الفكر الإسلامي

بقلم: الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة

العيدُ اسمٌ لكل ما يعتاد، والأعياد شعارات توجد لدى كل الأمم، سواء أكانت كتابية أم وثنية أم غير ذلك؛ ذلك أن إقامة الأعياد ترتبط بفطرة، طبع الناس عليها، فكل الناس يحبون أن تكون لهم مناسبات فرح يظهرون فيها السرور، ويتذكرون الماضي.

       وأعياد الأمم الكافرة ترتبط بأمور دنيوية، مثل قيام دولة، أو سقوطها، أو تنصيب حاكم، أو تتويجه، أو زواجه، أو بحلول مناسبة زمانية كفصل الربيع، أو غير ذلك.

       ولليهود أعيادهم، وللنصارى أعيادهم الخاصة بهم، فمن أعياد النصارى العيد الذي يكون في الخميس الذي يزعمون أن المائدة أنزلت فيه على عيسى عليه السلام، وكذلك عيد ميلاد عيسى، وعيد رأس السنة (الكريسمس)، وعيد الشكر، وعيد العطاء… ويحتفلون بها الآن في جميع البلاد الأوروبية والأمريكية وغيرها من البلاد التي للنصرانية فيها ظهور، وإن لم تكن نصرانية في الأصل، وقد يشاركهم بعض المنتسبين إلى الإسلام من حولهم عن جهل، أو عن نفاق.

       وللمجوس – كذلك – أعيادهم الخاصة بهم، مثل عيد المهرجان، وعيد النيروز، وغيرهما.

       وللرافضة – أيضًا – أعيادهم، مثل عيد الغدير الذي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع فيه عليًا رضي الله عنه بالخلافة، وبايع فيه الأئمة الأثني عشر من بعده، وللرافضة في هذا العيد مصنفات كثيرة، حتى إن منها كتابًا اسمه (يوم الغدير) يقع في عشرات المجلدات.

       أما المسلمون فليس لهم إلا عيدان: عيد الفطر، وعيد الأضحى؛ ففي سنن أبي داود والنسائي بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين، فقال صلى الله عليه وسلم: (كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى)؛ وهذان العيدان اللذان شرعهما الله للمسلمين هما من شعائر الإسلام التي ينبغي إحياؤها، وإدراك مقاصدها، واستشعار معانيها.

       فأبادلكم التهنئة بالعيد المبارك، جعلها الله لنا ولكم ولكل المسلمين أفراحًا موصولة. هكذا العيد أيها الأحبة، أفراح ومباهج وصفاء ونقاء، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوْا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون﴾(يونس/58). فلتتصافح القلوب، ولتتصاف النفوس، ولنجد ميثاق الإخاء الإسلامي بين أولياء الله وحزبه من أهل (لا إله إلا الله) تعاونًا على البر والتقوى، وتواصيًا بالحق والصبر، ونصرة للظالم والمظلوم، فلن يذوق طعم الفرح بالعيد قلب تأكله الأحقاد، أو ضمير يكسنه الغش، أو نفس يتلبسها الهوى.

       ولنحلم بغد مشرق تلوح تباشيره في الأفق البعيد.. فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! لم لا نفرح بالأحلام اللذيذة؟!

       لقد سَنّ أبو الطيب المتنبي للناس سنّة غير حميدة حين سوّد صفحةَ العيد بداليته المتشائمة:

عيدٌ بأية حال عُدت يا عيدُ

لما مضى .. أم لأمر فيك تجديد

أما الأحبة فالبيداء دونهُمْ

فليت دونك بيدًا.. دونها بيد

       وصارت سنة.. فما شاعر إلا ويندب حظَّه يوم العيد، كما ندب أبو الطيب، ولو أنها حظوظ شخصية، ومعاناة خاصة، وهموم ذاتية، والله أعلم.

       ما الذي سيحدث للأمة لو أن أبا الطيب ظفر ببغيته، وأصبح أميرًا على العراقين؟!

وغير كثير أن يزورك راجل

فيرجع ملكاً للعراقين واليا

       وهكذا حفظنا منذ طفولتنا قول الشاعر الأميري:

ما العيد والقدس في الأغلال رازحة

وفي الخليل ملمات وتشريد

وصدحة المسجد الأقصى مخنّقةُ الـ

أصداء بالدم والويلات ترديد

واللاجئون صيام العيد فطرهُمُ

وجل أفراحهم همّ وتسهيـد

يا رب أخذك للباغين أخذ ردى

والفتح والنصر حتى يصدق العيد

       وقول جارنا الشاعر المقل المبدع محمد الشبل:

يا عيد .. أنت على المدى إشراقة النفس العليلة

وسعادة القلب الذي .. لم يلق في الدنيا سبيله

لكنها الأيام تسلب منك فرحتك الجميلة

وتحيل صفو العيش فيك إلى أمان مستحيلة..

يا فرحة العيد التي ثقلت على صدر الزمن

يا فرحة العيد المؤطر بالمآسي والمحن

عودي..

إذا عادوا، إذا عادوا إلى أرض الوطن

عودي إذا عاد الفتى والطفل والشيخ المسن

وتلفتوا في لهفة للأرض.. للحقل الأغن ..

       في نفس شاعري مسترسل يعمق هذا المعنى.. ويأتي قبول فرحة العيد بغير تحقيق النصر.

       إن لبلوغ الأمل المنشود على الصعيد الفردي والأممي فرحةً أخرى تختلف في مباهجها وطعهما عن فرحة العيد الراتبة المألوفة.

       وقد علم الله الحكيم أن الأمة ستركب طبقًا بعد طبق، وستأخـذ مأخـذ الأمم قبلها في التفريط، والاتكاء على الماضي العريق، والتخاذل عن الواجب، وستمرّ بها أزمات ومحن ومصائب.. وشرع لهم سبحانه أن يفرحوا بعيدهم، شكرًا على تمام العبادة، والهداية إلى الشريعة ﴿وَلِتُكَبِّرُوْا اللهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ﴾ (سورة البقرة/185).

       ونأى الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين عن موافقة أهل الشرك أو أهل الكتاب في أعيادهم ورسومهم، لا ليدع المسلمين دون عيد وفرحة؛ ولكن ليخصهم بهذين العيدين الكبيرين المرتبطين بالتعبد صومًا، أو حجًا، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى.

       وما من شك أن المسلمين كانوا يقيمون هذه الأعياد ويجتمعون ويوسعون على الفقير والمسكين ويترخصون من الأعمال بما لايرتضونه في غيرهم (دعها، فإنه يوم عيد).

       يفعلون ذلك حتى حين يكونون في معاناة أو ترقب أو محنة… إن النفس البشرية قد تمل من فرط الإلحاح على معنى واحد، ولو كان صوابًا في ذاته، فالجدّ الصارم يمل، ولا بأس أن نوقف معزوفة الحزن والندب لنُشمّ قلوبنا شيئًا من عبير الفرحة بالشرع والهداية والتوفيق.

       وثمة معنى لطيف يتصل بهذا السياق، وهو التذكير بأنه لاشيء من أمر الحياة الدنيا يدوم.

فيومٌ علينا ويومٌ لنـا

ويومٌ نساء ويومٌ نسرُ

       والله تعالى بيده الأمر، يخفض القسط ويرفعه، كل يوم هو في شأن، وليست الذلة والمرارة التي تعيشها الأمة الإسلامية حتمًا صارمًا لايزول، والتاريخ لايعرف الكلمة الأخيرة، بل هو في دورات متعاقبة يتحقق فيهم التقديم والتأخير، والعلو والهبوط، والتمكين والاستضعاف، ولا شيء يدمر إمكانيات الأمة، ويجرها إلى اليأس والقنوط والانتحار، مثل الإحساس بالعجز والتوقف عند حال خاص.

       لقد أدركنا العيد هذا العام ونحن هدف للمغامرات الأمريكية ولمؤامرات الأعداء وتفتحت شهية الأحلاف للضرب ذات اليمين وذات الشمال، ومحاكمة الثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي وإدانة المجتمعات المسلمة، والتدخل المباشر لتغيير مناهج المسلمين وأفكارهم وإعلامهم واقتصادهم.

       ولقد رأيت المرارة وقرأت الحزن الدفين في وجوهِ من لقيتهم، وفي كلماتهم وعباراتهم وأحاديثهم.

       وهذه حالة فاضلة من حيث صدق الولاء لهذا الدين وعمق التفاعل مع جراح الأمة وآلامها ونكباتها.

       لكن تعديل المزاج بجرعة من الفرحة الغامرة والضحكة الصادقة، واستعادة البراءة الطفولية قد تعيد تشكيل النفس، وتجدد عزيمتها وترفع همتها، ومن الحكمة البالغة القدرية أن الله تعالى غشَّى المسلمين النعاس حين احمرّت الحدق، واشتد الخوف، وأصابهم القرح في أحد، فكشف به عنهم غائلة الشر، وأعاد به إليهم السكينة والرضا والاطمئنان.

       إن العيدَ جزءٌ من نظام الأمة الرباني، يصل ماضيها بحاضرها، وقريبها ببعيدها، ويربِّي ناشئتها على الانتماء الحق لها، ويربط أفراحها بشرائع دينها، التي هي معراجها إلى الكمال والقوة والانتصار.

       وليس يحسن أن تجوز عليه المتغيرات فينسى الناس كونه عيدًا، ليتحول عندهم إلى مناحة.

       لنرغم أنف الشعراء… ولنفرح بالعيد، كما هي سنة الأنبياء، وها نحن نلتقط خيط الأمل من نقطة ضوء تلوح في آخر النفق.. يقدحها طفل فلسطيني برمية حجر” أو عامل دؤوب في حقل من حقول الإصلاح والبناء والتعمير والإحياء.

       عيدكم مبارك، وتقبل الله منا منكم، وغفر الله لنا ولكم.

       والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34

Related Posts