إشراقة

أبو أسامة نور

       الإنسان لايَعْظُمُ بالمؤهلات العلمية وحدها، وإنما يَعْظُمُ إلى جانب ذلك بنزاهة السيرة وحسن السلوك ومكارم الأخلاق. كثيرٌ من الناس ينخدعون عندما يرون عالماً بالدين، أو مفتياً أو داعيةً، أو مُؤَلِّفًا أو كاتباً يُعْجَبُ به الناس أو يحبونه كثيرًا وينجذبون إليه ويَتَرَامَوْن عليه تَرَامِيَ الفراشِ على النور، فيظنون أن ذلك يرجع إلى علمه الغزير، ومُؤَهِّلاَته العلميّة، وقُدُرَاته الكتابيّة، واجتهاده الكبير في سبيل الدعوة إلى الله، وإكثاره من التأليف وإثرائه للمكتبة الإسلاميّة، فلنُحَاكِه في هذا الجانب، حتى نكون محبوبين لدى المجتمع، وموضع إعجاب الناس، ونكسب الصيت، ونتمتع بالسمعة الطيبة، ونحقق ما نصبو إليه من الأغراض الدنيوية والمطالب المعنويّة.

       على حين إنّ ذلك العالم أو الداعية أو الكاتب أو المُؤَلِّف إنما يكون موضعَ حبّ الناس وإعجابهم، بسيرته الصالحه، وعمله بالدين بحذافيره، وإنسانيته الصادقة، وتقواه وإخلاصه، و ورعه واحتسابه، واتصاله بالله في ساعات الليالي الهادئة التي يغطّ فيها الناس في النوم الهنيء المريء؛ ولكن الناس إنما ينظرون منه إلى ظاهر أعماله، فلا يتأمّلون في سيرته الباطنة التي أكسبته الحبَّ والإعجابَ بين الناس؛ لأن الله أَحَبَّه فوضع حبَّه في قلوب الناس. محبوبيَّةُ الصالحين بين الناس إنما تنبع من محبوبيّتهم لدى الله عَزَّ وجَلَّ، ورضا الناس عنهم فرعٌ لرضا الله عنهم. وما يظنه الناس سببًا في المحبوبيّة ليس هو السببَ وإنما السبب شيء آخر وراءه لايتبيّنونه لأنهم «ظاهريّون» في الأغلب، لاينصرفون عن الظاهر إلى باطن الحقيقة والجانب المختفي عن الأنظار.

       والعجيبُ أنّ بعضَ الطموحين منهم يتبادرون إلى محاكاة ظاهر صالح من الصلحاء، فيكسبون من الأهليّة العلميّة: الكتابية والتأليفية والدعوية ما لا بأسَ به؛ ولكنهم لايُتَاحُ لهم أن يكسبوا حبَّ الناس وإعجابهم؛ فيقولون: إنّ الله لم يُرِدْ لهم المحبوبيّة لدى الناس، ولم يقدر لهم المقبولية لديهم، رغم أنهم قد كسبوا الأهليّة العلميّة الدعوية الكتابيّة المماثلة للأهليّة العلميّة الكتابية الدعوية التي يتمتع بها العالِم فلانٌ!.

       الحقُّ أن هؤلاء يخطئون عندما يظنون أن مجرد الأهليّة العلمية يضمن لأحد المحبوبيّة الشعبيّة والمقبوليّة العامّة؛ لأنّ حبَّ الناسِ شيء لايمكن شراؤه بثمن مُتَمَثِّل في مجرد الأهليّة العلميّة، والمجاهدة الدعوية الظاهرة، والأعمال التأليفية والكتابيّة الضخمة. وإنما يمكن كسبُه بسهولة أيِّ سهولة بالسيرة الطيبة التي تستعبد الناسَ: عقولَهم وقلوبَهم؛ والسلوكِ الجميلِ اللطيفِ الذي يستأسر كيانَهم؛ والتفاني في خدمتهم الدينية والعقديّة والدعوية الذي يجعلهم يفدون بقلوبهم وقوالبهم صاحبَه، مهما كان مفلسًا في المؤهلات العلميّة والقدرات الدعوية والكتابية. فإذا جمع هذا إلى ذلك كان أحبَّ الناس لديهم، وأعزَّهم عليهم.

       حاكيتَ عالماً صالحاً، أو داعيةً محتسبًا، أو مُؤَلِّفاً وَرِعًا، أو كاتبًا تَقِيًّا في علمه الغزير، فكسبتَه على مستوى ما كَسَبَه، وفي مواصلته أعمالَ الدعوة ليلَ نهارَ؛ ففُقْتَه في هذا المجال، أو ألّفتَ من الكتب ما بَذَّ العددَ الذي كان قد بلغه، أو أكثرتَ من الكتابة فامتلأتْ من كتاباتك الصحفُ والمجلاتُ، حتى آمن القراء أنّك أكتب الكُتَّاب المعاصرين؛ ولكنك محلوق اللحية، ومُطْلَق الشارب، سِرْوَالُك يُغَطِّى كَعْبَيْك أو يتجاوزهما، لاتصلي ولاتصوم إلاّ اِتّباعًا للموضة عندما ترى الحاجةَ إلى هذا الاتّباع، ولا تُفَرِّق بين الحلال والحرام في كسب المال وإنفاقه، تُهْتَرعُ إلى مطالب المادة والمعدة متسارع الخطو، كأنك تموت إذا لم تدركها، كلُّ همّك هو كسبُ الشهرة الزائدة والعزّ الدنيويّ، وجمعُ المال الطائل والثروة المُطْغِيَة، والقصرِ الشامخ والسيّارةِ الفارهة، وتحسينُ ما يتّصل بهذه الدنيا التي أيّامُها محدودة وتلميعُ هذه الحياة التي أنفاسُها معدودة، وتعيش كأنك لاتموت أبدًا، وتتعامل مع الحياة كأنها لافناءَ لها، سيرتُك العامّة تشفّ عن أنك تودّ أن تُسَابِقَ المتنافسين في حطام الدنيا فتَسْبِقَهم وتحوز قصبَ السبق مُقَابِلَهم، وأنك تحاول جهدَك أن تكون مُجَلِّيًا لا مُصَلِّيًا في السباق في جميع مجالات الحياة التي تمسّ جانب العاجلة وحده ولاتمتّ بصلة إلى جانب الآخرة.

       فهل تكون عندئذ موضع حبّ الناس وإعجابهم، وهم يرونك أنّك من عُبَّاد المادة والمعدة مثلَهم. إنهم يرفضونك بل يمجّونك، ويكرهونك كراهيتَهم لكلبة ميتة انتفخت وتفسّخت وانتشرت منها رائحتها الكريهة، وعمّت كلَّ مكان. إنّ العلم المُجَرَّد من العمل، والدعوةَ إلى الله الفارغةَ من الإخلاص، والأعمالَ الكتابيّةَ والتأليفيةَ الخاليةَ من الاحتساب، والأعمالَ الدينيّةَ كلَّها التعليميةَ والتربويّةَ والإصلاحيّةَ الفرديةَ والاجتماعيّةَ، التي لاتُجَمِّلها السيرةُ الطيبةُ، ولايُزَيِّنها السلوكُ الحسنُ، ليس لها قيمةُ حبّة خردل لدى الله، فلا تنفع صاحبَها لدى الناس، فضلاً عن أن تكسبه محبوبيّةً فيهم.

       لقد انخدعَ وسيظلّ ينخدع كثيرٌ من الناس حريصون على كسب الشهرة، والعزوالكرامة، والجاه والرتبة، والمكانة المحترمة لدى المجتمع، والمنافع الماديّة، عندما يرون مُحْتَرَمًا لدى الناس، فيبحثون عن دواعي احترامه، فنظرتُهم القاصرةُ تقف على ظاهره، فتُؤَكِّد لهم أنّ ما يوجد فيه على المستوى الظاهر هو السبب في احترام الناس له، و وضعهم له على رؤوسهم وعيونهم، وفرشهم له قلوبَهم وصدورَهم، من علم تعمّق فيه وتوسّع؛ ومن مُؤَلَّفات دَرَسَ لها وبَحَثَ وسَهِرَ الليالي وتَعِبَ النهار؛ ومن أعمال خيريّة اجتماعيّة دَوَامَ عليها وثَابَرَ، وكتابات في موضوعات ساخنة وقضايا معاصرة وتطوّرات أخيرة شَهِدَها بلادُه والعالمُ كلُّه، فتَابَعَهَا بدقّة وكَتَبَ فيها ما أجاد وأفاد فأَعْجَبَ الناسَ على اختلاف شرائحهم ومذاهبهم وانتماءاتهم؛ ومن خطابات ساحرة أعانه عليها لسانُه الذربُ البليغُ وتَفَتَّقَتْ لها قريحتُه المُؤَيَّدَةُ بالتوفيق الإلهيّ، فصَفَّقَ لها الحضورُ، واسْتَجَابَتْ لها الجدرانُ، والأحجارُ والأشجارُ، والقصور والمنازل، التي كانت حولَ أمكنة الحفل الذي خَاطَبَه. وكلُّ ذلك شَكَّلَ سببًا قويًّا في احترام الناس له، وإعجابهم به؛ فيندفعون إلى بذل كلِّ ما في وُسْعِهم ليَحْظَوْا بهذا السبب الظاهر، و ربّما تنجح مساعيهم، فيكسبون من عناصر السبب الظاهر كلَّها أو جُلَّها أو بعضَها؛ ولكنّهم يُجَرِّبون أنّهم رغم ذلك لاينجحون في كسب إعجاب الناس واحترامهم؛ لأنهم أخطأوا عندما ظنّوا أن احترام الناس البالغ، لذلك المُحْتَرَمِ إنما يرجع فقط إلى السبب الظاهر على حين إنه يرجع أصلاً إلى السبب الباطن الذي لم يَتَمَكَّنُوا من التوصُّل إليه. وهو إخلاصُه واحتسابُه في كلّ ما يصنع، واهتمامُه بصنع باطنه أكثر من اهتمامه بصنع ظاهره، وصدورُه في الأعمال عن تقوى الله، وإفراده بالعبادة والعبوديّة، وقصرُ آمالِه على الآخرة وانشعالُه بها عن العاجلة، وتعزيزُ صلته بالله وعدمُ اكتراثه لتدعيم الصلة بالناس؛ لأن الصلة القوية بالله أغنته عن الصلة بالناس. ومن يُرْضِ الله يَرْضَه الناس.

       الذين يحاكون رجلاً صالحًا في أهليته الظاهرة، ولا يأتسون به في أهليته الباطنة، يعجزون عن كسب حبّ الناس، الذي إنما ينشأ عن الأهليّة الباطنة: الصلاح والتقوى، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والاهتمام البالغ بجانب الآخرة، والانشغال الكامل به عن الاهتمام بجانب الدنيا، وحب الخير للناس، والسعي الدؤوب لصلاحهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة، وإخلاص العمل لله، وروح الاحتساب في جميع الأعمال، واجتناب الحرص على السمعةِ والرياءِ والعزِّ الدنيويّ والمكانةِ المحترمةِ بين الناس، وما إلى ذلك من الأغراض الماديّة التي تجعل الناس يزهدون في حبّ من يرغب فيها ويتبنّاها.

       كلُّ الذين يتخلّقون بأخلاقِ صالح في ظاهرِ أعماله، ويحاولون أن ينزلوا على مستوى سيرته التي تَتَبَدَّىٰ للناس ويرونَها بالعين، ولايتجاوزونها إلى السيرة الباطنة والأخلاق الحقيقية، والمُؤَهِّلات الأصليّة التي هي بمنزلة الروح من جسد الأخلاقِ الظاهِرة، والسيرةِ الباديةِ، والمُؤَهِّلاَتِ السطحيَّةِ، يصدق عليهم ما قاله شاعرُ العربيّة الكبيرُ المتنبئُ (أبوالطيب أحمد بن الحسين المتنبئ الكندي الكوفي 303-354هـ = 915-965م) في أبياته الحكيمة الخالدة التي قالها في مدح سيف الدولة الحمداني أكبر ملوك الحمدانيين في سوريا (303-356هـ = 915-965) الذي نبغ في بلاطه المتنبئ وأبو فراس الحمداني الحارث بن سعيد التغلبي الشاعر الفارس ابن عم سيف الدولة (320-357هـ = 932-968م) وأبو نصر محمد بن محمد الفارابي أكبر فلاسفة المسلمين (260-339هـ = 874-950م):

تُفِيدُ الْجُـودَ مِنْكَ فَتَحْتَذِيهِ

وَتَعْجِزُ عَنْ خَلاَئِقَكَ الْعِذَابِ

       يقول: إنَّ السحبَ الساريةَ ليلاً والسحب المنتشرةَ نهارًا تستفيد منك الجودَ فتأتي بمثله، وتحاكيك في إنزال المطر، فتُمْطِر المياهَ، كما تُمْطِر أنت ياسيف الدولة الهباتِ والعطايا الكبيرةَ الجزيلةَ المتصلةَ؛ لكنها تعجز عن التخلّق بأخلاقك العذبة الجميلة التي تُمَيِّزك عن غيرك من الواهبين والجوادين والأسخياء؛ فإنك لدى إنزالك مطرَ الهبات تلتزم بأخلاق عذبة وسيرة حسنة تَشِفّ عن طيب باطنك وعن أن الجود طبعٌ فيك لا تطُبّعٌ؛ ولكن السحبَ عندما تُنْزِل الأمطارَ لا تقدر على الانتساء بك في أخلاقك الطيبة، فهي تُرْعِد، وتُبْرِق، وتخيف، وقد تُنْزِل من الأمطار أكثرَ من اللازم فتُشَكِّل سيلاً جارفًا وفيضانًا مُهْلِكاً للحرث والنسل، وقد يَتّصل نزولُ المطر فيمنع الناسَ من التحرك في الحياة ومباشرةِ الأعمال اليوميّة التي لابدَّ منها لكسب الرزق وتحصيل لقمة العيش وإمضاء الحياة؛ فيتعرّض كثير منهم للجوع والفاقة، وللخسارة الفادحة في المصالح اللازمة.

       في الأغلب – كما أسلفنا أكثر من مرة – يحدث أنّ الناس إنما يرون ظاهرَ الناس، فينخدعون به، ويحاولون أن يقتدوا بهم فيه، ولايخترقونه إلى باطنهم الذي يكون السببَ الحقيقيَّ والعاملَ الأساسيَّ في تكوين شخصيّتهم وتحديد هُوِيَّتهم وإضفاء المحبوبيّة عليهم. إن الظاهر ربّما يكون خادعًا، والحقيقةَ ربما تكون خافيةً وراء الباطن، والكيِّسُ هو من يراهما معًا ويقارن بينهما؛ فيتوصّل إلى أنّ الحقيقةَ خافيةٌ وراء الباطن، والظاهرَ إنما هو فرعٌ من أصل الباطن، فلابدّ من تبنّي الباطن، ولا مَعْدَىٰ عن الانقياد لإملاءاته ومَطَالِبه ومُقْتَضَيَاته.

       أما الأحمقُ فيُعْجَب بلمعان الظاهر الذي إنما هو نتيجة الباطن، فيخفق في تحقيق الغرض، ويخيب في التوصّل إلى المطلب الذي كان بصدد أن يناله، فيحار في تفسير العوامل وراء إخفاقه: أهي التقدير الإلهي، أم سوءُ تدبيره، أم خيانةُ التوفيق، أم عدمُ وقوفِ الموقف اللائق، في الوقت اللائق، بالقدر اللائق، وبالأسلوب الإيجابيّ الحكيم اللائق الذي يفتح كلَّ باب مُغْلَق؟!.

( تحريرًا في الساعة 9 من الليلة المتخللة بين الإثنين والثلاثاء : غرة ربيع الثاني و2/ من ربيع الثاني1432هـ  الموافق 7 – 8/ مارس 2011م) .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادي الثانية 1432هـ = مايو 2011م ، العدد : 6 ، السنة : 35

Related Posts