كلمة العدد

بعد ثلاثة أسابيع من المجازر الوحشيّة الدامية أوقفت الدولةُ الصهيونيةُ القتالَ ، فهل كانت هي المنتصرة وكانت المقاومة الإسلامية هي المنهزمة ، أم كان الأمر بالعكس ؟.

       الخبرةُ العسكريّةُ تقول : المقاومةُ التي لم يُقْضَ عليها من قبل جيش نظاميّ هي المنتصرة بالتأكيد ، والجيشُ النظاميُّ الذي لم يقدر على أن يقضي على مقاومة هو المنهزم ليس إلاّ . وذلك يعني أن المقاومة الإسلاميّة انتصرت في محرقة “غزّة” والجيش الصهيوني المُمَدّ بالأسلحة الصليبيّة الأمريكيّة هو المنهزم .

       على أنّ الذي يحقّق أهدافه من وراء الحرب التي خاضها هو المنتصر، أمّا الذي يفشل في تحقيق أهدافه هو المنهزم. إنّ ذلك تقييم عادل واضح للمنتصر والمنهزم يقبله العقل والمنطق. وكلٌّ يعلم أنّ المقاومة الفلسطينية لم يكن هدفها قطّ في هذه الحرب التي فرضتها عليها إسرائيلُ القضاءَ على الجيش الإسرائيلي المدجج بكل نوع من الأسلحة والمدفوع بكل نوع من الحقد والثأر والعدوان؛ لأنّ ذلك مطلب لم تقدر عليه الجيوش العربيّة النظاميّة التي حاربته في الماضي، وتخاف محاربتها اليوم مخافة الأطفال للسعالي في الليل البهيم . وإنما كان هدفها أن تحتفظ بنفسها وتبقي على ذاتها حتى تظلّ متصدّية للقوات الإسرائيليّة بما يمكنها من إلحاق خسائر ولوضئيلة جدًّا؛ فالمقاومة بالقياس إلى ذلك انتصرت ولم تنهزم . أمّا إسرائيلُ التي كانت قد أعلنت أنها تودّ القضاءَ على صواريخ المقاومة، وعلى البنية الأساسيّة والقدرة العسكريّة لدى “حماس” فإنّها انهزمت كلِّيًّا ؛ لأنها لم تقدر على تحقيق أهدافها ولن تقدر إن شاء الله .

       إنّ المقاومة صنعت ما كانت تستطيعه، ولم تكن مُكَلَّفةً إلاّ بذلك “لايُكَلِّف اللهُ نفسًا إلاّ وُسْعَهَا” (البقرة/286) والقرآنُ الكريم لم يُكَلِّفنا بأن يكون لدينا مثل ما لدى الأعداء من عُدَد، وإنما كَلَّفَنا بإعداد ما نستطيع من قوّة :

       “وأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُوْنَ بِه عَدُوَّ اللهِ وعَدُوَّكُمْ وآخَرِيْنَ مِنْ دُوْنِهِمْ لاَتَعْلَمُوْنَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ” (الأنفال/60) .

       المقاومةُ لم تألُ جهدًا فيما كان بوسعها، إيمانًا منها بأنّ الدفاعَ عن الدين والوطن والعرض والمال والمقدسات الإسلاميّة فريضةٌ على كل مسلم، ولاشكّ أنّ جهادها المتّصل هو الذي أبقى هذه القضيّة حيّة، وجعل العدوّ يتقلّب على أحرّ من الجمر، وزرع عوائق كثيرة في سبيل تحقيق الأهداف التي تودّ إسرائيل تحقيقها عاجلاً في فلسطين .

       إنّ هناك عددًا كبيرًا من الكُتَّاب والمُثَقَّفِيْن ورجال الصحافة والإعلام والقادة والساسة في عالمنا العربيّ، عملوا على تثبيط الهمّة، وإحباط الأمل في قلوب الإخوة المؤمنين من سكان “غزّة” ولا سيّما شباب المقاومة المرابطين على هذا الثغر المقدس في “غزّة” ، إنهم لعبوا دور الكفّار الذي تحدّث الله تعالى عنه – الأأدور – في كتابه الخالد وحذّر من تبنّيه :

       “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” (آل عمران/156)

       حتى كتب كاتب عربيّ مسلمٌ (!!) مقالاً قال فيه مُحَرِّضًا الجيشَ الإسرائيليَّ على رجال المقاومة :

       “أيُّها الجيشُ الإسرائيليّ ! عليكم بالإرهابيين الفلسطينيين . لاَحِقُوا مُتَمَرِّدِي “حماس” ومعتوهيها والحمقى من قادتها والمُتَهَوِّرين من زعمائها المُتَسَتِّرِين بالدين والمُتَاجِرين به، واسْحَقُوهُمْ وأبيدوهم ولَقِّنُوهم درسًا لن يَنْسَوْه للأبد، وخَلِّصُوا “غَزَّة” من سطوة الحركة الإرهابيّة” (إسلام عبد العزيز، مجلة “التبيان” القاهرة، العدد 55، السنة 5: صفر 1430هـ / فبراير 2009م).

       إنّ المقاومة آمنت إيمانًا لايشوبه نفاق أنّ توقيع السلام مع اليهود: أعداء الله ورسوله سراب خادع، وعمل فاضح، وتصرف مخزِ، ولن يجني المتورطون فيه من القادة والساسة إلاّ الأسفَ الذي لن يُتَلاَفَىٰ؛ لأنّ الله عَزَّ وجلّ يقول بما لايقبل تأويلاً إنّ اليهود والنصارى كلهم أولياء بعضهم لبعض ولن يكونوا أولياء للمسلمين أبدًا:

       “يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُوْدَ وَالنَّصـٰـرَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإنَّه مِنْهُمْ إنَّ اللهَ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظَّـٰـلِمِيْنَ فَتَرَى الَّذِيْنَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُوْنَ فِيْهِمْ يقُوْلُوْنَ نَخْشَىٰ أنْ تُصِيْبَنَا دَائِرَةٌ” (المائدة/51-52).

       المقاومة تعلم أن إهلاك الظالمين الطغاة: اليهود والنصارى أي الصهاينة والصليبيين والمتألبين من المشركين والكفّار على المظلومين المسحوقين في فلسطين ستتحقق كسنة إلهيّة لن تتحوّل، شريطة أن تقوم هي – المقاومة – بما يجب عليها ولا تُقَصِّر في التضحية التي تستطيعها .

       وسنّةُ إهلاك الظالمين ، ظَلَّ يتعامل بها ربُّنا العزيزُ المنتقمُ الجبَّارُ مع الأمم الطاغية والأقوام الباغية في الماضي إهلاكاً وتدميرًا ، فقال تعالى: “وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إلاَّ وأَهْلُهَا ظَـٰـلِمُونَ” (القصص/59) . إنّ ذلك ظلّ سنةً مُطِّرِدَةً في جميع الأمكنة والأزمنة وقد أكّد تعالى أنه سيصنع مع اللاّحقين ما صنع مع السّابقين؛ فقال:

       “أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِيْــنَ ثـُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِيْنَ كَـذٰلِكَ نَفْعَــلُ بِالْمُجْرِمِيْنَ” (المرسلات/16-18) .

       وقد أكّد الله عَزَّ وجلَّ أنه عندما يبطش بالظالمين لايتركه دون أن يهلكه وأنّ بطشه أليم شديد: “وَكّذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخّذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَه أَلِيْمٌ شَدِيْدٌ” (هود/102).

       ويقول: “وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِيْنَ” (الأنبياء/11).

       ويقول: “وَتِلْكَ القُرَىٰ أَهْلَكْنَـٰـهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكُهِمْ مَوْعِدًا” (الكهف/59).

       إنّ الصهاينةَ والصليبيين وغيرهم من الكفّار والمشركين الذين يتحدَّون المسلمين ، ويصبّون عليهم العذاب، ويخرجون المظلومين من ديارهم وأوطانهم أو يُعَذِّبُونهم في عقر دارهم كالفلسطينيين . وغيرهم قد يبدون متمتعين بعيش رغيد ، ومتقدمين حضاريًّا ومَادِّيًّا ، ومحظوظين أسبابًا دنيويّة ووسائلَ حياتيّةً ؛ ولكنه ينبغي أن لايظنَّ مسلم أنّ ذلك خير لهم وسعادة حِيْزَتْ لهم ؛ لأنّ ذلك استدراج لهم من الله عزّ وجلّ ليكونوا أكثر طغيانًا ، وأشدَّ إيذاءً وإيلامًا للمسلمين ، حتى يبوؤوا بإثم أكثر ، وعذاب أكثر إهانةً . وقد نصّ القرآن الكريم على ذلك ، فقال:

       “وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ” (آل عمران/ 178).

       ويقول:

       “فَذَرْنِيْ وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيْثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَيَعْلَمُوْنَ وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِيْ مَكِيْنٌ” (القلم/44-45).

       إنّ الآية لتجيب إجابة شافيةً كافيةً وافيةً عن التساؤلات العريضة والشكوك الكثيرة التي تثور في قلوب كثير منّا ؛ حيث يقولون: لماذا إنّ المسلمين هم المسحوقون المهزومون في كل مكان ، والكافرون المشركون المعادون المحاربون لله ولرسوله هم المنتصرون المتغلبون في كل معركة والمتقدمون في جميع مجالات الحياة والمتمتعون أسبابًا ووسائل وثروات وأموالاً؟.

       إنّ الآية أكّدت أنّ ما يحظى به أعداء الله من دينا ظاهرة وغلبة وانتصار إنما هو إمهال لهم من الله عزّ وجلّ . يقول سبحانه في آية آخرى:

       “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَـٰـهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـٰـلَمِينَ” (الأنعام/ 44-45).

       إنَّ المقاومةَ الإسلاميَّة – ولله الحمد – أَبْلَتْ بلاءً حسنًا، ولم تُقَصِّر في تقديم أيّ تضحية كانت باستطاعتها، وإنَّ الدماءَ التي قَدَّمَتْها في سبيل الله لن تضيع هدرًا، والشهداء الذين زُهِقَتْ أرواحهم من أجل استرداد الوطن واستعادة الحقّ الإسلاميّ العربيّ المغصوب لن تذهب سدى. إنَّ الله سيُقَدِّرها حقَّ قدرها، وسيستثمرها استثمارًا مُبَارَكاً، وسيأتي اليوم الّذي يفرح فيه المؤمنون بنصر الله.

( تحريرًا في الساعة 10 من يوم الأربعاء : 29/2/ 1430هـ = 25/2/2009م )

نور عالم خليل الأميني

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة : 33

Related Posts