمال السند) عندما كان يشغل هنا منصب : «نائب وقائع نكار» و «روضة الأولياء» وهو موجز صغير في أولياء الدكن وغيرها.
شعره:
كان آزاد البلكرامي شاعرًا مطبوعاً أصيلاً من ناحية وفرة الصور الإبداعية والمعاني الخيالية، وشعره يعتبر ثروةً أدبيةً قيمةً في تاريخ الشعر العربي في الهند، وقد اعتنى به أصحاب النقد والتاريخ، فاعترفوا بعلو كعبه في قرض الشعر، ونظرًا إلى ارتجاله البديع الذي كانت تجود به قريحته الفياضة عدوه بين معاصريه من الشعراء الممتازين من الناحية الفنية؛ لذلك فإن شعره يتسم بجزالة اللفظ وبلاغة المعاني وروعة الأسلوب والبيان، يقول الدكتور عبد المقصود محمد شلقامي: «وإذا نظرنا إلى شعره بالمقارنة إلى معاصريه وجدناه قمةً لايتسامي إليها أي شاعر معاصر سواء في الأساليب أو المعاني أو الأخيلة؛ ولكنه لما كان بعيدًا عن بلاد العرب هندي المنشأ والموطن واللسان فإن الأضواء لم تستطع أن تعبر إليه الخليج، وبالتالي لم يعرف عنه الكثير ولو أنه عاش في بلاد العرب لصار رائدًا من طراز البارودي».(5)
ولقد لقب «آزاد» بلقب «حسان الهند» نسبة إلى حسان بن ثابت – رضي الله عنه – لعلاقة المشابهة معه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه، ولا شك في أنه جدير بهذا اللقب إذ أنه ترك لنا عشرة دواوين، ومجموعةً من قصائده الغراء في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرجوزة طويلة تبلغ 3500 بيت تقريبًا، وقد منحه الله تعالى قدرةً عجيبةً على نظم الشعر بحيث أنه كان ينظم قصيدةً كاملةً في يوم واحد أو في بعضه. يقول السيد عبد الحي الحسني: «كلما يتوجه آزاد إلى النظم تحضر المعاني لديه صفاً صفاً وتتمثل بين يديه فوجاً فوجاً».(6) و «آزاد» هو أول من تغنى في العربية بأمجاد الوطن الهندي، وابتدع في الشعر العربي أشياءً كثيرةً مثل المردف، والمستزاد، والمزدوجة وغيرها من الأنواع الشعرية الفارسية، كما ألبس بعض الأفكار والأخيلة الهندية خلعةً عربيةً، وعارض القدماء في الوصف والتشبيه، ووقف في قصائده كوقوفهم على الأطلال ورسم الديار.
لقد عــرض «آزاد» الشعــر في أغراض متنوعة من المـــدح والحب والغزل والوصف والرثاء؛ ولكن الغـــزل والمــدح يحويان معظم ديوانه، يشهد بذلك «آزاد» بنفســه في مجموعته الشعرية (السبعــة السيـارة): إني نظمت سبعـــة دواوين في اللسان العــربي، وسميتها بالسبعة السيارة أكثرها في التغــزل، وتوجت رأس كل ديـوان بمدح النبي صلى الله عليه وسلم تيمنًا».(7)
في الواقع أن لآزاد في المدح والتغزل طورًا خاصاً يعرفه أصحاب الفن والنقد، فإن قريحته كانت تفيض في هذين النوعين من الشعر بداهةً وقوةً وبلاغةً وروعةً، وقد أعطاهما نواحي جديدة – لم يسبقها أحد من الشعراء – مع إجادة المعاني والأساليب التي تريح الأسماع وتنشط الطبائع، يقول الدكتور «مسعود أنور العلوي» : «إن آزاد وصف النساء بشرح وبسط متأثرًا بالشعر الفارسي، وإنه قد استعمل أسماء ليلى وسلمى وعذراء وزينب وسعاد وغيرها في شعره وهو تقليد لشعراء العرب»(8). ويقول الأستاذ فقير محمد جهلمي: «إن آزاد قد أوجد في مدحه للنبي صلى الله عليه وسلم معاني كثيرةً نادرةً لم يوفق مثلها لأحد من الشعراء المفلقين، وأبدع في قصائده المدحية مخالص لم يبلغ مداها فرد من الفصحاء المتشدقين»(9).
فمن أروع النماذج لقصائده المدحية:
عطر النسيم سوى من الوعاء
وأفادني بشرى من الحسناء
وأزال عن دنف سقاماً معضلا
وضع المهيمن عنه كل بلاء
أعجب بمعتل صحيح الرأي في
تصحيح ممراض من الأدواء
ينجي مريض الحب من شوك الردي
من مثله في زمـرة الحكماء
نور الإله المستعان محمد
أفنى عن الأقمار في الظلماء
هو ركن بيت الله جلّ جلاله
وعماد هذي الخمية الزرقاء(10)
ومن قصيدته في المديح:
لمحت إليّ بعينها الكحلاء
فمرضت طول العمر بالسوداء
ولقد ثملت بلحظة سمخت لها
من نرجس ريان بالصهباء
وعلمت آراء العليل صحيحة
لما رأيت من العليل شفائي
أسرت قلوب العاشقين فطوقت
أجيادها بيعونها الكحلاء
فأتيت بالقلب السليم مناديا
غوث الورى في شدة ورخاء
برهان ربّ العالمين حبيبه
في الأمة الأمية العرباء
من معشر الإنسان إلا أنه
إنسان عين المجد والعلياء(11)
ومن قصيدة يمدح بها خاله محمد بن عبد الجليل:
أبروق تجد في الظلام ثواقب
أم هي ذرات في الغبار لواعب
أ أنارت الأقمار ناحية الدجى
أم أشرقت بخدودهن ذوائب
ذوالرتبة العليا محمد الذي
تاهت بعنصره الشريف مناصب
خالي وأستاذي وأثمد مقلتي
حقت على المملوك منه مواهب
الله يعلم والأنام بأسرهم
آزاد عبد طائع هو صاحب(12)
وقد أجاد «آزاد» في وصف الأماكن المقدسة ومدحها فيغني قائلاً في وصف وادي مكة:
من أي ناحية مجيئك يا صبا
إن جنت من وادي العتيق فمرحبا
أنا يا نسيم على نوالك شاكر
شرفتني متفضـــلاً مجتبا
طي الطريق على العليل مشقة
فجحنت حيث أتيت نحوي متعبا
أحييتني كرما بنفحة وردة
بسمت فأخلجلت الوميض الأشنبا(13)
وفي وصف المدينة المنورة هو يقول:
سوح المدينة ما أجل ترابها
تجد البصائر فيه فعل الأثمد
وعبارها المحسوس فوق هوائها
كحل اليقـين لمقلة المتردد
نصب لمن ضل الطريق بسوحها
علم الهدى من إصبع المتشهد
أشجارها قامت على ساق الهدى
وظلالها ماوى الرجال السجد
فهذه الصورة الرائعة المتميمزة بكثرة المعاني النادرة مع الشعور الرقيق التي وصف بها آزاد أم القرى ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ما قرضه من الأبيات الأمدوحية النبوية دليل ناصع على حبه الصادق للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذا يرى بعض الباحثين العرب أنه في وصفه أحياناً يسمو فوق البوصيري وغيره من المادحين.(14)
* * *
الهوامش:
(1) – ولعل صاحب «نزهة الخواطر» عثر هنا في ضبط سنة ولادته، فإنه ذكر أنه ولد في سنة عشرة ومائة وألف. (نزهة الخواطر، ج6، ص:208) والحقيقة دون ذلك؛ لأن السيد «آزاد البلكرامي» كتب بنفسه في كتابه «سبحة المرجان» : «أولاني الله خلعة العناصر وأراني بعنايته عالم المظاهر في الخامس والعشرين من صفر يوم الأحد سنة ستة عشر ومائة وألف بمحروسة بلغرام» ص:298-299.
(2) – نزهة الخواطر، ج6، ص:209.
(3) – المصدر نفسه، ص:208.
(4) – المزدوجة: هو من أقسام الموزونات الشعرية الفارسية، وضعها شعراء الفرس لنظم القصص والأخبار، وسموها المثنوي.
(5) – «الآداب العربية في شبه القارة الهندية» للدكتور زبيد أحمد؛ ص:251 (في الحاشية)
(6) – نزهة الخواطر، ج6، ص:211.
(7) – دواوين آزاد، ص:294.
(8) – عربي ادب مين اودهـ كا حصه، ص:165.
(9) – الحدائق الحنفية، ص:456.
(10) – السبعة السيارة، الديوان الثالث، ص:108.
(11) – السبعة السيارة، الديوان الأول، ص:2.
(12) – نفس المصدر، ص:24-25.
(13) – مختار ديوان آزاد، ص:7.
(14) – الأدب العربي في شبه القارة الهندية، لعبد المقصود شلقاني في مجلة الأزهر، (أغسطس 1975م).
(*) الباحث في مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، دهلي الجديدة.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1433 هـ = مارس 2012م ، العدد : 4 ، السنة : 36