العالم الكاتب القائد الشيخ عميد الزمان القاسمي الكيرانوي

إلى رحمة الله

بقلم : محمد أجمل القاسمي

الأستاذ بالجامعة القاسمية شاهي بمراد آباد ، الهند

وافت المنيةُ بالعالم الديني الكبير، وأديب العربية القدير، والقائد الخبير، والمفكر المحقق الشيخ عميد الزمان الكيرانوي الشقيق الأوسط لمعلم العربية الموهوب العلامة الأديب الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي صاحب القواميس المعروفة وأستاذ الأدب العربي السابق بالجامعة الإسلاميّة دارالعلوم بديوبند، وذلك يوم الجمعة 24/ سبتمبر 2010م الموافق 14 شوال 1431هـ بعد داء عضال فقد رحمه الله رغبته إلى الطعام كليًا وعاد مسلوب الذاكرة ومنهول القوى. فإنا لله وإنا إليه راجعون .

       كان رحمه الله من العلماء القلائل المحظوظين الذين وجدت محبَّتهم طريقها إلى القلوب واحترامهم سبيله إلى أعماق النفوس. وجاء ذلك نابعًا عن الصفات الجليلة والسمات الحميدة التي تمتع بها، فقد جمع رحمه الله بين المؤهلات والكفاءات والأعمال والخدمات والاهتمامات انصبت في اتجاه إسعاد الأمة المسلمة والدفاع عنها وعن كل ما يتصل بدينها ودنياها، إلى القلب المتفتح، والفكر المستنير، والعقل الخبير الواسع، إلى جمال الصورة وحسن الهندام وشخصية وقورة ولسان عذب.

       وقد كان حبُّ الناس له حبًا مزدوجاً فقد أحبه الناس مرة لأنه جمع في شخصيته ما يستميل القلوب ويستهوي النفوس، وأحبوه ثانياً لأنه كان شقيقَ العالم العبقري معلم العربية المثالي العلامة وحيد الزمان الكيرانوي القاسمي وكان كما يصفه تلميذه العظيم وأستاذنا الكريم الأديب الأريب والكاتب القدير الشيخ نور عالم خليل الأميني قائلاً: «قد وهبه الله من سحر الشخصيّة وعذوبة المنطق وسليقة التربية ومقدرة النفوذ في أغوار نفوس الشباب وامتلاك القلوب ما جعله عميم النفع كثير الإنتاج غزير البركات» ويضيف قائلاً: «ولم تعرف حياتنا معلمًا أخلص لتلاميذه هذا لإخلاص وأحبه تلاميذه هذا الحب وحاولوا أن يكونوا نسخة منه في صفاته هذه المحاولة العجيبة».

       وقد ورث الشيخ عميد الزمان هذا الحب من تلامذه أخيه الكبير الذين اعتبروه وارثاً لهموم الأستاذ وعلومه وعلّقوا عليه الآمال في إنجاز ما تبقى من أعماله رحمه الله تعالى.

       وُلد – رحمه الله – في أسرة كريمة كانت تعد الاهتمام بالدين الإسلامي أكبر فريضة، وكانت لها مُثُل عليا وأعراف كريمة وقيم خلقيّة خلّفها الأسلاف في أعقابهم، ورثها الأبناء عن أبائهم، أضف إلى ذلك أن والده الشيخ مسيح الزمان رحمه الله كان من الخريجين البارزين في الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم بديوبند الذين جمعوا بين العلم والعمل وقوة الإيمان والسعي الحثيث لصلاح المسلمين، وكان من الذين ساهموا في معركة التحرير، ولقي ما لقيه العلماء في سبيل الحريّة.

       وقد قاد التوفيق الإلهي الشيخ عميد الزمان أن يتعلم في جامعة ديوبند: أكبر مركز إسلامي ومعقل ديني في شبه القارة الهندية، يزود أبناءها بالعلم الصحيح النقي من الشوائب، والحمية الدينية القوية وروح الجد والتضحية في سبيل الدين فتهيأت للكيرانوي هذه البيئة المثالية لتساهم في تكوين مزاجه وفكره وخلقه فتورثه حب الدين والعقيدة والعلم وأهله إلى الاهتمام بالقيم الخلقية المثلى.

       وقد اجتاز الشيخ عميد الزمان باكورة عمره وفتوة شبابه برعاية أخيه الكبير الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي الذي عاش حياة حافلة بالنشاطات كثيرة الاهتمامات، فهو – في جانب – أسدى جهوده وجهاده في توسيع رقعة اللغة العربية وتخريج جيل من المؤهلين في هذا المجال، وشاطر الأمة أحلامها وآلامها، وبذل السعي الحثيث لصالحها في جانب آخر، فهذه الرعاية غرست في قلب الشاب عميد الزمان الكيرانوي حب العمل والشعور بالواجب لاتجاه نفسه فحسب بل تجاه الدين والأمة والعباد والبلاد.

       ثم إن الشيخ الكيرانوي لم يكتف بالثقافة التقليدية التي نالها في البيئة المدرسيّة بل ألمّ بالثقافة الحديثة وأخذ منها ما يصلح، وتضلع من العربية فتغلّب عليها فهمًا ونطقًا وكتابة كما تضلّع من الإنجليزية وتمكن منها فهمًا ونطقًا. يقول الدكتور شفيق أحمد خان الندوي رئيس قسم اللغة العربيّة وآدابها سابقًا في الجامعة المليّة الإسلاميّة: «أتيح لي أكثر من مرّات أن استمعتُ إليه وهو يقرأ مقالاته في الندوات أو يلقى محاضراته في البرامج، كانت له القدرة الفائقة على اللغات الثلاث الأردية والعربية والإنجليزية ولا أبالغ إذ أقول إنه رحمه الله مع كونه هندي المولد والمنشأ كان ينطق العربية السليمة وبلهجة الناطقين بالضاد». فجاءت هذه الأمور كلها لتكسب الشيخ نضجاً في العقل وسعة في النظر وتنوّرًا في الفكر وخبرة عما يعيشه العالم من التطورات والملابسات.

       وقد انصرف الشيخ إلى كسب المعاش ولم يشتغل بمهنة التدريس على شاكلة أخيه الكبير، ولو اشتق لنفع الطلاب كثيرًا وأتى بالأداء الحسن والإنتاج النفيس والعطاء النافع وكان له شأنٌ ودورٌ يُذكر لما رزقه الله من الرسوخ في العلم وقدرة فائقة على شرح المواد بحيث يجعلها سهلة مستساغة وقد أتيح لي أن أشارك دروسه عندما كنت طالبًا في معهد التخصص باللغة العربية الكائن بذاكر نغر بدهلي الجديدة الذي كان الشيخ يُشرف عليه ويُديره . وكان يحضر لإلقاء الدروس في فترات متباعدة حسن ما تسمحه همومه المتكاثرة بعد إخطار مُسبّق، فكان يختار كتاب أحمد أمين «حياتي» للدرس ويكلف الطالب بقراءة العبارة ويهتم بتصحيح النطق ومحاكاة اللهجة العربية الأصيلة. ثم يشرد الكلمات اللغوية فيلفت انتباهَ الطالب إلى التعبيرات وأساليب الأداء فيأخذها ويُقلِّبها على وجوه مختلفة ويحولها إلى جمل كثيرة، ثم يُكلِّف الطالبَ بإجراء هذه العملية ويُنبّه إن أخطأ ويُشيد إذا أجاد. ثم يأخذ المعنى ويؤديه بطرق مختلفة ليُعلم الطالبَ تأدية المعنى الواحد بطرق عديدة.

       وكان يأتي ذلك منه في العربية الفصيحة مقرونة بحسن الأداء ولجهة أصلية سليمة لاتشوبها العجمة، وعذوبة منطق تصافح الآذان، ولباقة الحوار تجعل الطالب مشدوهَ الانتباه، وفي سهولة نادرة، لا تخونه التعبيراتُ ولا تأبى به الكلماتُ. وإذا أنهى درسه نشكو عدم التشبّع ونرغب في يذاللذيذ.

       وكثيرًا ما يكون أن الرجل يملك ناصية الكلام فيُجيد النطقَ والخطاب إلا أنه لايقدر على كتابة بضعة سطور في أسلوب متين. أما الشيخ الكيرانوي فكانت قدرته على الكلام بقدر قدرته على الكتابة فقد صدر عن قلمه مقالات رائقة ومحاضرات بديعة، جامعة بين طلاوة اللفظ وغزارة المعنى مُمَدَّة بدراسة واسعة حاصلة عن تقليب المراجع والتجوال المضني بين الكتب. إلّا أنه مع إتقانه الكتابةَ ما أكثر منها.

       اتّجه الشيخ الكيرانوي إلى كسب المعاش، ونال وظيفة فخمة، وتقاضى مرتَّبًا ضخمًا، وعاش حياة سعيدة نعم فاز بذلك كله إلا أنه جاء وتكمن فيه خسارة للعلم وخسارة للبحث والتحقيق النفيس، وقد جنى رحمه الله بحقه أكثر بحق أهل العلم، وبطبيعة الحال فإنه كان شاعرًا بذلك أكثر من غيره، وقد اشتد به هذا الشعور كلما امتد به العمر وفاتتْه فرص العمل. وانتهى به في عاقبة الأمر إلى الاستقالة من الوظيفة ليُصرف همومه إلى البحوث والتحقيقات العلميّة ويستدرك بعض ما فاته، وفعلاً قد بذل – رحمه الله – سعيه الحثيث في إبراز القاموس الوحيد الذي ارتحل مؤلّفه إلى رحمة الله قبل أن يرى الكتابُ النور، فقام بتصحيح ما وقع فيه من الأخطاء، وقابل المسوَّدة بمراجعها واستدرك ما فات المؤلف، وأبرزه بعدما حلّى جيده بمقدمة علميّة قيمة تحدث فيها بشيء من التفصيل عن تأريخ القواميس وتدوينها وما مرّت به من مراحل الرقي والازدهار مُمِدًّا ذلك كله من علمه الثّرو دراساته الواسعة، فجاء الكتاب مثار إعجاب الناس وموضع استحد أهل. وعاد محقّقه يُطبِّق صيتُه الأوساط العلمية والأدبية والمدرسية والجامعيّة ونال رحمه الله حقه من التقدير والإشادة من كل جانب.

       إلّا أن سلسلةَ البحث والتحقيق التي بدأها الكيرانوي لم تستمر طويلاً، فسرعان ما وقعت عليه أنظار بعض المنظمات الإسلاميّة التي كانت بحاجة شديدة إلى رجل محتّك قوي موثوق به ينظِّمها ويدفع عجلتها في سبيل تبنّي أهدافها، فجذبت الشيخَ إليه جذبًا لم يستطع معه البقاء على ما بدأه مع رغبته الشديدة إليه، ووقعت المأساة ثانية على الذين علّقوا عليه الآمال ورحَبوا منه العطاء النافع في مجال البحث والعلم. نزل الشيخُ في مجال الخدمة العامّة إلاّ أنه لم يكن مُرتاحَ البال وراح ذلك الشعور يحضّ في قلبه، فبدأ سلسلة جديدة لنشر اللغة العربيّة وأسّس معهدَ التخصص في اللغة العربيّة الذي هدف إلى إعداء العلماء المؤَهَّلين المتضلِّعين من اللغة القادرين على الاستفادة من المصادر القديمة والحديثة وإرسالهم إلى المدارس الإسلاميّة لنشر اللغة العربية تعليمًا وتعلمًا وتاليفًا وكتابة. وقد قام المعهد بتخريج عدد لا بأس به من المؤهّلين في العربية إلاّ أن نتاجَه لم يأت وفقَ المأمول في الأغلب لأسباب يطول ذكرها، ومما زاد الطين بلةً أنّ المتخرجين في المعهد في أغلب الأحيان لم يقصدوا إلى المدارس الإسلاميّة، الأمر الذي وجّه صدمة لآمال المؤسِّس الذي كان يتطلع إلى إيجاد جو عربي في المدارس من على هذا المنبر. فوضع الشيخُ طريقًا جديدًا النشر اللغة العربيّة في البيئة المدرسيّة. وأصدر جريدة «إقرأ تتحسّن لغتك العربية» وكان يرأس تحريرها المترجم البارز المتضلّع من اللغتين العربية والإنجليزية أستاذنا المحترم الشيخ راشد علي القاسمي أستاذ اللغة العربية والترجمة بالمعهد سابقًا والمقيم بديوبند حاليًّا. وسلكَ حفظه الله أسلوبًا بديعًا غير مسبوق لتعليم اللغة العربية. قد صحّ حفظه الله إذ قال «إنّها – الجريدة – تُعد القراء للدخول إلى عالم الترجمة من أوسع أبوابه» إلا أن الجريدة هي الأخرى لم تنل حقها من اهتمام الطالب المدرسي الذي ينقصه الطموح والمثابرة للحصول على شيء في أغلب الأحيان. وانتهى الأمر بإغلاق الجريدة مأسوفاً عليها.

       كان – رحمه الله – عالماً خبيرًا، وقائدًا بصيرًا موثوقاً به في الشؤون القيادية والأعمال الجماعية حزمًا رزينًا متأنّيا في الأمور، أنيقًا في الملبس والمأكل وفي جميع شؤون الحياة، نظيفًا يتوخّى النظافة في كل شيء، محبًا للنظام كارهاً للفوضوية سريع الغضب إذا رأى معنى من معانيها فيما يتصف به.

       وكان من سماته الأدب والحلم، والسماحة والوقار، والمهابة والتواضع، فكان رحمه الله يستشير رفقاؤه في أمور عادية وغير عادية، ويستمع إلى الصغير والكبير ويعطى حقَّه من المحبّة والتقدير وكان رحمه الله يحترم عواطف الآخرين ولو كان الآخر صغيرًا أو تلميذًا، فقد ذكرني زميل لي في المعهد أن الشيخ أرسله لحاجة، ولمّا عاد صدر عنه بعض تصرُّفات خرقاء منشؤُها الغفلة، إلاّ أنّها كانت تمسّ وقار الشيخ، فاشتاط غضبًا، وبالغ في التوبيخ صادرًا أمره إليه بمغادرة المعهد. إلاّ أنه حضر في اليوم التالي وقد هدأت ثورته، فدعا الطالب وقربه وتلطف به وقدّم اعتذاره إليه في صراحة الكريم قائلاً: «إنيّ بالغتُ في التوبيخ وأغلظت لك في القول فأرجو عفوك». وودّع الطالبَ راضيًا عنه. فمثل هذا الموقف الذي جاء نابعًا عن التواضع وروح الاحترام لعواطف الآخرين أراه كبيرًا لمن يقوم مقام الشيخ عميد الزمان الكيرانوي ولاسيّما إذا كان الآخرُ صغيرًا وتلميذًا.

       كما كان الشيخ من الذين ينتقدون أنفسهم ويبحثون عن عيوبهم بالعكس من الكثير من الذين يُعمون أبصارهم عن الجذع في عيونهم ويلمحون الريشة الضئيلة في عيون الآخرين، وتمثل لي ذلك عندما كان الشيخ يلقي محاضرته على كتاب أحمد أمين «حياتي وبلغ العبارة التالية:

       ثم إن حديث الإنسان عن نفسه عادة بغيض ثقيل، لأن حب الإنسان نفسه كثيرًا ما يدعوه أن يشوب حديثه بالمديح ولو عن طريق التواضع أو الإيماء أو التلويح» .

       لما بلغ الشيخُ العبارةَ التي تحتها خط ردّدها في نشوة عجيبة كأنه ظفر بضالة يَهيم على وجهه في البحث عنها، ثم قال لله در أحمد أمين كتب قولاً بديعًا وكأنه كتبه لنفسي وأشعر كأنه يخاطبني أولاً قبل غيري إنه ينبّهني على نقيصة في نفسي فإن من عادتي أيضًا أني أشوب حديثي بالمديح عن طريق التواضع وهذا أيضًا مما ينقص الرجل الكامل. فاطلاع الرجل على نقيصة من نقائصه إذا كان يسرُّه هذا السرور ويدفعه على الاعتراف بالنقيصة أمام تلامذه فإنه يأتي دليلاً كبيرًا على كون الرجل طيبَ السيرة نقيَ السريرة لاسيّما إذا كانت العادة جارية أن الناس يحاولون التستّر على عيوبهم أمام تلامذهم.

       وقد شَغَل رحمه الله المناصب الهامّة في عديد من المجالس والمنظّمات الإسلاميّة وكان له من على منبرها إسهامات علميّة لايُستهان بها ومواقف حميدة في مجال الخدمة العامة ومبادرات رشيدة في سبيل الدفاع عن المسلمين واستيفاء حقوقهم التي هُضِمت أو أعطيتْ مخدوشة.

       كما قام رحمه الله في الأعوام الأخيرة من عمره برحلات متلاحقة إلى الجامعات الإسلامية والعصرية والمدارس الإسلاميّة والمراكز العلميّة ليشارك الندوات والحفلات والاجتماعات ويفيد الباحث والدارسين بمحاضراته ومقالاته وآرائه العلمية الزكيّة، وكان لبعض محاضراته دويّ ألقاها في بعض الجامعات الكبيرة.

       لفظ الشيخ أنفاسه الأخيرة عن عمر يناهز 70 عاماً بدهلي حيث كان مقيمًا منذ سنين طوال ونُقل جثمانه إلى مدينة ديوبند حيث صُلِّي عليه صلاة الميت حضرها حشد كبير من العلماء والدعاة وطلاب العلوم الدينية وأهالي المدينة والوافدين من المدن القريبة، ودُفِنَ بالمقبرة القاسميّة بجوار كثير من العلماء الصالحين وعباد الله المخلصين.

       وقد ترك رحمه الله بوفاته فجوة في الأوساط العلمية سوف تبقى شاغرة إلى مدة بعيدة. رحمه الله وأكرم مثواه وأجزل مثوبته وعفا عن سيئاته وتجاوز عن زلاته وأدخله فسيح جناته.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1432 هـ = ديسمبر 2010م – يناير 2011م ، العدد :1-2 ، السنة : 35

Related Posts