التصور الإسلامي لارتباط العلوم والتكنولوجيا بالأخلاق

الفكر الإسلامي

بقلم : د. عبد الفتاح مصطفى غنيمة

لقد أصبح العلم أهم أجزاء الحياة المعاصرة، ولم يعد هناك منحى من نواحي الأنشطة الإنسانية في الزراعة والصناعة إلا ويعتمد في تخطيطه وتطويره على معطيات العلم والتكنولوجيا. ولا شك أن مما نشاهده ونحسه بأعيننا وبالأجهزة ما هو إلا القليل من الكثير.

       وترتبط المجالات العلمية والتكنولوجية بميادين أخرى على نفس المستوى من الأهمية تشمل علوم الفضاء والبيئة والذكاء الاصطناعى والهندسة الوراثية والحاسبات فائقة القدرة وثورة الاتصالات والمعلومات وهندسة المعرفة والعلوم الإحصائية وسباق البحث والتسلح في الميادين النووية والكيميائية والبيولوجية.

       والعلم الذي يدعو إليه الإسلام هو العلم الشامل للجانبين الديني والمادي، أما الجانب الديني فهو العلوم التي مصدرها الوحي، القرآن والسنة النبوية المطهرة وكلاهما يُعْنَىٰ بأمور العقيدة والتصور العام للوجود والنفس الإنسانية والمجتمع. أما الجانب المادي فهو علوم البحث في ظواهر الكون والحياة، هو علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والنبات والحيوان وعلوم البحار والفلك بكل جوانبها البحتة والتطبيقية.

       على أن العلم الشامل الذي يحث الإسلام على تحصيله لابد أن يكون نافعا ولا يخلو من فائدة. ومقياس النفع في التصور الإسلامي هو صالح مجموع الأمة إقامة أمر الدين، ولذلك حث الإسلام على طلب العلم النافع وجعل منه فرضاً لازماً على المسلمين فقد روى عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (رواه ابن ماجه).

       وقد حث الإسلام البشر على البحث العلمي وعلى التفكر والتدبر والتعقل، وحثهم على التعلم وأن يذكروا الله في جميع الأحوال، والعلم في الإسلام يتناول كل موجود لكي يهتدي إلى سر الله في خلقه وتكوينه وحقائق الوجود من حوله… فهو جملة المعارف والخبرات والمعلومات التي يدركها الإنسان. ولا بد أن يقترن العلم بالأخلاق والقيم، حيث إن الخلق من النفحات الإلهية، به يكتب التوفيق وعليه تقام دعائم النجاح، والفرد بخلقه لا بعلمه، وكذلك الأمم ليست بعلومها وفنونها، بل بأخلاقها وضمائرها لا تصلح إلا بهما ولا تشاد عظمتها إلا عليهما.

       فالعلم إذا دخل دائرة الخلق اتجه نحو الخير والبناء والنمو والإثمار، وإذا خرق نطاقها ولم يتقيد بها أصبح أداة شر وهدم وتدمير، وعلى هذا فمن صالح البشرية والحضارة أن يحيط الخلق بالعلم وأن يسيطر عليه ويرعاه ليسير به نحو الخير والكمال.

       لقد تقدمت العلوم والتكنولوجيا تقدمًا نتج عنه انقلاب خطير بعيد الأثر في الحياة والعمران، فقد قضى على قضايا المكان والزمان، وأتى على معجزة الاتصال بين الدول، فجعلها طوع إشارته، كشف المجاهل وجفف المستنقعات، وأروى الصحارى، ومهد الأدغال، وأباد أكثر الأمراض، فإذا الأرض أكثر تراميا وأرجاؤها أعظم اتساعا. فتح أبوابا كانت مغلقة، ووصل إلى نتائج ما كانت لتخطر على بال إنسان، وتمكن من السيطرة على مصادر الطاقة المتجددة وغير المتجددة في أشكالها المختلفة، فنمت الثروة العامة نموًّا لم يحلم به أحد من قبل، وطغت الاختراعات، وكثرت الاكتشافات، فالسفن العملاقة وحاملات الطائرات على الماء، والطائرات النفاثة في السماء، والسيارات والسكك الحديدية على الأرض وتحتها، والأسلاك الكهربائية والقنوات الفضائية تطوق هذه الكرة، والأمواج اللاسلكية تعج في الأجواء حاملة على أجنحتها الأخبار والأنباء والصور، وأصبح كثير من الناس في هذا العصر يتمتعون بأسباب من الرخاء والرفاهية والترف لم يحلم بها القياصرة في الأزمان المالضية ولكن.. هل هذا التقدم كاف؟

       هل هذا التقدم – وقد توافرت فيه كل الوسائل لتسهيل الحياة وتوفير العناء – قضى على المشاكل الاجتماعية التي يعانيها المجتمع الإنساني؟ إن العلم وتطبيقاته قد أعطت للأمم قوة وأعطت لتاركيه الفقر والذل، ويستيقظ أهل الفكر، فيرون أن العالم بعد العولمة قد اقترن بالكوارث والحروب، وقالوا إنها تفتقت عن العقول التي لا قلوب لها ويتهمون بعض الجامعات بأنها تخرج أفرادًا هدفهم اقتحام الطبيعة بالقوة وافتراس أي عوائق تعوق التقدم والسيطرة والهيمنة، أما الحب والأخلاق والرحمة والحنان فقد يكون لها موضع هو في الأدوار الدنيا، وهي من أجل ذلك مغلوبة على أمرها، والقيم الإنسانية الأخلاقية تتردد على الألسنة كلاما ولكن لا مقام لها عند التنفيذ.

       إن هذا التقدم العلمي الرهيب قد زاد المشاكل الاجتماعية تعقدًا، وسلب راحة البال وطمأنينة النفس، ويمكن القول: إنه وضع الحضارة الإنسانية في مركز خطر؛ ولذا قامت الصرخة في أمريكا ودول أوروبا تدعو إلى تدعيم الدراسات العلمية البحتة ببعض العلوم الإنسانية وبشيء من الأدب والفن يلين صلابتها ويرد إليها بعض الأحاسيس الإنسانية، التي نزعم بأنها فقدت. ومضت كبريات الجامعات التكنولوجية في تطعيم الدراسات العلمية البحتة ببعض مناهج القيم والأخلاق والأديان على أن يفسح الدارسون للعلوم الإنسانية مكانًا للعلم الطبيعي، فهي من فروع العلم والمعرفة التي لا تتم إلا بها مفاهيم الحياة.. ولماذا؟. لأن الإنسان في تقدمه لم يحسب حسابًا للخلق ومعاني الحق والواجب والمثل العليا، وقد قصرت حكمته على تحقيق الرغبات والنوازع الإنسانية المحضة.

       والذي يخشاه كبار الفلاسفة والحكماء وعلماء القيم والأخلاق أن الحكمة البشرية إذا أفلست في النهوض بعبء إدماج العلم والتكنولوجيا وقواهما العظيمة في أغراض الروح والخلق، اتجهت هذه القوى إلى التدمير والتخريب والقتل بدلاً من الاتجاه إلى التنمية والإنتاج والاستثمار والخير والحق والجمال.

       لقد أصبح شعار هذا العصر عصر العولمة (المادية فوق كل شيء). طغى هذا الشعار وتضاءلت أمامه قوة الناس المعنوية وتلاشت بها الروابط الأدبية، وانكمشت الرحمة والعطف والشفقة في أغلب وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، وأشاحت الفضيلة بمزاياها عن الإنسان، فإذا هو في غمار من حب السيطرة والهيمنة والزهو والغرور يهزأ من العفة والاستقامة والفضيلة والصلاح ولا ينظر إلى الحياة إلا من ناحية المتع والمسرات.

       لهذا فلا عجب إذا قام بعض المفكرين في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا يدعون الناس إلى حركة إصلاحية غايتها الاتجاه نحو المعنويات والروحيات، والاهتمام بتكوين الخلق والأخلاق، وجعل الحضارة قائمة عليها لينقذوا الإنسانية من الشرور المحيطة بها، ويضعوا حدًا للمشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع، وهذا ما يجعلني أؤمن بأن العالم على الرغم مما هو فيه من تخبط سيتجه نحو الروحيات ونحو الاحتفاظ بمقام الروح فوق مقام المادة، ذلك أنه إن لم يفعل وسمح للمادة أن تسيطر غير آبه للخلق ومعاني الخير والكمال، فلن تقوم للحضارة قائمة، وسيبقى السلم مهددا والمثل العليا في خطر، والناس في قلق، والأفكار في اضطراب، والأعصاب في توتر، وتتضاعف مشاكل الإنسانية ومتاعبها، وتزداد تعقدًا والتواءً، فلا يخرج من فوضى واحتلال حتى يجابه فوضى واحتلال أشد وأنكئ فلا اطمئنان ولا أمان ولا راحة ولا سلم، وعلى هذا فالعلم وحده لا يكفى لوضع حد لشرور العالم وآثامه، والعلم وحده لايكفي للخلاص من المتاعب والصعاب المحيطة به من كل جانب.

       يجب أن يقوم العلم على عناصر روحية ومعنوية تعلي من شأن المثل العليا والأخلاق السامية، كما يجب أن تقوم الحضارة على المعنويات، وتوفق بين الماديات والروحيات.

       وهل تكون الحياة آمنة يسودها الرحمة والسلام إذا كانت مادية، وكيف تكون الحياة دومًا تتجه إلى التنمية والتقدم والرخاء الرائع إذا لم تسر على هدي الروحيات؟ لن يستطيع الإنسان أن يرد عن الحياة آثامها وشرورها ومفاسدها إذا سار فيها على العلم وحده منصرفًا عن معاني الخير والجمال! بل كيف تكون الحياة سامية ذات إثمار إذا سيطرت عليها المادية من كل جانب؟ وهل يصفو عيش في جو مادي؟ وهل تستقيم حضارة بالمادية؟

       لا لا، لن تستقيم حضارة بها، ولن تتخلص الإنسانية من ويلات العلم اللا أخلاقية إذا لم تنزع إلى الروحية وتسر على هدي الخلق وطريق الحق والعدل.

       بلاء هذا العالم في طغيان المادية، وخلاصه في الجمع بين الخلق والعلم، خلاصه في روحانية تذكى في الناس معاني الخير والكمال، وتسمو بهم إلى ازدهار العواطف، إلى حيث نمو الخلق وتفتح المواهب وبروز المزايا النفسية.

       وإن في هذا كله ثمارا يانعات تجنى منها الإنسانية الخير والسلام والطمأنينة، إن في رجوعنا إلى عناصر الخلق وإلى الفضائل الاجتماعية التي نبتت في أصول الأديان السماوية الموحدة المؤمنة بالله وحده ما يضع حدا للمتاعب التي تواجه الإنسان ويجعل من العلم أداة خير وإصلاح وما يقضى على الفوضى الخلقية التي نراها سائدة في مختلف نواحي الحياة.

       إن العلم قد وضع في أيدينا قوة إذا لم نحطها بسياج من الخلق والفضائل، انقلب إلى قوة هدامة مخربة، وعلى المفكرين والفلاسفة ورجال الدين أن يعملوا على حفظه ضمن هذا السياج ليجني منه الإنسان قوى الخير والتنمية، وأن يسيروا بجهودهم في طريق إدماج العلم في أغراض الروح العليا حتى يعرف النشء كيف يعيشون، وكيف يقومون بواجبهم، ويؤدون رسالتهم بنفحات روحية، وعلى أساس متين من الأخلاق.

       يقول المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ رشدي فكار: لن يستطيع المجتمع الإسلامي أن يقدم للعالم طائرات أسرع ولا طرقا أنعم ولا سيارات أجود ولا صناعة أفضل؛ لكن بإمكان المجتمع الإسلامي أن يقول للعالم: سأعطيكم إنسانًا أكثر توازنًا واعتدالاً، أبر برًّا وإحسانًا، إنسانًا يرتبط بمبادئه، يهاب ويخشى خالقه، إنسانًا يحترم الإنسان ويعمل لإسعاده، لا الارتقاء بناطحات السحاب واستنزاف الخيرات وتلويث البيئة.

       لقد وضع المفكر رشدي فكار اللبنة الناقصة في صرح الحضارة الغربية، إنها الإنسان المتوازن بين أشواقه الروحية ونزعته العقلية وعواطفه وغرائزه.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35

Related Posts