إشراقة

عند ما كنتُ طالبًا – وكنتُ ولله الحمدُ على مستوى الطالب المثاليّ لحدّ ما حَالَفَني التوفيقُ الإلهيُّ – كنتُ أظنّ أن الاجتهادَ في الدراسة وكسبَ المُؤَهِّل العلميّ هو كلُّ شيء، وأنّ الطالب الذي لايتأتّى على هذا المستوى هو الطالب المُهْمِل، المُخْفِق في كلّ وظيفة في الحياة، حتى كنتُ أنظر إلى كلّ من لايهتمّ بالدراسة، ويُعْنَىٰ بشيء غيرها، نظرةَ الاحتقار ونظرةً مِلْؤُها الإساءة، وأقول في نفسي لنفسي: لايجوز له سكنى السكن الطلابيّ والانتفاعُ بمرافقه وإضاعةُ فرصة الشباب الذهبيّة الثمينة – التي هي أغلى فرص عمره – في غيرما من أجله انْضَمَّ إلى السلك الدراسيّ، ويجب فصلُه من المدرسة وإبعادُه عن السكن الطلاّبي الذي يُفْسِد مُنَاخَه بتصرّفاته غير الدراسيّة.

       وظِلْتُ على هذا الاعتقاد وتخرّجتُ «عالمًا» حاملاً لشهادة الفضيلة في الشريعة الإسلاميّة، واشتغلتُ مدرسًا لبعض الموادّ الإسلاميّة واللغوية في بعض المدارس الإسلاميّة الأهليّة، وكنتُ شابًّا غضَّ الإهاب في مُقْتَبَل العمر، قليلَ التجربة بل عديمها بالحياة والناس؛ فكنتُ أنظر إلى كل من لايحمل المُؤَهِّل العلميّ ولايتمتّع بالإتقان في الموادّ الدراسيّة نظرةَ شَزْرٍ، كأنّه ليس إنسانًا يستحقّ الاحترام بل هو بهيمةٌ تُهَان.

       ثم عُدْتُ ذا تَجَارِبَ، ثم ذا تجاربَ كثيرةٍ، فتَغَيَّرَتْ نظرتي للحياة والناس، وصِرْتُ وَاقِعِيًّا أَضَعُ الأشياءَ في مواضعها، وأزن الناسَ يميزان العدل والقسط، وعُدْتُ أومن بأنَّ لله في خلقه شؤونًا؛ وأنّه هو الذي يُوَفِّق هذا ليجتهد في الدراسه، ولايُوَفَّق ذلك للاجتهاد فيها؛ وأنّه بحكمته ومشيئته يُوْدِع إنسانًا مواهبَ علميَّةً وآخرَ مواهبَ أخرى كثيرةً تَتَنَوَّعُ تَنَوُّعَ الحياة؛ وأنّه بحكمته خَلَقَ البشر وخَلَقَ له مواهبَ مختلفةً تختلف اختلافَ الناس في الطَّبَائِع والأَمْزِجَة؛ وأنّه لم تشأ حكمتُه أن يكون الناسُ كلُّهم على وتيرة واحدة، وإلا لفسدت الحياة، واختلَّتِ الموازين، وعادت الحياة مسؤومةً لاتُطَاق ولا لذّةَ فيها ولابهاءَ عليها.

فوجدتُ فيمن لايبالى بالموادّ الدراسيّة من يحمل مواهبَ صنع العلاقات مع شتى شرائح المجتمع؛ ومن يحمل مواهب إدارة المعاملات؛ ومن يحمل مواهب إدارة الأعمال والتجارة أو الصناعة؛ ومن يحمل مواهب خدمة المجتمع بشتى الوسائل والطـرق ومختلف الأساليب؛ ومن…؛ ومـن…؛ فتأكّدت أن ذلك بحكمة الله ومشيئته؛ حيث لم يُرِد أن يكون أفرادُ المجتمع البشريّ لونًا واحدًا، ولم يشأ أن تكون الحياةُ في الكون رتيبةً فارغةً من التنوّع. إنّه تعالى أراد أن لا تكون الحياةُ جامدةً؛ بل تكون متحركةً مُنْتَعِشَةً، وهي لذلك تحتاج إلى مواهب إنسانيّة مُتَنَوِّعَة، تصطلح على خدمة المجتمع، وعمارة الأرض، وإصلاح الكون.

       وجدتُ بعضَ الناس يحملون مواهب تكاد تكون خارقةً لصنع العلاقات مع الآخرين، وتوطيدها واستثمارها لصالحهم لآخر الحدود، وتحقيق ما يريدون من خلالها من الأغراض، بشكل يدع الناسَ حياري عندما يقيسون عدم قدرتهم على ذلك بقدرتهم – بعض الناس –  على صنع ما يريدون من إيجاد العلاقات الشخصيّة بشكل سريع عجيب وتوظيفها لخدمة المصالح وتحقيق الأهداف؛ لأن الموهبة التي جُبِلُوا عليها وعُجِنَتْ طِيْنَتُهم بها، تجعلهم يهتدون بسرعة غريبة إلى حمل الناس على التعاون معهم على تحقيق كل ما يحلمون به من الآمال والأحلام، ولايتعاملون معهم على كره منهم، وإنما يُسَرُّون بالتعامل معهم مَسَرَّةً قد لا يطيقون هم وصفَها.

       بينما هناك كثير من ذوي المُؤَهِّلات العلميّة المُوَفَّقِين للاجتهاد لكسب الإتقان في كل ما درسوه وتعلّموه، قد لايقدرون على صنع العلاقات واستثمارها لتحقيق الأغراض الماديّة أو المعنويّة؛ لأن الله خلق لكل فنّ رجالاً، فكلُّ فنّ لايُتْقِنه كلُّ أحد، كما أن الدراسة وتحصيل العلم كذلك، لايُتْقِنها كلُّ أحد.

       وكذلك هناك من يُحْسِن إدارة الأعمال أو التجارة أو الصناعة، ويقطع في هذه المجالات أشواطاً بعيدةً في مدة محدودة قاصرة؛ لأنّه يكون موهوبًا فيها، فيتقدم إليها متسارعَ الخَطْو، كأنه مدفوع إليها بقوة قاهرة؛ ولكنه قد لايكون ذا علم غزير، ولا كان في ماضيه وزمن تحصيله مُوَفَّقًا للاجتهاد في الدراسة والتعلّم؛ بل كان قد أمضى أوقاته الدراسيّة في إهمال بالغ.

       وهناك من يتخرّج عفويًّا مُؤَهَّلاً لخدمة المجتمع الإنساني، لديه عواطفُ موهوبة في المواساة، والبرّ بالإنسان، والتألم لمصيبة الآخرين، والتسابق إلى فعل الخيرات: من مسح دمعة البائس المحزون، والأخذ بيد الفقير المُتْرِب، والجائع المُعْدِم، ومن عَضَّه الدهر بنابه بشكل من الأشكال، وهم كُثْرٌ لايحصيهم إلاّ الله العليم الخبير. وقد لايكون هذا الموهوب لفعل الخيرات عالمًا متقنًا، أو مهندسًا بارعًا، أو اقتصاديًّا مُتَخَصِّصًا، ولايكون معروفًا لدى الناس بأنه «رجل صالح» أو «شيخ مُرَبٍّ» يُخَرِّج الناسَ على التزكية والإحسان والإنابة إلى الله.

       وكذلك هناك من يحمل موهبة دفع الناس إلى فعل الخيرات، وتقديم التبرعات، ومدّ أيدي العون إلى العمل الإسلامي الذي لايأتي عليه الحصرُ ولا تنتهي الحاجة إليه لدى الأمة، فيستعين بذلك في إنشاء مستشفيات خيريّة، وكتاتيب دينية، ومدارس وكليات وجامعات تقوم بتعليم الشريعة والعلوم الإسلاميّة، وتُخَرِّج علماءَ ودعاةً ومفتين ومصلحين تحتاج إليهم الأمة لتَحْيَىٰ بدينها وعقيدتها، فتدخل جنّةَ ربّها حين تموت.

       وقد لايكون هذا الذي يصنع هذا العملَ الجليلَ ويقوم بهذه المأثرة الخالدة، رجلاً فَارِعَ القامة في العلم، ولايكون قد اجتهد في التحصيل أيّام كان طالبًا في مدرسة أو كليّة أو جامعة، وإنما يكون قد أَنْفَقَ هذه الفرصة في إهمال أيِّ إهمال جَعَلَ زملاءَه في الدراسة يسيئون إليه النظرَ والقولَ، وجعل الإدارةَ القائمةَ على المدرسة أو الكلية أو الجامعة، تُعَاقِبه حسب اللائحة التي قَرَّرَتها لذلك.

       وهناك من يَتَخَرَّج إداريًّا موهوبًا بشكل ذاتيّ؛ فيقدر بنحو مُلْفِت على عقد حفلات، وإدارة احتفالات، أوحشد أعداد لاتُحْصَىٰ من الناس لإقامة مظاهرة، أو تنظيم موكبة احتجاج أو اعتصام لغرض نبيل، أو على إدارة مؤسسات تعليمية أو اقتصاديّة أو تجاريّة، فيخدم بذلك أمته وشعبه خدمةً قد لايقدر عليها المُتقِن للعلم، والمُؤَهَّل دراسيًّا، والمجتهد في تحصيل العلم زمنَ التعلّم .

       وكذلك يُوْجَد من يَتَخَرَّج ذاتيًّا زعيمًا عبقريًّا أو مصلحًا اجتماعيًّا عديم النظير، أومناضلاً قديرًا ضدّ الاستعمار والعدوّ الوافد الدخيل، فيُنْقِذ الأمةَ، ويُخْلِص الملةَ، ويجمع شملَ الشعب، ويحرره من ربقة الاستعمار الذي جثم على صدره، وأذاقه ويلات لاتُعَدُّ، فيُخلِّد اسمَه في صفحات الكون، ويديم رسمَه في جبين التاريخ، ويُثْبِت ذكره على ألسنة الناس إلى يوم القيامة، ويَحْيَىٰ حتى بعد الموت.

       وقد لايكون هذا ذا مُؤَهِّل علميّ لائق؛ بل قد يكون أُمِّيًّا، لم يتعلم حتى على فقيهِ كُتَّابٍ؛ ولكنه يكون قد تَخَرَّجَ في مدرسة العباقرة الخالدين والأبطال الكُمَاة، الذين وُلِدُوا لئلاَّ يموتوا.

       أجل إنَّ المُؤَهَّل علميًّا الذي يكون قد اجتهد في الدراسة واغتنم فرصةَ أيّام التحصيل وتَخَرَّج مُتْقِنًا للعلوم التي دَرَسَها بعد ما نَزَلَ على مستوى الطالبِ الشاعر بالمسؤوليّة، يجوز أن يجمع بين الأهليّة العلميّة وبين المواهب والقدرات الأخرى المُتَعَدِّدة التي أشرنا إلى بعضها فيما أعلاه؛ حيث لاتضادَّ بين الموهبة العلميَّة وبين المواهب الأخرى؛ بل الذي يجمع بينهما لابدّ أنّه العبقريّ الذي يندر نظيره في العالم، ومثلُ هذا العبقريّ يُحَقِّق من الإنجازات ما لايمكن أن يُحَقِّقه الأُمِّيُّ الحامل لموهبة من المواهب المشار إليها؛ لأنّ موهبةَ العلم والفكر تُنَمِّى جميع المواهب والقُدُرَات تنميةً عجيبةً لايعلم مداها إلاّ المُجَرِّب الحَالِب الدهرَ أَشْطُرَه.

       خلاصة القول أنّ الإتقانَ العلميَّ فضيلة كبيرة، يجدر بالغبطة من وُفِّقَ لها، وهُيِّئَت له أسبابُها، وتَوَجَّهَتْ إليه عنايةُ الله لتأخذه بيده إليها؛ فصبر على الدراسة، وثابر عليها، وسَهِرَ لها اللياليَ، وتَعِبَ لها في النّهار، ورَكَّزَ همَّه عليها، واستعذبَ العذابَ في سبيلها، وتَحَمَّلَ لها كلَّ ما لاقاه من العنت والمصاعب في سبيلها، حتى تَخَرَّجَ مُتْقِنًا لما قرأه وتَصَدَّى لدراسته.

       ولكنّه فضيلةٌ كذلك أن يفوز المرأُ بغير هذه الفضيلة من الفضائل التي ذكرناها في السطور الماضية؛ فجدير كذلك بالاحترام والتقـدير من حَظِيَ بفضيلة غير الفضيلة العلميّة، هَدَتْه إليها موهبتُه، وأَعَانَه عليها توفيقُ ربّه الذي أَرَادَ له فضيلةً أخرى غيرَ فضيلة العلم، فَقَدَّرَ له العملَ الصالحَ عن طريقها، المُؤَدٍِّي بمشيئته إلى جنّته التي من أُدْخِلَها فقد فاز.

       إنّ العيب أن يبقى المرأ عاريًا من أيّ فضيلة من الفضائل، فلم يحظَ بالعلم المُتْقَن الذي كان من شأنه أن ينفعه في الدنيا والآخرة، ولم يَسْعَدْ بموهبة أخرى من المواهب الكثيرة غير القابلة للحصر، تُحَبِّبه إلى الخلق وإلى ربّ الخلق، وتجعل ذكره نشيدًا خالدًا على أفواه الناس، وتجعل ألسنتهم رطبة بالحديث عنه في كلِّ نادٍ و وَادٍ.

       من انتسب إلى مدرسة أو جامعة، وحالفه التوفيقُ لأن يَتَوَفَّرَ على الدراسة، ويصل فيها الليلَ بالنّهار، وينقطع إليها عن كلّ الأشغال المُلْهِيَة، فتَخَرَّجَ بَارِعًا في العلم الذي تَصَدَّى لتَلَقِّيه، فنفع نفسَه، ونفع والديه، وكلَّ من ينتمي إليه، والخلقَ عامَّةً، فجمع حُسْنَيِ الدينا والآخرة، وكان حبيبًا لدى الناس وربّ الناس؛ فهو أجدر بالاغتباط، وأليق بالائتساء، وأحقّ بالدعاء.

       ولكنه كذلك جدير بالتقدير والاغتباط والتقليد من يُوَفَّقَ – إذا حُرِمَ إتقانَ العلم – لخدمة الخلق بشكل من الأشكال، ويُوْهَب من الله موهبةً من المواهب التي لايُعْطَاها أحدٌ إلاّ بفضل من الله العليّ القدير الذي يخلق الأشياء ويعلم مقاديرها، فيصنع من الإنجازات مايدوم ويعمّ نفعُه للخلق.

       بَقِيَ أن نُؤَكِّد أنّ من يلتحق بمكان التعليم ليتلقّى العلم، ثم يعيش مُهْمِلاً، لايبالي بالدراسة، ويُهْدِر أوقاتَه، ولا يُنْفِقها مضبوطةً، ويُضيْع أغلى ما عنده اليومَ من فرص العمر: عمر الشباب الناعم، ولا ينتبه لديه شعورٌ بالمسؤوليّة، ولايَحْيَىٰ ضميرُه رغم ما يقع عليه من سوط حدثان الدهر، ولايعي أن الله هو الذي أتاح له هذه الفرصةَ؛ فهو جدير حقًّا بكل نوع من الملام؛ لأنه مُصِرٌّ على ارتكاب ذنب لا يُغْتَفَر.

       اللهمّ أَرِنَا جميعًا الحقَّ حقًّا في الوقت المناسب الذي يجب أن نراه فيه حقًّا، وارزقنا اتّباعَه؛ وأَرِنَا الباطلَ باطلاً في الوقت المناسب الذي يجب أن نراه فيه باطلاً، وارزقنا اجتنابَه. إنّك وحدك المُوَفِّق للصواب.

( تحريرًا في الساعة 9 من الليلة المتخللة بين الجمعة والسبت : 20-21/ ذوالقعدة 1431هـ الموافق 29-30/ أكتوبر 2010م) .

أبو أسامة نور

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالحجة 1431 هـ = نوفمبر- ديسمبر 2010م ، العدد :12 ، السنة : 34

Related Posts