كلمة العدد
لكل عبادة في الإسلام حكمة سامية، ظاهرة أو خافية، وعجزُ الفكر عن استيعابها يؤدّي إلى تهافت في الأداء، واستحضارُها وإدراكُها يُحَقِّق المتعةَ الإيمانيّةَ، ويبعث على الاندفاع إلى العملِ في لذّة، والتطبيقِ في شعور فاعل بالمردود الإيجابيّ.
ولقد شاءت حكمةُ الله عزّ وجلَّ أن يكون الصيام عبادةً ذات تميّز تربويّ في بناء الإنسان، وصنع الأفراد والجماعات على أساس متين من الفضائل والقيم التي تبعث على التفاني، وتُعَلّم نكرانَ الذات، وتُدَعِّم الشعورَ الأخويّ، وتُعَزِّز أواصرَ المحبة، وتدفع إلى الصبرِ على المكاره وتحمّلِ الشدائد، وتُكْسِب القدرةَ العجيبةَ على مواجهة التحدّيات التي تتجدّد وتكثر في حياة الفرد والجماعة، ولاسيّما في عمر هذه الأمة الممتدّ إلى يوم القيامة.
إنّ بناءَ العزيمة الحديديّة، والإرادة الصلبةِ الفولاذيةِ لدى الإنسان المسلم، وتثبيت المعنويّات التي لاتُقْهَر في ضميره، كلُّ ذلك وغيره هو التقوى التي نصّ الله جلّ وعلا أنها الغاية المرجوّة من وراء الصيام الذي كتبه على هذه الأمة كما كَتَبَ على الذين من قبلها. إنّها إذا نشأت لدى المسلم، وتمكّنت منه، انتصر على النفس وشهواتها، كلَّ الانتصار؛ فيهون عليه الانتصارُ على كلّ عدوّ من الجنّ والإنس، ويهون عليه كسبُ كل معركة في الحياة يخوضها مع نفسه الأمارة بالسوء أو مع غيره أيًّا كان.
التقوى حين يتّصف بها المسلم، تتحوّل إلى الوقاية الذاتية الدائمة، والمتابعة الأمينة المتصلة، والمحاسبة الدقيقة الدائبة، والمراجعة الصادقة المتواصلة لكل ما يصدر منه من قول أو فعل.
إنّها تجعل المسلم يتّقي كلَّ ما يضرَّه هو، أو يضرّ أسرتَه، أو يضرّ مجتمعَه، ويحول بينه وبين المقاصد السامية والكمال الإنساني المرجوّ الممكن: الكمال الخلقي، الكمال الفكري، الكمال النفسي، الكمال السلوكي.
الصوم تنبثق منه التقوى بشكل تلقائيّ، فتُشَكِّل عاصمًا من كل شرّ وفساد وفتنة وسوء وضرر، وضمانًا لكل خير ومصلحة شريفة، وغاية نبيلة، وهدف منشود لدى الشريعة من أجل التكامل الإنساني و الشمول السلوكي والنضج الخلقي. والتقوى تتفجّر ينابيعُها، فتتعدّد مُعْطَيَاتُها، وتشمل انتصاراتُها، وتكثر خيراتُها، فتضع النفسَ في مواجهة أكيدة أمام تبعاتها ومسؤوليّاتها.
المسلمون الأوّلون من الصحابة والتابعين ومن تَبِعَهم بإحسان، أدركوا غايةَ الصيام إدراكاً حقيقيًّا، وفهموا مهمتها فهمًا صادقًا، فاستحضروها وهم يؤدونه، فكان له مردود غير عاديّ في حياتهم الفرديّة والجماعيّة، فعَلَّمَهم الصلابةَ في الحقّ، والإصرارَ على رفض الباطل، والقدرةَ الفائقةَ على مواجهة كل إغراء ماديّ وإغواء شيطاني، ولم تستطع عوامل التأثير على أنواعها وتكاثرها وقوتها أن تخترق جُنَّةَ الصيام لديهم.
عندها شَعَرَ كلُّ فرد منهم أنّه يعيش تجربةً خاصّةً من تجارب العبادات، تحدث آثارًا سلوكيّة فريدة تصبغ الحياةَ كلَّها بصبغة خاصة، وتزكّيها من كلّ الشوائب التي لاتتفق والإيمانَ الصادق ومردوداته الإيجابيّة، فعاد وقد اغتسل في نهر الصيام وعبّ منه وصدر عنه، كيوم ولدته أمّه، تخلَّص من كلّ الذنوب، و ودّع جميعَ الآثام والمعاصي والتجاوزات على عتبة الماضي الذي لم يَعُدْ في حياته.
كانوا يجتنبون جميعَ العوامل التي تجعل هذه العبادةَ المُسْتَهْدِفَة لغايات شريفة شكليّةً، مجردةً من معنويّاتها، وتحول دونها دون مُعْطَيَاتها. وذلك لأن نبيهم S حذّرهم تحذيرًا قاطعًا من الإخلاد إلى الجوانب الماديّة الشكليّة للصوم، مُؤَكِّدًا أنّه إذاً جسد بلا روح، وعبادة بلا فائدة؛ فقال S:
“من لم يــدع قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامَه وشرابَه” (رواه البخــاريّ وأبوداؤد عن أبي هريرة رضي الله عنه).
وقال:
“ليس الصيام من الأكل والشرب، وإنما الصيام من اللغو والرفث” (رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه).
وروى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاريّ:
“ربّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش، وربّ قائم حظُّه من قيامه السهر”.
الصيامُ بتأثيراته العظيمة يجعل المسلم يوالي الانتصارات على جميع التحديات وعلى الأعداء بأنواعهم، وكأنّه كائن خارق؛ فمعركة بدر ومعركة فتح مكة، ومعركة فتح الأندلس، ومعركة حطين ضد الصليبيين، ومعركة عين جالوت ضدّ التتار، إنما كسبها المسلمون وهم صائمون في رمضان، على حين إننا عُدْنا اليوم نظنّ أن الصيام يُضْعِف القُوَى، ويجعل الصائم ينهار؛ فلا يقدر على تحقيق أعمال عاديّة، فضلاً عن خوض المعارك الفاصلة الحاسمة ضدّ الأعداء في حروب مصيريّة. والفرقُ بيننا وبينهم أن صيامهم كان صادرًا عن المعنى الحقيقي له وعن إدراك لقيمته وغايته وحكمته؛ فكان يحملهم على التضحية والفداء، والبذل والعطاء، وحمل النفس على أشدّ المكاره وأشق المصاعب وعلى كلّ ما لاتحبّ، والصمود أمام المغريات التي تفقد النفوسُ أمامَها كلَّ رصيد من الصبر والاحتمال.
أما نحن اليوم فعُدْنا نتصوّر أن شهر الصيام فرصة جميلة للتمتع بأشهى الأطعمة وألذّ الأكلات التي قد لا تُصْنَع مدى العام إلاّ بهذه المناسبة التي نظنّها تزيدنا التذاذًا بألوان الطعام بعد ما نكون قد ذقنا الجوع والعطش طوال النهار، فننقضّ على الأطعمة الشهية بدءًا من موائد الافطار ومرورًا بموائد العشاء وانتهاءً بموائد السحور، فحوّلنا الشهر كلَّه موسم التلذذ بالأطعمة المتنوعة الغريبة؛ فصرنا مهزومين أمام شهوات النفس، فعدنا مهزومين أمام الأعداء.
إنّ المتخرج في مدرسة الصيام كان أصلب عودًا، وأقوى إرادة، و“كائنًا ماورائيًّا“ يخافه الأعداء، وينهزم أمامه جيش كثير العَددَ والعُددَ. إنّ انتفاضة صحيحة في جهة صحيحة ولو خطوات فيما يتعلق بالتقيد بروح الصيام وقداسة رمضان جعل المسلمين في الأمس القريب يهزّون الكيان الصهيوني هزة عميقة واسعة المدى في حرب رمضان 1393هـ أي حرب أكتوبر 1973م.
إنّ الصيام يتسامى بالمسلم إلى العلياء التي لاتُتَصَوَّر، إذا كان عن إدراك لحقيقته، وتلبّس بمعناه الحقيقي، وتطلّع صادق إلى أهدافه الكبرى التي أرادها الله عز وجلّ أن يصل إليها عباده المؤمنون.
وتلك هي التقوى الحقيقية التي جعلها الله تبارك وتعالى غايةَ الصيام؛ لأنها حالة تتكوّن في النفس نتيجة للإيمان الراسخ بالله، والصيام هو المعاناة العمليّة لرياضة النفس على تربية النزعة الإيمانيّة لدى الفرد والجماعة، من خلال التعوّد على الصبر والصمود غير العادي في مواجهة الحياة، وكشف الحساب مع النفس في دورة تدريبية حَدَّدَ لها الله تعالى أمدًا مُحَدَّدًا وهو الشهر الكامل: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
المسلم بعد تجاوزه هذه الدورة التدريبية لمدة شهر يعود متزودًا بالتقوى، فيصبح هو رقيبَ نفسه في كلّ وقت، فلا تنحرف، ولاتضلّ، ولاتشذ عن الطريق السويّ في أيّ مطلب من مطالب الحياة؛ لأنّه يعود بعد اجتياز الدورة وقد صَفَتْ نفسُه، وتَزَكَّت روحُه، وتَخَلَّصَ كيانُه من كل الأدران التي تكون قد عَلِقَت به في الرحلة السنويّة الطويلة ذاتِ المُنْعَطَفَات الكثيرة، والإغراءات المتنوعة، ونَمَا لديه شعور داخليّ قويّ بأنّ هناك في أعماقه سلطةً ذاتيةً تتحكّم في كلّ الأعمال والأقوال.
وبذلك فالصيامُ مدرسة يتعلّم فيها المؤمنُ سلطةً حيويةً ويتلقّى فيها جرعة تطبيقيّةً عمليّةً، ويتلقن فيها أعظم مَنهج للإرادة والإدارة بشكل سلوكيّ واقعيّ؛ فيجد في داخل نفسه مقاومة ذاتية لكل شهوة؛ وملاحقة لكل انحراف، واندفاعًا أوتوماتيكيًّا إلى استيعاب الخيرات وقطف الحسنات، واحترازًا عفويًّا من كل المنكرات والسيئات، وضبطاً تلقائيًّا لكل حركة وسكون تتعرض لهما الحياة في مسيرتها الطويلة، وكبحًا اضطراريًّا لأي جماح تتعرض له النفس.
لم يُشرع الصيام لمجرد أن يشعر الأغنياء بألم الجوع ومعاناة الحرمان فيعلموا أن هناك من إخوانهم محرومين فقراء يذوقون ويلات الفقر ومرارة الحرمان طوال العام، فيميلوا إلى مدّ أيدي العون إليهم؛ بل إن الصوم يربّى المسلم على الصلابة في الحق، وعزيمة الإرادة، وقوة الصمود أمام كل تحدّ مهما هال وطال، فلا يزعزعه أي حالة من المواجهة والمعاناة والتعرض للأخطار والأهوال، التي تكثر في طريق الحياة حتى لايمضى فيه قدمًا، وينهار عاجلاً؛ ولكن المؤمن المتخرج في مدرسة الصوم، والحامل لشهادة التقوى والتزكية، لايقبل هزيمةً أمام أي قوة قاهرة.
عندما جعل الله التقوى غايةَ الصيام، حَضَّ المسلم الصائم أن يظلّ دائم الاستحضار لروافده الكثيرة المتصله ومُعْطَيَاتها غير المعدودة، وبصيرًا كلَّ وقت بمواقع استلهامها وفرص استثمارها وتوظيفها في الأغراض الدينية والدنيويّة ومُتَحَسِّبًا لمواطن الحاجة إليها، وعندها يعود هو أمينًا في جميع مناحي الحياة، دقيق الشعور بالمسؤوليّة، فهو على المستوى المطلوب في كل جهة من جهات الحياة: إنه أمين إن كان تاجرًا، فلا يغش، ولا يخدع، وهو أمين إن كان أجيرًا أو موظفًا فلا يخفف في العمل ويطلب الأجر فوق المطلوب، وهو مربّ صادق إن كان والدًا أو أستاذًا، لايقصر في أداء الدرس، ولا في ممارسة التربية وإسداء النصح وبذل كل وسع في بناء الجيل وإعداد مستقبله، وهو خادم القوم حقًّا إذا كان سيدهم أو حاكمهم وقائدهم، فهو دائم التفكير في النهوض بالشعب والوطن، يتخذ لذلك كل وسيلة، ويوفر له كل سبب، ويسعى له كلّ وقت، ويسهر على مصالحهما – الشعب والوطن.
الصيام مدرسة جامعة تُخَرِّج المسلم تخريجًا يحير الألباب ويدهش العقول؛ حيث يتغيّر كلّيًّا، فهو غير ما كان قبل الالتحاق بها والتخرج فيها، شريطة أن يظلّ فيها “طالبا مجتهدًا“ “طالبًا مثاليًّا“ لايضيّع أي فرصة في غير فائدة، ويستغلّ كل لحظة في التحضير والدراسة والتفكير والتأمّل، ويحترز من أن يكون طالبًا مهملاً، يمضى الوقت ناسيًا وظيفته التي من أجلها التحق بهذه المدرسة النموذجيّة.
نور عالم خليل الأميني
(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الخميس: 18/ رجب 1431هـ = 1/ يوليو 2010م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34