إشراقة
الانتماءُ شيء جَيِّد محمود إذا كان إيجابيًّا بنّاءً يُمَهِّد الطريقَ إلى الخير والصلاح الفردي والجَمَاعِي؛ ولكنه مذموم إذا تعدّى حدودَه، وصار كلَّ شي، وأدّى إلى التعصّب الأعمى، وحَمَلَ على الجهل بفضل كل شيء وكل إنسان خارجَ حدود ما ينتمي إليه المُنْتَمِي.
إذا ألقينا نظرةً على المُعْطَيَات العصريّة وجدنا أن عنصر الانتماء صار ظاهرة فرضت نفسَها على الإنسان المعاصر بنحو ربما لم تفرض به الأنسابُ والقبليَّةُ والعشائريَّةُ نفسَها عليه في الماضي، فضلاً عن الحاضر الذي عاد فيه هو متحررًا منها لحدّ كبير؛ حيث لم تعد لديه قيمةٌ للاعتزاز بالقبيلة والعشيرة والفصيلة والبيوتات، بعد ما عادت الماديَّةُ واللهث وراء الثروة والتّكاثر بالمال كلَّ قيمة؛ ولكنه صنع إلهاً يعكف على عبادته وهو الانتماء المُنْتن إلى المجموعة (Group) والحزب (Party) والجماعة (Community) والجمعيّة (Society) والمؤسسة (Foundation) والمعهد (Institute) والمدرسة (School) والكليّة (College) والجامعة (University) . ومن قبل كان تركيزُه على الانتماء على عوارض وإفرازات داء العصر العديدة من العلمانيّة (Secularism) والرأسماليّة (Capitalism) والشيوعيَّة (Communism) والاشتراكيّة (Socialism) وما إلى ذلك من أخطائه التي ارتكبها في محاولة بائسة فاشلة منها للاستغناء عن الهدي الربّاني وتعمّد الضلال عن الصراط المستقيم والانحراف بالإنسانيّة كلّها عن معالم الطريق السويّ التي رَسَمَها الأنبياءُ والمرسلون.
العصر الحاضر جَعَلَ الانتمائيَّةَ قيمةً كبيرةً يتهافت عليها أبناؤه تهافتَ الفراش على النور؛ فكلٌّ ينتمي إلى المجموعة أو الجماعة التي حَصَلَ له الاتصال بها أو مُعَايَشَتُها قليلاً أو كثيرًا لسبب من الأسباب دَفَعَه إليه – الاتصال بها – أو إليها – معايشتها – من ضرورة ماديّة أو معنويّة أَلَحَّتْ عليه أن يتّصل بها أو أن يُعَايِشها؛ فنشأت له عَلاَقَةٌ معها تنشأ طبيعيًّا للإنسان مع كل شيء تقصر أو تطول صحبتُه له، فيعود مُؤَانِسًا له، حانًّا إليه، كَلِفًا به، راغبًا فيه، حريصًا عليه. ذلك أنّ الإنسان خُلِقَ أَلُوفًا أَنُوسًا. وتلك قيمةٌ كبيرةٌ فيه ومَجْلَبَةٌ للثناء عليه والحبّ له، وهو الشيء الوحيد الذي يضع الفرق بينه وبين غيره من الحيوانات والبهائم التي تَتَعَرَّىٰ عن هذه المزية.
فالانتماءُ إلى شيء لاَزَمَه الإنسان قصيرًا أو طويلاً شيء طبيعيٌّ، وهو النافع كثيرًا إذا كان المُنْتَمَىٰ إليه جميلاً طَيِّبًا، فهو يحمله على زرع الخير وصنع المعروف، والبرّ والمواساة، ومُبَاشَرَة الأعمال الإنسانيّة التي يقوم عليها المُجْتَمَع، ويَصْلُح به العالم، ويستقيم به الكون، وتستوي به الإنسانيّة. مثلاً فلان انتمى إلى جماعة للصالحين؛ فحاول جُهْدَه أن يصلح مثلَهم، ويؤدي العبادات، ويحافظ على الفرائض، ويقوم بالمُسْتَحَبَّات والنوافل، ويكون على مستوى سيرتهم، ونسخةً من أخلاقهم، ويتجنّب كلّ شيء يسيء إليهم، ويحترز من مظان السوء ومواقع التُّهَم، حتى لايقال: كيف ينتمي إليهم ولايتأتّى على سيرتهم وسلوكهم؟. وقد يشكّ الناس في انتمائه إليهم ويقولون إنّ انتماءه إليهم غير صحيح. أو قد يشكّون حتى في سيرة الصالحين الذين ينتمي إليهم، ويقولون: إنهم هم الآخرون لم يكونوا صالحين؛ بل كانوا طالحين مسيئين للقول والفعل؛ من ثم يسيء المنتمي إليهم، والمحبّ لهم، والمئتسي بسيرتهم القولَ والفعلَ!.
فالانتماءُ إلى الصالحين يُرَغِّب الإنسانَ السويَّ المطبوعَ على الفطرة في الصلاح وحسن السيرة، وجميل السلوك، وفعل الخير واجتناب الشرّ، والاحتراز من أمكنة الفساد ومواضع التُّهَم ومواطن السوء.
وعلى العكس من ذلك الانتماءُ إلى الفاسدين المفسدين ينحدر بالإنسان إلى تبنّي الفساد والإفساد، وارتكاب السيئات، والهبوط إلى الحضيض، والسقوط في قعر المذلّة، وارتكاب كل شيء يُلَطِّخ جبينَ الإنسانيّة، ويجلب لمرتكبه كلَّ العار والشنار؛ لأنه ينتمي إلى الجماعة التي ترى الشرَّ هو الخيرَ. كالمُنْتَمِي – مثلاً – إلى الممثلين والممثلات، ونجوم الأفلام الماجنة، والراقصين والراقصات، والمغنين والمغنيات، والمومسين والمومسات.
ولكنّ الانتماءَ إلى جماعة صالحة أو إلى مجتمع صالح هو الآخر يُؤَدِّي إلى الفساد والإفساد إذا اتَّخَذَه المُنْتَمي هو الغرضَ الأصلي، والمقصودَ رأسًا، واتَّخَذَ الجماعةَ أو الأوساطَ التي ينتمي إليها كلَّ شيء في الحياة، وتعصَّب لها، وانتصر لحرمتها، وتنكّر لقيمة كلّ جماعة و وسط غيرها، واعتبر المُنْتَمِي إلى غير جماعته ومؤسسته خصمَه العنيد وعدوّه اللدود، وعَدَّ الهتاف بجماعته ومُؤَسَّسَته، والثناءَ عليها، والإشادة بفضلها، والتغني بمجدها، مذهبًا من المذاهب بل ديانةً من الديانات، وجاهد في سبيلها، وخاض المعاركَ من أجل «إعلاء كلمتها» واحتسب التسبيحَ بحمدها والتقديسَ لمجدها، وآمن بأنّ ذلك ذريعةُ نجاة في الآخرة و وسيلةُ عزّ ومنعة في الدنيا.
إذا صنع ذلك المنتمي إلى جماعة أو مُؤَسَّسَة، فاعلم أنّه قد وُكِّل به الشقاءُ وقُدِّرَ له البلاءُ، وحُرِمَ خيرًا كثيرًا، وسُدَّ في وجهه طريقُ السعادة، وفُتِحَ أمامَه طريقُ الفساد والإفساد؛ لأنّه لايصنع سوى أن يسيء الظنَّ بكل من هو خارجَ أوساطه، ويعود ضَيِّقَ الأفق، قاصر النظر؛ لأنه يؤمن بأن الخير محصورٌ في أوساطه وفي جماعته أو مُؤَسَّسته، وأن سعادة المجتمع الإنساني منوطة بها وحدها، وأنّه لولاها لما استقام له خير، ولم يتحقق له فلاح، ولما تيسّر له صلاح. مثل هذا الإنسان يتحوّل مفسدةً لنفسه وللمجتمع حوله، ويعود أضرَّ على بني جنسه، وإن كان ذا مواهب ومُؤَهِّلات كثيرة؛ لأنّ الانتمائيَّة المنتنةَ تكون قد أفسدتها عليه من حيث يظن أنها أصلحته وأصلحتها.
الانتماءُ ينفع إذا بقي إيجابيًّا، ويضرّ فقط ولا ينفع أبدًا إذا صار سلبيًّا. الانتماء إلى جماعة أو حزب أو مؤسسة يبقى إيجابيًّا إذا كان المنتمي إليها يحبّها، ويعرف فضلها، ويقرّ بإفاديّتها، ويصدق في ولائه لها، فينفعها مادِّيًّا أو معنويًّا أو على كلا الصعيدين، ويشيد بفضلها في كلّ نادٍ و وادٍ، ويصنع معها من المعروف ما هو بوسعه، ويزيدها سمعةً طيبةً، بسلوكه الحسن، وسيرته الجميلة، ومآثره الخالدة، وأعماله الجليلة، وإنجازاته الرائعة، وإشادته بفضل كلّ مُؤَهَّل مهما كان لاينتمي إلى أوساطه أو جماعته أو مؤسسته، فيجعل الأصدقاءَ والأعداءَ كلَّهم لسانَ ثناء عليها؛ لأنهم لايسعهم إلاّ أن يعترفوا بأنها طيِّبة المنبت نزيهة الأساس؛ لأن أبناءها والمنتمين إليها والصادرين عنها يعرفون لكل ذي فضل فضلَه مهما كان لاينتمي إليها وإنما ينتمي إلى غيرها من الجماعات والأوساط والمؤسسات.
والانتماءُ يُصْبِح سلبيًّا إذا حَمَلَ المُنْتَمِي إلى التعصّب الأعمى، والنظر شزْرًا إلى كل جماعة غير جماعته أو كل مؤسسة غير مؤسسته أو إلى كل وسط غير وسطه، وحَوَّل ذلك قضيَّةَ حق وباطل؛ فالحقُّ مقصور على جماعته، وغيرُها باطلٌ، فالمنتمي إليها يتبنّى الباطلَ؛ فمصيرُه مشؤوم، ويُخَاف أن يستحق العقابَ الأليم يوم القيامة لقاءَ انتمائه إلى ما ينتمي إليه!.
المسلمون مُطَالَبُون بالتوحيد وإفراد الله بالعبادة والعبوديّة، ولايجوز لهم أن يعبدوا غيرَ الله من الأشياء أو الأشخاص أو الجماعات أو المجموعات، وأن يتخذوه إلهاً من دون الله عز وجلّ. والانتصارُ الزائد لجماعة أو مجموعة أو مؤسسة لحدّ المبالغة وتجاوز الحدّ المرسوم، إنما هو اتخاذُ صنم من الأصنام التي يعبدها الوثنيّون والمشركون. الجماعةُ أو الفردُ أو المجموعةُ أو المؤسسةُ قد تصيب وقد تخطئ، وقد تنفع وقد تضرّ، وقد تكون إنجازاته إيجابيّة وقد تكون سلبيّة، فلا يجوز أن تُتَّخَذَ إلهاً يُعْبَد، وإنّما المعبود هو الله الواحد الأحد الصمد الذي أفعالُه كلُّها صائبةٌ لا يمسّها خطأٌ ولا يشوبها عِوَجٌ أو انحرافٌ.
الإيمانُ بالإفاديّة المطلقة والقداسة المؤكدة لجماعة أو وسط أو مجموعة ضلالٌ وغوايةٌ عن الطريق السويّ وشذوذٌ عن العقل السليم والحسّ المستقيم، فلا يتبنّاه إلاّ المجنون والمفتون في عقله أو الذي حَرَمَه الله التوفيقَ والسدادَ والسعادةَ في الدنيا والآخرة. اللهم أَلْهِمِ الكلَّ الرشدَ الضامنَ له الفلاحَ في الدنيا والآخرة.
أبو أسامة نور
( تحريرًا في الساعة 12:30من ظهر يوم الأربعاء: 15/ شوال 1432هـ الموافق 14/ سبتمبر 2011م) .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35