إشراقة

الدراسةُ الصافيةُ من كلّ غرض: غرضِ طيب السمعة؛ غرضِ كسب المال؛ غرضِ الحصول على وظيفة، أو على منصب ذي بال؛ وما إلى ذلك من الأغراض التي إنما تُصَنَّف ضمنَ «رخيصة» هي الدراسةُ الصادقة، التي يَصْدُرُ صاحبُها عن الإخلاص والعزيمة.

       أمّا الدراسةُ «الكَدِرَة» المُلَوَّثَة بغرض: من الرياء؛ من التكسّب؛ من كسب الصيت، أو المدح، فهي دراسة زائفة، لا تدفع صاحبَها إلى التفاني فيها، والجهاد في سبيلها.

       وقد فرضتِ اليومَ الثانيةُ ذاتَها على الأولى؛ فعادتِ الدراسةُ سِلْعَةً تجاريّةً مُتَّصِلَةً بالأغراض والمنافع؛ فتَجَرَّدَتْ من كلّ قداسة وإخلاص يَشْحَن كلَّ عمل بروح طاهرة، وعاطفة جيّاشة، وسُمُوٍّ على سفاسف الأمور، والتصرفات الدنيئة، والأعمال الخسيسة.

       في الماضي كان الدارسُ يهب نفسَه للدراسة؛ فيعيش فيها وبها ولها، ويعكف عليها، وينهمك فيها، وينقطع إليها عن كلّ همّ في الحياة، وكلّ شغل من أشغال الدنيا، التي تستقطب الشيءَ الكيثرَ من اهتمام العاقل، الذي يَتَمَتَّع بالشعور اللائق بالمسؤوليّة، نحوَ كل فريضة تعود عليه في شأن نفسه أو مجتمعه. وذلك لأنّه كان لايحدوه في ذلك إلاّ عاملُ الحرص على كسب العلم، وتحصيل المعارف، والتزوّد من المعلومات دينيةً كانت أو دنيويّة، وكالايشغل تفكيرَه شيءٌ من وراء ذلك؛ فكان يَتَوَفَّر على وظيفته بكل كيانه، وبكلّ ما لديه من مواهب الجدّ والتفكير، والسعي والتركيز، والإدراك والانتباه، والوعي والفهم، والإرادة والتحرك.

       كان يلذّ كلَّ عذابٍ؛ لأنَّ الدراسةَ كانت أَلَذَّ الأشياء عنده، وعندما كان يحظى بها، كان يشعر كأنّه وَجَدَ كلَّ شيء كان يتمنّاه أو كان ليتمنّاه، وكان لايهمّه الحصولُ على شيء آخر بعدَها، لأنّها كانت لديه كلَّ شيء كان يهواه.

       إنّ مُجَرَّد العلم كان أغلى ما في الكون لدى الدارس في الزمن الماضي، وعند الراكض وراء تحصيل العلم والمعرفة؛ فكان يغار عليه غيرةَ المؤمنِ الحقِّ على إيمانه، ويصيبُه الغَثَيَانُ لدى مُجَرَّد تصوُّره أن يشوب هذا الغرضَ النبيلَ العزيزَ اللذيذَ غرضٌ آخر من أغراض الدنيا التي لاتقبل الحصرَ؛ لأنّه كان عنده هو الغرض بعينه الذي لاغرضَ بعده. وإن كان هناك غرضٌ من وراء العلم والمعرفـــة، فكان غرضَ معرفة الله عَزَّ وجَلَّ والعلم بأحكامه ليعيش من خلال العمل به عزيزًا كريمًا في الدنيا وينال السعادة الأبديّة في الآخرة. وهو غرضٌ كأنّه جزء أصيل من العلم، أو هو العلم بعينه؛ لأنّ العلمَ الذي لايهدي صاحبَه إلى الله هو جهلٌ وضلالٌ وضياعٌ في تِيْهِ الكون.. أو كان غرضَ الاهتداء إلى معرفة الأشياء وإلى اختبارها فإلى الاختراع والاكتشاف لتوسيع رقعة خدمة الخلق والمجتمع الإنسانيّ تسهيلاً عليه العيشَ. وهو غرض فرعيّ يتبنّاه ويتهالك عليه من لايهمّه الاهتمامُ أصلاً بجانب الآخرة والارتباط بالحبل الإلهيّ الذي يمسك به المؤمن ليصل به إلى سعادة الآخرة.

       من ثمّ كان الدارس في الماضي يحترم كلَّ من يتعلّم منه حرفًا احترامَه لأبيه أو أشدَّ منه، حتى يعدّه سيّدًا له ويعتبر نفسه عبدًا له، فكان يقول ما قاله سيّدنا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – كما وَرَدَ في كتب السِّيَرِ والتراجم: «من عَلَّمَني حرفًا فأنا عبده، إن شاء أَعْتَقَني وإن شاء مَلَّكَني» ولا يكتفي بمُجَرَّد القول يلوكه رجل مُهْمِل لايضع قولَه أيَّ موضع من التنفيذ، وإنما كان يعمل بما يقول بكل معانيه ودلالاته وإشاراته، وربما يكون عملُه في هذا الشأن أوسعَ بدرجات كثيرة من قوله، حتى كان قولُه لايكاد يسع عملَه.

       فكان الدارس والمُتَعَلِّم يخدم أستاذه بكل أسلوب من أساليب الخدمة الماديّة والمعنويّة إذا وَجَدَه يحتاج إليها، وكان يَسْعَد بزيارته المتكررة، وإذا أمكن فبملازمته وصحبته المتّصلة، وما كان احترامُه يقتصر على شخصه – شخص الأستاذ – وإنما كان يتأدّب مع أهله وذويه وأولاده؛ فقد ذَكَرَ مُدَوِّنُو السِّيَرِ والتراجم أنّ الأئمة من المحدثين والفقهاء والمجتهدين كانوا يُدِيْمُون صلتهم بذوى قربى أساتذتهم بعد موتهم، حتى إن بعض هؤلاء كان يقوم خلالَ إلقائه الدرسَ مرّات عديدةً في مجلس الدرس، مما جَعَلَ تلاميذَه يتساءلون إليه في استغراب: ما الذي يجعله يقوم في مجلس الدرس من حين لآخر؛ فأجاب: إنّ ولدًا لأستاذه فلان يلعب في الزُّقَاق، وعندما يتماثل ويَتَرَاءَىٰ له يقوم تعظيمًا له وأداءً منه لحقّ أستاذه!.

       وكان الطالب يظلّ على مدى الحياة يدعو لأساتذته في خَلَوَات الليالي الهادئة وفي الهزيع الأخير من الليل، عندما كان يقوم ليُنَاجِيَ رَبَّه، كما كان يدعو لأبويه ولكل من أحسن إليه مادِّيًّا أو معنويًّا، ويظلّ لسانُه رَطْبًا بالدعاء لهم كلما ذَكَرَهم في لحظة من لَحَظَات الليل والنهار، وكان يَعُدُّ ذلك فريضةً من فرائض حياته، كان يَقْلَقُ جدًّا إذا حَصَلَ منه إخلالٌ بها لعذر أو مرض، وكان يشعر حينَها كأنه جَنَىٰ جنايةً كبيرةً لاتُغْفَر.

       وكان يصنع هذا الصنيعَ حتى مع أساتذته من غير المسلمين؛ لأنّ الأساتذة كالآباء أو فوقَهم في الفضل بكثير من الاعتبارات. وقد أَمَرَ الإسلامُ بالإحسان إلى الوالدين، ولو كانا غير مسلمين، والبرّ بهما في كل شأن من شؤون الحياة، إلاّ الإشراك بالله الذي لايُطَاعُ فيه أحدٌ مهما علا وسما. وقد وَجَدْنَا عددًا من الذين عَاصَرْنَاهم كانوا يبكون وتَغْلِبُهم الرِّقَّةُ عندما كانوا يذكرون أساتذتهم حتى من غير المسلمين، ويتذكرون مِنَّتَهم عليهم، وحُبَّهم لهم، وإحسانَهم الكبيرَ إليهم، وجدَّهم في تعليمهم وتربيتهم، وبراعتَهم في تقريب الموادّ الدراسيّة إلى أذهانهم، وإعمالَهم للتفنّن العجيب في ذلك، نزولاً منهم على مستوى الشاعرين بالمسؤليّة حقًّا، فكانوا ينالون في المجتمع تقديرًا وإكرامًا بالغين.

       وقد حكى التاريخُ وذكرتْ كتبُ السِّيَر والتّراجم في ذلك – في احترام التلاميذ للأساتذة، واجتهاد الأساتذة في تعليم التلاميذ وتربيتهم وتخريجهم أكفاءً مُؤَهَّلين – عجائب القصص وغرائب الواقعات، التي قد يظنها القارئ ولاسيّما المُعَاصِر خوارقَ للعادات، خُلِقَ لصنعها أفرادٌ من البشر طُوِيَ بساطُهم.

       وكان يحترم المكانَ الذي يتعلّم فيه احترامَه للقِيَم الدينيّة الأساسيّة، والمُثُلِ الإنسانيّة العُلْيَا؛ فكان يبكي عندما يُغَادِرُه إلى مكان آخر بعد التخرج، ليُؤَدِّي دورَه في الحياة؛ فكان يسقيه بدموع غِزَار، وكانت دموعُه لاتكاد تتكفّف، وكان يُقَبِّل لدى الخروج منه كلَّ شبر من أشباره، ويلقي عليه نظرةَ الوداع ولوعةُ الوجد تُحْرِق كبده. وبعد مغادرته تظلّ روحُه تتعلّق به، وقلبه يتّصل به، وذكراه تظلّ حيّةً ماثلة في جوانح قلبه، فيظلّ يردّدها بلسانه على مدى الحياة في لذّة ألذَّ من لذّة المحبّ الهيمانِ يذكر حبيبه بعد فراقِه إيَّاه الذي تضطرّه إليه سُنّةُ الحياة.

       وكان يَتَأَدَّبُ مع الكتب الدراسيّة والموادّ المُقَرَّرَةِ، تَأَدُّبَه مع الصالحين من عباد الله والنافعين من البشر للبشر الذين ينقطعون إلى خدمة الخلق، مُتَعَبِّدِين بها، ومُحْتَسِبِين أجرَها لدى الله.

       وكان يحبّ جميعَ الأدوات الدراسيّة: من القلم والورق، والدفاتر، والطاولة، والمقاعد، وأحلاس الفصل وكراسيّه وما إلى ذلك، حبَّه لمدارج صباه، وملاعب طفولته، ومَمَرَّاتِ شبابه، والمَحَطَّات الهامّة في حياته؛ فكانت عيناه تستعبران عندما كان يذكر شيئًا من ذلك في المراحل القادمة من حياته، وكان يذكر بالخير كلَّ من كان يشتري منه القلمَ والورقَ وكتبَ المُقَرَّرَات والدفاترَ وقلمَ الرصاص والمِسْطَرَ وغير ذلك. ويظلّ يدعو له بالخير على مدى حياته؛ لأنّه كان يَحْسَبُه المُحْسِنَ إليه والمُتَفَضِّل عليه.

       من ثم كان للعلم الذي يَحْظَىٰ به عن جدّ وإخلاص وصفاء نيّة، نورُه وبركتُه اللذان يشملان حياتَه كلَّها بالخيرات ومظاهر السعادة، ويجنى ثمراتِه بيده حلوةً يانعةً، ويشاهد ذلك كلُّ من حولَه من أفراد البشر، فكانوا يَغْبِطُونَه به وتتحلّب له أَفْوَاهُهم، وكان يعمّ نفعُه الخلقَ كلَّه ويَسْعَد بظلاله الوارفة المجتمعُ الإنسانيّ كلُّه، ويتخرَّج في ضوئه وبفضله أبناؤه – المجتمع الإنساني – نُبَلاَءَ شُرَفَاءَ، ذوي مروءة وكرامة، وسيرة سويّة، وسلوك مستقيم، على اختلاف دياناتهم واتّجاهاتهم؛ فكان المجتمع مهدَ أمنٍ وسلامٍ، واتِّحادٍ وانسجامٍ، يتقاسم أبناؤه الأحلامَ والآلام، وتسوده روحُ التكافل والأخوّة، فيكون أفرادُه يدًا واحدة عند كلّ بلوى تُدَاهِمُهُم ولدى كلِّ كارثة تُلِمُّ بهم، كما يكونون صوتًا واحدًا ضدّ كلِّ فساد خلقيّ، وانحراف معنويّ، وشذوذ فكريّ يتعرّض له – عن غفلة – أو يتبنّاه – عن عمد – أيُّ فرد منهم؛ فكانت الدنيا لحدّ كبير جنةً ونعيمًا يشعر فيها الإنسانُ، رَغْمَ كلِّ المَكَارِهِ التي لا تخلو منها في حال، حسبَ سنّة الله في الكون، بهدوء البال، وعافية الحال، الأمر الذي عاد لايكاد يذوقه اليومَ الإنسانُ المعاصر رغمَ كل نوع من الحديث الأحدث من وسائل العيش التي نَعَّمَتِ الحياةَ ولَيَّنَتْها، وازَّيَّنَتْ بها الحياةُ بشكل لم يخطر من إنسان الماضي على بال ولم يتصوَّره في حال من الأحوال.

       تلك كانت نتيجةً حتميّة للدراسة الصافية المجردة من كل غرض مادّي رخيص خسيس، وهي نتيجةُ كلِّ عمل يتجرّد من لوثاتِ الماديّة وكُدُرَاتِ الأغراض الشخصيّة.

*  *  *

       أمّا اليومَ فعادتِ الدراسةُ مَادِّيَّةً مَحْضَةً، مُلَوَّثَةً بكلِّ غرض من الأغراض؛ فصارت سِلْعَةً تجاريّةً مُجَرَّدَةً يَبْتَاعُها ويشترتها من تعنيه للحدّ الذي يُحَقِّق له الأرباحَ وتعطيه المنافع؛ فلا تدفعه إلى الدراسة عَوَامِلُ عَفْوِيَّة ذَاتِيَّة غيرُ عَادِيَّة كانت تدفع الطالبَ والدارسَ في الماضي؛ فيستميت في سبيلها، ويجتهد فيها لِيَتَمَلَّأَ منها إلى حدّ عتبة الموت.

       العلمُ الذي يُحَصِّله المرأُ اليومَ في غير تركيز وانتباهٍ، وفي غيابٍ عن روح التفاني والاستماتة، لايُزيل ظلمةً، ولايخرق ديجورًا، ولا ينحت شخصيّة، ولا يُهَذِّب حَامِلَه، ولا يُخَرِّجه إنسانًا، وإنما يُحَوِّلُه في كثير من الأحيان بهيمةً لاتعرف للحياء معنى، ولا للمروءة قيمةً؛ لأنّه لايُحَصِّل العلمَ بصفته هو المطلوب وباعتباره هو الرصيد الذي لايُثَمَّن؛ وإنّما يُحَصِّله باعتباره طريقًا إلى العزّ الدنيوي، والسمعة الطيبة لدى الخلق، والكرامة في المجتمع؛ وإلى كسب المال الكثير في الوقت القليل وبدون عَنَاء يُذْكَر، وإلى نيل رفاهية العيش، ومنصب عال، ومكان مرموق، ومدح كبير، وثناءٍ ثَرّ، وكلِّ شيء يُشْبِع المعدةَ والجشعَ المَادِّيّ. وبالجملة إلى كلِّ ما يُحَقِّق جملةَ الأغراض المادِّيَّة التي لاتَمُتُّ بصلة إلى غرض من الأغراض الروحانية.

       فلا يُحِبُّ العلمَ ولا يحترم أهلَه، ولا يتأدّب مع أساتذته ومُعَلِّمِيه، ولايعدّه قدوةً، ولايقيم للعلم وزنًا إلاّ قدرَ ما ينفعه في إشباع جوعه المادّي، فالعلمُ الذي لاينفعه في هذا الجانب، فهو أَجْوَفُ تافه عنده يليق بأن يُرْمَى في سَلَّة المهملات بل في مكان القاذورات.

       عَادَ الدارسُ اليوم لايكتفي بعدم احترامه للأساتذة؛ بل كثيرًا ما يُقْدِم على «تأديبه» بنفسه أو عن طريق أولياء أمره، ولايقتصر على تناوله بالسباب ومُرِّ الكلام، والزجر والتوبيخ، والتهديد والملام، والسخريّة والاستهزاء، والإساءة البالغة إليه، وإشعاره بكثير من الأساليب بأنّه ليس له قيمة عنده، بل هو أَحَطُّ عنده من زملاء دراسته، وأترابه في العمر، ورفقائه في الألعاب.. لايقتصر على ذلك؛ بل يتخطّاه إلى تناوله بالضرب والعقاب الجسمانيّ والإيلام النفسيّ، وإصابته بالخسارة الماديّة، وإلى كل شيء يتمكّن من صنعه به.

       أمّا المكان الذي يتعلّم فيه فيبدو من تصرفه أنه يعاديه دائمًا؛ فلا يهتمّ بتنظيفه وإبقائه على مظهره الجاذب، وإنما يزرعه بالقاذورات والكناسات وبمخلفات الأطعمة والأشربة، بل يَغْضَب من حين لآخر ويثور ضدّ الإدارة التي تقوم عليه، فيكسر زجاجات النوافذ، ويقلع مصاريع الأبواب، ويستأصل الرزّات، ويدمّر كل شيء في الفصول والحدائق والفناء، وقد يهدم بعضَ أجزاء المباني التي يدرس داخلَها، وما إلى ذلك من التصرفات الشيطانيّة التي تنشر أنباءَها الصحفُ ووسائلُ الإعلام المقروءةُ والمسموعةُ والمرئيّةُ كلَّ يوم، حتّى صار ذلك عادةً لا ينتبه لها الناسُ؛ لأنّهم يَحْسَبُونها مما ألفوه بشكل يثير الاستغرابَ إذا لم يحدث.

       ولا حاجةَ به بعد ذلك إلى التأدّب مع الأدوات والكتب الدراسيّة؛ لأنّها أشياءُ عجماءُ وُجِدَت لينتفع بها الناسُ ويرموا بها جانبًا، وليس فيها خير، ولا مِنَّةَ لها على الدارس والمُتَعَلِّم حتى يُكَلِّف نفسه التأَدّب معها!.

       إنّه انقلبتِ الموازينُ اليومَ في شأن كثير من الأشياء؛ بل جميعها، والإنسانُ المعاصِرُ أصبح ماديًّا في نظرته إلى كلّ شيء في الكون وتصرُّفه معه، فلا يهتمّ إلاّ بما يُشْبع مادِّيَّتَه ومعدتَه ويُرْضِي هواه، حتى العلم ومهمّة تحصيله لم يعد بوسعهما أن يحتفظا بحرمتهما التي ظلت مصونةً على مدى عصور التاريخ رغمَ كلّ التحوّلات الجذريّة والفرعيّة التي مرَّ بها.

*  *  *

       قد نسمع بعض الأحيان أن بعضَ الطلاب في المدارس والجامعات العصريَّة هنا وهناك، انتحروا لأنّهم سقطوا في الامتحان، أو لم ينالوا الدرجةَ التي كانوا يتوقّعونها، أو المركز الذي كانوا يتصوّرونه؛ ولكننا نعلم أنّ إقدامهم على الانتحار لايصدر عن حرصهم على العلم، ورغبتهم الصادقة في الدراسة، وتقديرهم الزائد لها، وإنّما يصدر عن شعورهم البالغ بمدى الخسارة التي لَحِقَتْهم من فشلهم في الامتحان أو تخلفهم عن الدرجة التي كانوا يرجون الفوز بها؛ لأنهم يقارنون بين المبالغ التي أنفقوها في التحصيل، وبين الحسرة التي أصابتهم على تخلّفهم عن نيل الوظائف الكبيرة المُدَرِّة للدخل الكبير والراتب الرفيع، التي ظلّوا يَتَمَنَّوْنَ الحصولَ عليها عبر رحلتهم الدراسيّة ومشوارهم التحصيليّ، وذلك الشعور المؤسف المؤلم يدفعهم للانتحار؛ لأنهم لايتمالكون أنفسهم الطمّاعة، ولايتماسكون أمام وطأة الإحباط المُمِضّ واليأس اللَّادِغ لدغةَ الأفعى الخبيثة.

       وقد ينتحر بعضُهم لأنّهم تصيبُهم الندامةُ على فشلهم في الامتحان أو تخلّفهم عن نيل الدرجة المرجوّة، ولا يجدون لديهم جراءةً على مواجهة أسرتهم أو مجتمعهم أو زملائهم في الدراسة، الذين لايضمدون جرحًا من جراح إخوانهم، وإنما يشمتون بهم في الأغلب.

       فهذه المواقف وغيرها الحاصلة أحيانًا، لا يمكن أن يُسْتَنْتَجَ منها أن الدارس والطالب اليومَ أيضًا يَتَفَانَوْنَ في العلم، ويستميتون في سبيل تحصيله، ويحسبونه الغرضَ الأسمى، والرصيدَ الذي إذا نالوه فلا يهمّهم رصيدٌ آخر في الكون؛ لأنّها – المواقف – هي الأخرى ليست إلاّ مواقف مادِّيَّةُ مُجَرَّدَة لا مسحةَ عليها من طهر الإخلاص، وعفاف الصفاء والعزيمة، ونزاهة التجرد من الأغراض المادِّيَّة: الصفات التي كانت الخطَّ الفاصلَ بين الطالب اليومَ والطالب بالأمس.

*  *  *

       المادِّيَّةُ الجَامِحَة التي أُشْرِبَتْ في قلب المُتَعَلِّمِ اليومَ – لأنّها أُشْرِبت في قلوب الجيل الإنسانيّ المُعَاصِر بأسره، والطالبُ اليومَ فردٌ منه، فلم يكن ليَخْلُصَ من الشَّرِّ الذي مُنِيَتْ به المجموعةُ البشريَّةُ كلُّها – أَثَّرَتْ على الطالب في المدارس والجامعات الدينيّة، بعد ما أَخَذَتْ بتلابيب من يدرس في المدارس والجامعات العصريّة؛ فتَسَرَّبَ كثيرٌ من داء هذا الأخير إلى الأوّل كذلك، فظهرت عوارضُه فيه؛ فالطالبُ في المدارس والجامعات الدينية هو الآخر عاد لا يتمتع بتلك الرغبة الصادقة الطاهرة الصافية التي كانت ميزتَه في الماضي؛ فهو لاينقطع إلى الدراسة انقطاعَه في الماضي، ولا يَتَفَرَّغ لها تفرُّغَه في السالف من الزمان، وعاد لا تصفو نيّتُه صفاءَ أخيه الطالب في الماضي، فهو لايتصدّى لتحصيل ما يُحَصِّله من العلم لرضى الله تعالى – إلاّ من شاء ربّك – ونشر الدين، وتبليغ رسالة الإسلام، والدعوة إلى الله، والعلم بأحكام الدين ليُطَبِّقها أولاً على نفسه ثم على المجتمع حولَه؛ لأنّه كذلك يظلّ مُوَزَّعَ الهموم بين الاهتمام الزائد بجانب الدنيا الذي يتملّكة ويأخذه ويُسْكره والاهتمام بجانب الآخرة، الذي ضَعُفَ الخيط الذي يربطه به من جرّاء الماديَّة الطاغية التي فَرَضَتْ نفسَها على كلِّ صالح وطالح من الجيل الإنسانيّ المعاصر إلاّ من رحم رَبُّك.

       بل إنَّه عاد لاينتظم ضِمْنَ السلك الدراسيّ الدينيّ، إلاّ ليكسب الدنيا، ويُصْلِح مَعَاشَه قبل مَعَادِه، ويجد وسيلةً لكسب لقمة العيش، عن هذا الطريق: طريق التعليم الديني، الذي تكاليفُه أَخَفُّ من تكاليف التعليم العصريّ بكل المَقَاييس. من هنا يجد الدارسُ لأحوال طلاّب المدارس والجامعات الدينية هي الأخرى، أنهم لايَلَذُّون الدراسةَ، ولا يرغبون فيها بكل كيانهم، ولا يعدّونها هي الثروة التي لاتُقَدَّر بثمن، إذا حَظُوا بها فلا حاجةَ بهم إلى ثروةٍ غيرها، وإنّما يشتغلون بها على كره، وفي لامبالاة ولا اهتمام، وكأنهم يشعرون أنهم قد تَوَرَّطُوا فيها على غير رغبة منهم.

       فصار لا يَسْهَرُ اللَّيَالِيَ كأخيه الطالب في الماضي، ولا يصل في الدراسة الليلَ بالنهار والنهارَ بالليل كما كان يصنع الدارس في الماضي، ولا يلتزم بآداب الدراسة التزامَ المتعلم في الماضي، ولا يودّ أن يَتَوَسَّع فيها ويَتَعَمَّق، ويكسب الكفاءة والأهليّة المطلوبة التي يُشارُ إلى صاحبها بالبنان، ويُصْبِح شَامًّا بين الناس، كما كان يصنع الطالب في الماضي.

       وصار الطالب في المدارس والجامعات الدينيّة هي الأخرى، مُصَابًا بالعدوى، وأَعْدَاه الأمراضُ التي كانت قد نشأت وتولّدت لدى الطالب في المدارس العصريّة، الذي كان ولايزال لايتعلّم إلاّ ليكسب الدنيا، ويُصْلِح مَعَاشه، ويُجَمِّل أُوْلاَه على حساب أُخْرَاه، فالدارسُ في المدارس والجامعات الدينيّة أيضًا عاد لا يُسِيغ الموادَّ الدراسيَّة، ولا يستوعب قراءةَ وفهم الكتب المُقَرَّرَة من أَوَّلِها إلى آخِرِها، كما كانت الحال في الماضي، بل لايُمْضِي أوقاتَه بين جُدْرَان هذه المدارس والجامعات، إلاّ ليجتاز الامتحاناتِ ويحصل على الشهاداتِ، فيتوسّل بها إلى نيل الوظائف، وكسب السمعة، وتضخيم الذات، وتلميع الشخصيّة، والارتقاء إلى المكانة اللائقة في المجتمع؛ فيكتفي في مَوَاسِمِ الامتحانات بحلّ القديم من الأسئلة من خلال أوراق الامتحانات، التي يحصلُ عليها مطبوعةً في المكتبات التجاريّة ولدى الوَرَّاقين بدلَ أن يستوعب دراسة الكتب والموادّ المقررة حتى يكسب أهليّةً لائقةً؛ لأنّ همَّه كلَّه انحصر في الفوز في الامتحان الذي إنّما يُؤَدِّيه لنيل الشهادة، لا لكسب الكفاءة التي تُنَال من خلال إساغة المقررات الدراسيّة، وكان الامتحانُ في الماضي خيرَ وسيلة لإساغة المُقَرَّرَات والتعمق فيها وإجادة فهمها. ولم تكن هذه العدوى قد أصابت طلابَ المدارسِ والجامعات الدينية فيما قبل سنوات؛ ولكنّهم الآن قد أُصِيْبُوا بها إصابةً كاملةً، فيحذون حذوَ الطلاب في المدارس والجامعات العصريّة، الذين لاحَبَّ لديهم للكتب والأدوات والفصول وأمكنة الدراسة والأساتذة، وإنّما هَمُّهُمْ ينصبّ كليًّا على الأرباح الماديّة التي ستتحقّق لهم بعدما يجتازون مَرَاحِل الدّراسة.

       أفادني كثيرٌ من الأساتذة وكثيرٌ من الإخوة الطلاب الأعزّاء الذين لايزالون على سيرة الطلاّب في الماضي في المدارس والجامعات الدينيّة، وذلك بتوفيق خاص من الله عزّ وجل، لايزال يحالفهم في زمن الفتنة العمياء هذا.. أفادوني – وقد شاهدتُ وجَرَّبْتُ بنفسي – أنّ تصرُّفَ الطلاب المعاصرين في المدارس والجامعات الدينية كذلك يُؤَكِّد أنهم لايلتحقون بها لتحصيل العلوم التي تُدَرِّسُها هي إيّاهم، وإنّما يلتحقون بها ليَتَّخِذوها مطيّةً إلى تحقيق المطالب المادِّيَّة؛ فهم لا يُعْنَوْنَ بالدراسة، وبحضور الفصل، والعناية بإساغة الكتب والموادّ المُقَرَّرَة، وإنما يُنْفِقُون أوقاتَهم كلَّها في دراسة الموادّ العصريَّة – التي يقرؤونها على معلمين خصوصيِّين خارج دوام الجامعة أو المدرسة، وربّما خلال أوقات الدوام، غائبين عن الحصص الدراسيّة الواجبِ عليهم حضورُها –  التي قد تنحت لهم في المستقبل طريقًا إلى تحقيق الأغراض المادِّيَّة، ورفاهية العيش والرخاء المادّيّ، ويتخذون المدارس والجامعات الدينية هذه سكنًا لهم مُزَوَّدًا بتسهيلات الإطعام والإسكان والمرافق الازمة للحياة.

       من هنا عاد الطلابُ في المدارس والجامعات الدينية أيضًا لايحترمون أساتذهم احترامَ إخوانهم الطلاب في الماضي، ولايتعلقون بهم ويلازمونهم خارج دوام المدرسة والجامعة، إلاّ إذا مسّت بهم هم حاجة إلى ذلك لتحقيق غرض من الأغراض الرخيصة.

       سلوكُهم العامّ مع الأساتذة يشفّ عن أنهم لايُعْجَبُونَ بهم ولايحبونهم؛ لأنهم يرونهم مجرد مُوَظَّفِين في المدارس والجامعات التي يتعلمون فيها، ينالون رواتب مُخَصَّصَة؛ فذلك هو جزاؤهم لقاءَ العمل التدريسيّ الذي يقومون به، فلا حاجةَ بنا – نحن الطلابَ – أن نمنحهم الاحترامَ والودَّ، فضلاً عن أن نخدمهم مادِّيًّا أو معنويًّا، وهم مُضْطَرُّون لتدريسنا الموادَّ التي أُسْنِدَتْ إليهم، سواء أَ رَضُوا أم سَخِطُوا من سلوكنا نحوهم وتصرفنا معهم.

       من ثم يُشَاهَد علنيًّا أنّ العلم الذي يناله الطلاب اليومَ في المدارس والجامعات الدينية هي الأخرى، لايُغَيِّرهم تغييرًا مطلوبًا، كان يُغَيِّر المتعلمين في الماضي، ولايرى نورُه يعلو وجوهَهم وسحناتها، ولا تلفّ بركتُه حياتَهم مثلَ الماضي، ولا يتشبّع قلوبهم به مثل قلوب الطلاب في الماضي؛ فلا يُخَرِّجُهم علماءَ أكفاء يقدرون على تجديف سفينة الأمة في الأمواج المتلاطمة في محيط الفتن العمياء اليومَ.

       لقد تَغَيُّروا هم فتَغَيَّر التأثيرُ، والعلمُ هو العلمُ. حقًّا إنّ الأشياء تأثيراتُها تتغيّر بتغيّر سلوك الإنسان نحوَها.

*  *  *

       على قلّة العلماء والطلاب، وقلّة المدارس والجامعات، والأمكنة المُخَصَّصَة للتعليم والدراسة، وقلة محاولات نشر النور العلمي، ومكافحة الأميّة؛ وعلى كثرة الجهل والأمية، كان الناسُ في الماضي سُعَدَاءَ، وكانت الدنيا بخير بشكل أكثر من الذي عليه اليوم؛ لأن الإنسان كان على علاّته يتمتع يقدر كبير من الإنسانيّة، ولم تستعبده الماديّة كما استعبدته اليوم، ولم تكن نظرتُه إلى الحياة والكون وكل ما فيه مادِّيَّةً بحتةً، كما صارت هي اليومَ.

       العلماءُ (Scientists) يشكون اليومَ التلوُّثَ البيئ (Environmental Pollution)، ويحذّرون الناس من المخاطر التي تُهَدِّدُهم من أجله؛ ولكنهم ربّما لايدرون أن التلوُّثَ غزا اليومَ كلَّ شعبة من شعب الحياة، وأخطر التلوُّثات هو التلوُّث المادّي (Material Pollution) الذي غزا حتى الشُعَب الحياتية التي كانت تُتَصَوَّر أنّها مُسَوَّرَة بحواجز سميكة من الروحانيّة، لاقِبَل للمادِّيَّة أن تخترقها. كانت منها شعبة الدراسة والتعليم، ولاسيّما التعليم الديني؛ ولكنّك قد رأيتَ ما طرحتُ من مظاهر الأخطار التي صارت مُهَدِّده من قِبَلِ المادِّيَّة الطاغية التي عَمَّتْ وطَمَّتْ، حتى ظهر فسادُها في البرّ والبحر.

       والعلاجُ يكمن بالنسبة إلى الطالب في حقل التعليم الدينيّ، في أن يعود إلى سيرته الأولى، ويُؤْمِنَ من جديد، أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُوَرِّث دينارًا ولا درهمًا وإنّما وَرَّثَ العلم، وأن قِسْمَة الله للمسلم هي العلم لا المال، كما قال عليّ رضي الله عنه:

رَضِيْنَا قِسْمَـةَ الجَبَّارِ فينا

لنا عِلْمٌ ولِلْأَعْــدَاءِ مَالٌ

       وأنّ الإنسان لا يَصْلُح بالمادة والمعدة، وإنما يَصْلُح بالعلم والتدين، والتقوى والورع، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة؛ وأنّ المرأ لن يموت حتى يستكمل رزقَه، كما وَرَدَ في الحديث؛ وأنّه لن يصيبه إلاّ ما كتب الله له؛ وأنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ وأن السعادة لا تكمن في كثرة المال، وإنما تكمن في راحة البال وطمأنينة القلب التي إنما تتحقق بصلاح الدين وفساد الدنيا، وأنّ الشقاء لايكمن في الحرمان من المال و وسائل الحياة، وإنما يكمن في فقدان طمأنينة القلب التي إنما تتحق بذكر الله والاهتمام بجانب الآخرة وتصحيح وتعزيز الصلة بالله. والشقاءُ يحصل بصلاح الدنيا وفساد الآخرة.

       وأنّ الداء الدويّ أن الإنسان عاد يَحْسَبُ أن السعادة كلَّها هي المال الكثير، والعيش الرغيد، والسمعة الواسعة، والعزّ الدنيويّ، والوسائل الوفيرة لإشباع المعدة والهوى.

( تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الاثنين : 10/ شوال 1431هـ الموافق 20/ سبتمبر 2010م) .

أبو أسامة نور

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1431 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2010م ، العدد : 11 ، السنة : 34

Related Posts