كلمة العدد
زرعُ غرس “إسرائيل” الخبيث في داخل الأرض الإسلاميّة العربيّة “فلسطين” من قبل الدول الغربيَّة وعلى رأسها “بريطانيا” و”أمريكا” إنّما كان لتعذيب الأمة المسلمة كلِّها عمومًا والفلسطينيين والعرب خصوصًا، وبشكل متّصل دائم؛ ولجعلهم جميعًا يمون قبل الموت آلاف المرات التي لاتُحْصَىٰ؛ حتى يَتَأَذَّوا بصورة مستمرّة جسمانيًّا ونفسيًّا، لكي يَبْقَوا دائمًا مُصَابِين بصداع يجعلهم لايلتفتون إلى أيّ ناحية أخرى؛ فلا يهتمّوا بالسير على طرق التقدّم العلميّ والاقتصاديّ والعسكريّ والاجتماعيّ، فيلازمهم التخلّف في هذه المجالات التي تؤدّي كنتيجة حتميَّة إلى التخلّف الفكريّ الذي هو أَخْطَر التخلّفات على الإطلاق.
ومهما قيل في تحليل الدواعي التي حملت الغربَ على غرس هذه البذرة اليهوديّة الصهيونيّة في قلب العالم العربيّ – الذي إنّما هو التراث الإسلامي الإبراهيمي المحمديّ – فإنّ دراسة العقليّة الغربيّة دراسةً عميقةً وسيعةً مبنيّةً على الدراية والحياديّة والموضوعيّة، تُؤَكِّد أنّها – الدواعي – كانت أصلاً صليبيّة؛ لأنّ اللطمة الشديدة القويّة الموجعة التي أصاب بها ابنُ الإسلام البار والبطل الإسلامي الكبير والمجاهد المغوار صلاح الدين الأيوبيّ (532-589هـ = 1137-1193م) الغربَ الصليبيّ في معاركه معه – الغرب – لتحرير فلسطين، لايزال – وظلّ عبر هذه السنين الطويلة وسيظلّ إلى مدى معلوم لدى الله – يشعر بصدمتها في أعماق ضميره.
فقيامُ هذا الكيان الغريب في قلب الأرض الإسلاميّة العربيّة بينما يرجع إلى الدسيسة الصهيونية والمجهودات التي بذلها الصهاينة صادرين عنها – الدسيسة – إذ يرجع إلى إرادة الغرب الماكرة التي صدر فيها عن الروح الصليبية والعداء المتجذّر في قلبه ضدّ الإسلام. من ثم بينما هو – الغربُ – يُطَبِّل لحقوق الإنسان، وينادي بالعدل والمساواة، ويهتف بالديموقراطيّة، إذ نراه يتجاهل هذه المبادئَ كلَّها فيما يتعلّق بالإنسان الفلسطيني، ونجده يقف بجانب كلّ السياسات الجائرة التي تُكَرِّس مزاعمَ إسرائيلَ في فلسطين، وتُحَقِّق مصالحَها وحدَها، وتُحَبِّذ جيمعَ الإجراءات الظالمة والاعتداءات الصارخة التي يُنَفِّذها الكيانُ الصهيونيُّ ضدَّ الفلسطينيين؛ وكأنّ حقوق الإنسان اختصرتْ لديه – الغرب – في حقوق الغرب واليهود والصهاينة؛ لأنّهم وحدَهم الإنسان. أمّا غيرُهم ولاسيّما المسلمين فإنّهم لاحقوقَ لهم؛ لأنهم – كما يبدو جليًّا من التصرّف الغربيّ – ليسوا إنسانًا له حقوقٌ تُصَنَّف ضمنَ “حقوق الإنسان”.
إنّ تصرُّفَ الغرب – وعلى رأسه أمريكا – يؤكّد بما لايدع مجالاً للشكّ حتى لدى أبله النّاس أنّ الديموقراطيَّةَ تعني عنده ما يعين على تحقيق مصالحه ومصالح حلفائه، وبكلمة أخرى: إنّ الديموقراطيّةَ كلُّ نظام يَشْفِي شهواته ويُحَقِّق رغباتِه؛ فعندما نحج الإسلاميّون في كسب الانتخابات في الجزائر منذ سنوات، حال الغرب وأمريكا دون تولّيهم قيادةَ البلاد، على حين إنّهم نجحوا في الانتخابات بأغلبية ساحقة وبطريقة ديموقراطيّة؛ ولكنّ قيامهم بقيادة بلادهم كان ضدَّ مصالح أمريكا والغرب؛ فسدّت طريقهم إليها.
وكذلك نحجت “حماس” في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني التي عُقِدَتْ يومَ الأربعاء 25/1/2006م (24/12/1427هـ) وفازت فيها بأغلبيّة ساحقة؛ ولكن أمريكا – والغرب والمجتمع الدوليّ – حالتْ دون ممارستها للحكم، حتى حصلت بين “فتح” العلمانية الموالية لأمريكا والدولِ العربية الدائرة في فلكها وبين “حماس” تصارعاتٌ ونزاعاتٌ حادَّةٌ أدّت إلى الاشتباك الدمويّ بينهما الذي أسفر عن سيطرة “حماس” على غزّة يوم الخميس: 14/ يونيو 2007م (27/ جمادى الأولى 1428هـ) على الرغم من الكيان الصهيونيّ وأمريكا ودول الغرب وجميع الدول العربيّة الموالية لأمريكا.
فعذّبت الدولةُ الصهيونيّةُ على أمر ومساعدة من أمريكا ودول الغرب ورضًا من الدول العربية الدائرة في فلكها الشعبَ الفلسطينيَّ؛ لأنّه رَضِيَ بحكم “حماس” في “غزة” فجَوَّعَتْه، وحَاصَرَتْه، وقَطَعَتْ عنه الماءَ والكهرباءَ والدواءَ، وجميع وسائل الحياة. وخلالَ ذلك هاجمت على غزّة بشكل مُتَوَاصِل بآليّاتها الحربِيّة وطائرائها ودبَّاباتها، ثم مثَّلَتْ مسرحيّةَ التهدئة التي رَضِيَتْ بها “حماس” على غَصَصٍ منها؛ لأنّ الدولة الصهيونيَّةَ ما عَمَلَتْ بالهُدنة، وإنما ظلّت تحاصر الفلسطيينين في غزّة، وتمنع عنهم جميعَ وسائل الحياة، وتُعَذِّبُهم بكل شكل ممكن.
* * *
وبينما كان الفلسطينيون في غزّة يحاولون تَلَمُّسَ السبيل للحصول على قوت يومهم تحت الحصار الذي بلغ ذروتَه مع نهاية التهدئة التي انتهت صلاحيّتُها يوم الجمعة 19/ ديسمبر 2008م (20/ ذوالحجة 1429هـ) إذ حَصَلَ توتُّرٌ شديدٌ بين الكيان الصهيونيّ المتظاهر بالعمل بالتهدئة وبين “حماس” التي جَرَّبَت الويلات في حقّها وحقّ شعبها حتى خلال مدة التهدئة.
وكان الكيانُ الصهيونيُّ يُمَهِّد لعدوانه الأخير الذي قام به على “غزّة” منذ يوم السبت: 27/ ديسمبر 2008م (28/ ذوالحجة 1429هـ) بسلسلة مُتَّصِلَة من الخطوات التصعيديّة بما فيها السياسيّة والأمنيّة، مُتَمَثِّلَةً في إغلاق المعابر على قطاع غزّة، ورفع مستوى الهجمات الجويّة والبريّة على غزّة، ومحاولة فرض شروط سياسيّة قاهرة على الشعب الفلسطيني، بما فيها دفعه لقبول تهدئة جديدة بالشروط السابقة التي كانت قد فرضتها لدى التهدئة السابقة، وهي تعني أن يَظلّ الاحتلالُ الصهيونيُّ مُتَحَكِّمًا في التهدئة ومستفيدًا منها وحدها؛ ولذلك وُوْجـِهَ هذا الموقفُ برفض عامٍّ من الشعب الفلسطينيّ، وأجمعت فصائلُ المقاومة على الدفاع عن الفلسطينيين، والردّ بكل قوّة وعنف على كل اعتداء صهيونيّ .
وقبل بدء المحرقة الصهيونية الأخيرة ضدّ الفلسطينيين في غزة بأقل من يومين، أي في 25/ ديسمبر 2008م : الخميس 26/ ذوالحجة 1429هـ كانت وزيرة الخارجية الصهيونيّة “تسيبي ليفني” موجودة في القاهرة، حيث استقبلها كلٌّ من الرئيس المصريّ “حسني مبارك” ووزير الخارجيّة المصريّ “أحمد أبو الغيط” في الوقت الذي كانت نُذُر الحرب الصهيونيّة على غزّة قد تَجَمَّعَتْ بشكل واضح، وكأنّ الكيانَ الصهيونيَّ قَرَّر أن يتمّ إعلانُ الحرب من أرض مصر، وعاصمتها “القاهرة” إمعانًا منه في توريط النظام المصريّ؛ حيث قالت “ليفني” في مؤتمر صحفيّ بالقاهرة مع نظيرها المصريّ:
“إنّ الوضع في غزّة سوف يتغيّر، ونحن عازمون على ذلك!”.
ومن ثمّ وُجِّه اللوم إلى “مصر” في شأن المذبحة التي بدأت إسرائيلُ القيامَ بها منذ 27/ ديسمبر 2008م على غزّة؛ لأنّ زيارة وزيرة الخارجية الصهيونية في مثل هذا الوقت تجعل مصر” تبدو في مكان المُنَسِّق والمتواطئ مع العدوان. وقد صَرَّح “فوزي برهوم” الناطق باسم “حماس” أن مصر أبلغت “حماس” أنّ العدوان على “غزّة” لن يقع. بينما قالت صحيفةُ “بديعوت أحرنوت” العبريّة: إنّ إسرائيل أبلغتْ دولاً عربيّةً ببدء الهجوم على “غزّة” ولنا أن نتوقع أنّ “مصر” من بين هذه الدول، بل أوَّلُها.
* * *
في الفترة ما بين السبت 27/ ديسمبر – 28/ ذوالحجة وبين الساعة المتأخرة من الليلة المتخللة بين السبت والأحد: 17-18/ يناير 2009م = 19-20/ محرم 1430هـ (التي أعلنت فيها إسرائيل وقف إطلاق النار الذي عملت به منذ نحو الساعة 30: 5 من صباح يوم الأحد 18/ يناير بالتوقيت الهنديّ) أمطرت الدولة الصهيونيّة على الشعب الفلسطيني في غزّة بوابل من القذائف برًّا وبَحرًا وجوًّا بما فيها المحرمة دوليًّا؛ فقد نشرت الصحف العالميّة الأسبوع الماضي – الفترة بين 10–20/ محرم 1430هـ = 8-18/ يناير 2009م – أنّ أطباء في مستشفيات “غزة” وكذلك صحف بريطانيّة ومؤسسة طبّيّـــة عالميَّة أكّدوا أن القوات الصهيونيّة استخدمت بغزارة في هجومها على “غــزّة” أسلحــة محظــورة ومحرمة دوليًّا بين التجمعات السكّانيّة، بما فيها أخطرها “الفوسفور الأبيض White phosphorus wp المعـــروف باسم “ويلي بيت” Willy pete والقنابل الحراريّة الحارقة Thermo baric weapon المسمّاة بـ”الميكروويف”. وقتلت أكثر من 1300 من الفلسطينيين، وجرحت أكثر من 5500، والعدد لايزال في ارتفاع منذ وقف إطلاق النار؛ حيث إن جثث القتلى لاتزال تستخرج من تحت الأنقاض. وثلث القتلى والجرحى من الأطفال والنساء، ولم تتورّع الدولة الصهيونية الفاجرة عن تدمير المساجد والمستشفيات والمدارس، وملاجئ الأمم المتحدة، والمباني التي تستخدمها لجمع الموادّ الإغاثية وتوزيعها بين المنكوبين، وسيّارات الإسعاف وحتى مواكب تشييع الجنائز، حتى أطلق مديرُ لجنة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة بغزة “جون كنج” صرخةً بأنه: لم يعد مكان في “غزة” التي تضيق بسكانها البالغ عددهم 1500000 يلجأون إليه ويأمنون فيه على حياتهم.
وقد قالت “البي بي سي – لندن” – ونشرت وسائل الإعلام العالميّة أيضًا – في الساعة 30 :8-30 :9 من الليلة المتخللة بين 18-19/ يناير 2009م: الأحد والإثنين (20-21/ محرم 1430هـ) في نشرتها الأرديّة: إن “غزّة” خسرت من جراء المذبحة الإسرائيليّة الأخيرة 1,6 مليار دولار، وإن البنية التحيتية فيها تحطّمت عن آخرها، وإن إعادة إعمارها ستُكَلِّف – حسب التقدير الأوّلي العاجل – 1600000000 دولار، وبلغت الخسارة الاقتصاديّة وحدها خلال الحرب الإسرائيلية المدمرة التي استمرّت 22 يومًا (550000000) دولار، أي 24000000 دولار يوميًّا، وقد انهدم أكثر من 40000 منزلاً بشكل لايوجد لها أثر، بينما تضرّر أكثر من 16000 منزل ومبنى بشكل جزئيّ، كما تضرر أكثر من 1500 مصنع ومحلّ تجاريّ ودكان بشكل مدمّر للغاية وإن مليون فلسطيني على الأقل حُرِمُوا التسهيلات الأساسيّة للكهرباء. وقد ساءت جدًّا حالة أهالي “غزّة” الذين أكثر من 80٪ منهم يعيشون بالمساعدات العالميّة الإغاثيّة.
هذا، وقد قالت وسائل الإعلام: إن الكيان الصهيونيّ هدم – حسب الإحصاءات الأوّليّة – 41 مسجدًا في “غزّة” بما فيها عدد من المساجد الأثرية؛ حيث قصفتها في الأغلب في مواعيد الصلاة التي كان المُصَلُّون بمختلف أعمارهم مُتَجَمِّعِين فيها، مما أسفر عن وقوع عدد كبير منهم قَتْلَىٰ أو جَرْحَىٰ جرحًا غائرًا.
إنّ الغرب الذي يحتجّ و”يتَمَلْمَلُ” ويتظاهر بأنّه عاد قابضًا على الجمر على تعامل جائر وتصرّف ظالم مع حيوان أو بهيمة، ويجعل الدنيا كلها تقوم ويَدَعُها لاتقعد، لم نَرَه قد احتجَّ هذا الاحتجاجَ الحماسيَّ الحارَّ على تجويع أهالي “غزَّة” عبر مدّة تزيد عن سنتين وتحويل “غزّة” كلّها من قبل الكيان الصهيونيّ سجنًا كبيرًا أسوأ؛ حيث قطع عنها جميعَ التسهيلات التي لابدَّ منها لعيش أيّ ذي كبد رطبة فضلاً عن الإنسان الذي يحتاج إلى تسهيلات أكثر للعيش والإبقاء على الحياة.
إنّ الغرب لم يَقْلَقْ – إلاّ قليلاً منه بقي لديه ذرّةٌ من الإنسانيّة – من هذه المعاملة السوءى التي عاملت بها دولةُ الصهاينة مع بني البشر العرب من أبناء فلسطين. الغرب – وعلى رأسه أمريكا – تَوَاطَأَ دائمًا مع إسرائيل؛ فلازم الصمتَ أو الجمودَ والبرودة؛ لأنّه هو الذي غَرَسَ إسرائيلَ في قلب الأراضي العربيّة الإسلاميّة.
أمّا أمريكا فقيادتُها دائما تخاف اللوبيّ الصهيونيّ القويّ المسيطر على الإعلام والاقتصاد وجميع القطاعات الحيويّة في أمريكا؛ لأنّها تعلم أنّ بقاءَها واستمراريّتَها في إدارة البلاد مرهونان بتأييد اللوبيّ الصهيونيّ المُتَغَلِّب على المجالات الحيويّة في البلاد. إن “بوش الابن” كان أسوأ قائد وأقبح رئيس أمريكيّ؛ حيث كان يُرْضِي هواه ويُثْلِج فؤادَه إراقةُ الدماء العربيّة الإسلاميّة في كل مكان وإزعاج المسلمين والعرب حتى في عقر دارهم، وكان يَتَغَذّى بتعذيب أهالي البلاد العربيّة والإسلاميّة، ويفرح للغاية فرحًا لا يُوْصَفُ بتدمير كلّ شبر من أشبارها، وسلب خيراتها، ونهب ثرواتها، واستعباد أبنائها والاستهزاء بدينها وشعارها، وتسخير أبنائها ولاسيّما قادتها وملوكها لتحقيق مصالحه الصليبيّة الصهيونيّة؛ ولكنّ أيّ رئيس أمريكيّ أو قائد من قادة أمريكا – بمن فيهم “باراك أوباما” الذي يبالغ العالم الإسلاميّ والعربيّ والغربيّ في التفاؤل به صادرًا عن خطاباته الانتخابيّة ودعاويه العريضة التي ظلَّ يُطْلِقُها خلالَ الحفلات الانتخابيّة الشعبية – لن يشذّ عن مسار مساندة إسرائيل والوقوف بجابنها لآخر الحدود ومعاداة الفلسطينيين والعرب والمسلمين؛ لأنّه في ذلك وحده تكمن جميعُ مصالحه ومنافعه وأرباحه التي يَوَدُّ تحقيقَها خلالَ قيادته لهذه الدولة السيّدة المُتَحَكِّمة بتقدّمها العلميّ والتكنولوجيّ وتفوّقها العسكريّ في رقاب العالم عن غير جدارة واستحقاق.
إنّ الغربَ – وعلى رأسه بريطانيا وأمريكا – هو الذي زرع إسرائيل ، وهو الذي جَعَلَها تفعل الأفاعيلَ وتصبّ الويلات على الفلسطينيين وبالتالي على العرب. ولو شاء لكَبَحَ جماحَها في لحظات وجَعَلَهَا تعود لرشدها؛ لأنّه – وعلى رأسه أمريكا – هو الذي يُمِدُّها بالمال وبالرجال وبالأسلحة ويسمح لها أن تُنْتِج أسلحةً فتاكةً وذاتَ دمار شامل بما فيها الأسلحة النوويّة؛ فهي الدولة الوحيدة التي تمتلك المُفَاعِلات النوويّة بين العالم العربيّ وداخل الأرض العربيّة الإسلاميّة؛ فهي تقدر على “تأديب” بل تعذيب بل تدمير كل دولة عربيّة متى تشاء، مُمَدَّةً – طبعًا – بأمريكا وأسلحتها وآليّاتها الحربيّة الجبَّارة.
ولكنّ أمريكا – ومعها الغرب وبريطانيا – لاتريد أن تشوك شوكةٌ ربيبتَها “إسرائيل” التي ظلّت ولاتزال ترضعها في حنان وتعهّد ورعاية وحماية بكلّ ما كانت تملكه من القوة وأساليب الترغيب والترهيب، وطرق التخدير التي ظلت تستخدمها تجاه العرب عمومًا والفلسطينيين خصوصًا.
ولو كان الأمرُ مُتَوَقِّفًا على هذا الحدّ، لكان عسى أن يكون مُؤَوَّلاً؛ ولكن أمريكا – ومعها بريطانيا والغرب – ظلّت تكيل بمكيالين كيلاً مجحفًا للغاية؛ فبينما تتيح لإسرائيل أن تصنع ما تشاء مع الفلسطينيين، لا تسمح للمسلمين والعرب بامتلاك أيّ سلاح يدافعون به عن حقوقهم ونفوسهم، فضلاً عن السلاح النووي. وبينما تسمح لإسرائيل أن تستخدم ضدَّ الفلسطينيين العُزَّل كلَّ سلاح مُدَمِّر حتى المُحَرَّم دوليًّا، وتقتلهم بشكل عشوائي، لاتسمح للفلسطينيين أصحاب الدار أن تقوم بمقاوة مشروعة ضدّ الكيان الصهيونيّ؛ فهي – والغرب – تعتبر مقاومتهم عملاً إرهابيًّا ، ومن ثم تعدّ جميعَ فصائل المُقَاوَمة الفلسطينية – بما فيها “حماس” – إرهابيّةً، وبذلك إنّ أمريكا لاتسوِّي فقط بين الجلاّد – الكيان الصهيونيّ – وبين الضحيّة – الفلسطينيين – وإنما تُصَنِّف الضحيّةَ مُعْتَدِيَةً والجلاّدَ مُعْتَدًى عليه؛ فتُوَجِّه جميعَ تعاطفها وتواطئها إلى الجلاّد الصهيونيّ باعتبارها إيّاه مُعْتَدًى عليه يحتاج لكلّ عطف ومساندة ومواساة.
* * *
ولم تكن أمريكا – والغرب – لتتصرّف هذا التصرّفَ الجائرَ لو أنّ القادة العرب كانوا – مثل الشعب العربيّ والشعب الإسلامي – على قلب رجل واحد في هـــذه القضيــة – الفلسطينية – التي هي حقًّا أم القضايا ورأس المشكلات الإسلاميّــــة؛ ولكنّ أمريكا نجحت منذ وقت مُبَكِّر جدًّا في إحداث شرخ في جدار الاتّحاد العربيّ، الذي كان صغيرًا في البداية ثم صار كبيرًا جدًّا بمرور الوقت؛ حيث دفعت الرئيس المصريَّ الراحلَ محمد أنور السادات (1337-1401هـ = 1918-1981م) لزيارة الكيان الصهيوني عام 1977م وتوقيع اتّفاقية شاملة بينه وبين مصر عام 1979م التي عُرِفَتْ بـ”اتفاقيّة كامب ديفيد”.
مَثَّلَ ذلك نقطةَ تحوُّل كبير في الموقف العربيّ القياديّ المُوَحَّد؛ حيث جَرَىٰ بعده جرُّ الدول العربية دولة بعد أخرى إلى مفاوضات السلام وتوقيع الاتفاقيّات مع الكيان الصهيوني تحت رعاية أمريكا وبتحريض وتمهيد ومَرْيٍ منها؛ فتوزّع الفلسطينييون والعرب كلُّهم بين “فريق المفاوضات” و “فريق المقاومة”؛ و”فريق التطبيع” و”فريق النضال ومقاومة الاحتلال”؛ و”الفريق المعتدل” و”الفريق المتشدّد”.
ومنذ ذلك الوقت تَدَرَّجَتْ – بل تَدَحْرَجَتْ – مصر الدولة العربية القوية منجبة الرجال ومهد الأبطال و أرض الكنانة التي فتحها عمروبن العاص رضي الله عنه للإسلام – من دائرة الصراع ضدّ العدوّ الصهيوني إلى دور “المساند” للقضيّة الفلسطينية، ومن دور قوّة عربيّة كبرى تخوض الحربَ للدفاع عن الطرف العربيّ المظلوم إلى محاولة لعب دور “الوسيط” بين الصهاينة والفلسطينيين، وأخيرًا إلى ممارسة دور “المساند” لإسرائيل والواقف بجانبها والمتواطئ معها والمشارك في جريمة سحق المقاومة الفلسطينية ولاسيّما “حماس”.
فقد قال الدكتور عصام العريان في مقاله المنشور في “المجتمع” الكويتية الشقيقة (العدد 1833 – 6/ محرم 1430هـ = 3/1/2009م) “صــرنا نسمع تصـــريحات غريبةً، مثل: إن “مصر” لن تسمح بقيام إمارة إسلاميّة على حدودها الشرقيّـــة، في الوقت الذي سمحت فيه بقيام دولة عبريّة يهوديّة صهيونيّة عنصريّة، وأقامت معها علاقات متميّزة واتفاقيّات اقتصاديّة وأمنيّة. واختفت تصريحات قويّة، مثل: إنّ “مصر” لن تسمح بتجويع أهل غزّة؛ فقد شاركت فعلاً في تجويعهم وقتلهم قتلاً بطيئًا، عندما لم تُنَفِّد اتفاقيّةَ “جنيف” التي توجب على الدول جميعًا تقديم العون والمساعدة للشعوب الخاضعة للاحتلال، ولم تفتح معبر “رفح” بصورة طبيعيّة”.
حتى قالت إحدى الصحف الصهيونيّة: إن من يطالع الإعلام المصريّ يظنّ أنّ الحرب هي بين “مصر” و”غزّة”.
* * *
خلال الصمت الذي لازمه القادة والساسة في طول بلادنا العربيَّة والإسلاميّة أَثـْـلَحَ صدورَ المسلمين في العالمين العربي والإسلامي تصريحات وخطوات بعض القادة الغربيّين ضد العمليّات الصهيونية ضد “غزة” وعلى رأسهم الرئيس الفينزويلي “هوغوشافيز” ـــــ الذي طَرَدَ السفير الصهيونيّ من بلاده يوم الأربعاء: 7/ يناير 2009م (9/محرم 1430هـ) تضامنًا مع الفلسطينيين وتنديدًا بالموقف الصهيوني المتمثل في تقتيل الكيان الصهيوني لهم بشكل عشوائي؛ فقد قالت المصادر الإعلاميّة: إن الرئيس الفينزويلي “هوغوشافيز” اعتبر الإبادة الجماعيَّةَ التي تقوم بها إسرائيل للفلسطينيين “المحرقة” مطالبًا بمحاكمة كل من الرئيس الإسرائيلي والرئيس الأمريكي في المحكمة الدوليّة، مُحَمِّلاً أمريكا مسؤولية قتل عرفات بالتسميم؛ حيث حاولت إحداث اللاإستقرار في الشرق الأوسط ــــ وبعض القادة المسلمين وعلى رأسهم الرئيس الماليزي السابق “مآثر محمد” ـــــ الذي دعا، كما صَرَّحَتْ وسائلُ الإعلام يومَ الاثنين: 5/ يناير 2009م (7/ محرم 1430هـ)، إلى مقاطعة البضائع والمنتجات الأمريكية؛ حيث إنّ أمريكا هي التي تقف بجانب إسرائيل وتساندها مادِّيًّا ومعنويًّا في جميع الجرائم النكراء التي تقترفها منذ البداية ضدّ الإنسان الفلسطيني، مضيفًا أنه آن الأوان لتنهض الشعوبُ في العالم لاتّخاذ خطوة فاعلة ضدّ أمريكا، ومهيبًا بصفة خاصّة بالدول الإسلاميّة والعربيّة أن تقوم بمقاطعة الدولار الأمريكيّ والتعامل به؛ لأنّ هذه الخطوة التي تُمَثِّل الحدَّ الأدنى للمقاطعة، ستؤثر بشكل سلبيّ للغاية على التجارة الأمريكيّة كما دعا الدول الإسلامية إلى مقاطعة الأسلحة الأمريكية وشراء الأسلحة كلها من روسيا ـــــ ورئيس الوزراء التركيّ “رجب طيب أردوغان” الذي بدا حقًّا الأجرأَ الأغيرَ بين قادة المسلمين والعرب جميعًا والذي قال في كلمته أمام البرلمان التركيّ يوم الثلاثاء: 6/ يناير 2009م (8/ محرم 1430هـ) مخاطبًا وزير الحرب الصهيوني “إيهود باراك” و وزيرة الخارجيّة الصهيونية “تسيبي ليفني”: “اُتْرُكُوا عنكم حسابات الدعاية الانتخابيّة سيحاسبكما التأريخ، وسيذكر أفعالكما على أنها بقعة سوداء في تاريخ البشريّة”!
وقال:
“إن إســـرائيل ستغــرق بدماء الأطفال والنساء المظلومين، الذين قتلتهم، وبدموع الأمّهات اللواتي فقدن أطفالهنّ، وإن الله سيعاقب أولئك الـــذين ينتهكون حقـــوق الأبرياء عاجلاً أم آجلاً” .
وقال:
“إنه لايمكن مسامحتها – إسرائيل – على ما ترتكبه في “غزة” وإن إسرائيل لم تحترم “تركيا” بشنها عدوانًا على “غزة” بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لتركيا” .
وأضاف قائلاً:
“عندما أقول: إن إسرائيل وَجَّهت إهانةً لتركيا، أعني الكثير الذي يجب أن تقرأه إسرائيل بين السطور”.
إزاء الصمت الذي خَيَّم على الساحتين العربيّة والإسلاميّة جاءت هذه التصريحات وأمثالُها لتكسر الصمتَ، وتؤكّد أنّ هناك قادة يتمتعون بكثير من الغيرة والجراءة، وأنّ الغابة لم تخلُ كليًّا من الأسود كما يقول الحكيم الإسلامي الشيخ سعدي الشيرازيّ رحمه الله تعالى (الشيخ مصلح الدين نحو 589-690هـ = 1193-1291م).
* * *
إن كثيرًا من القادة والساسة في العالمين العربي والإسلامي يرون “حماس” وفصائل المقاومة الأخرى “متشدِّدة” وطالبانيّة” من نوع الطالبان العرب، كما يتّهمونها أنها متواطئة أو مُمَدَّة من قبل “حزب الله” اللبنانيّ الشيعيّ و”إيران” الشيعيّة و”سوريا” التي قيادتها تنتمي إلى فرع من فروع الشيعة الكثيرة، متجاهلين أن “حماس” تخوض معركةَ البقاء مع كل من “إسرائيل” و”فتح” العلمانيّة التي يقودها “محمود عباس” المُتَّهم من قبل مصادر موثوق بها في دينه وعقيدته، العلمانيّ الشعار والدثار، والشارة والصورة، والقول والفعل، وهي – حماس وفصائل المقاومة – وحدها التي أبقت لحدّ اليوم قضية فلسطين حيّة شاخصة، وتعتقد جازمة – ويعتقد معها القطاعُ العريضُ والأغلبيةُ الساحقةُ من الشعبين العربي والإسلامي في العالم – أن الطريق الصحيح الوحيد إلى تحرير فلسطين هو الكفاح المسلح والجهاد المقدس والمقاومة المشروعة؛ فهي – حماس وفصائل المقاومة – مُرْغَمَة أن تنال المساعدةَ والتضامنَ من كلّ طرف يمدّ إليها يدَ التعاون، فلماذا يُحجم قادتنا وساستنا عن تقديم أيدي العون إلى “حماس” خاضعين لتعليمات “أمريكا” التي لم ولن تسلك مسلكاً يخدم المصالح العربيّة الإسلاميّة عمومًا والمصالح الفلسطينيّة خصوصًا. إن ملفّ التعامل الأمريكي منذ البداية لحدّ اليوم بكامله يؤكد أن أمريكا لم تَخْطُ خطوةً تخدم مصالح العرب والفلسطينيين، وإنما كلُّ خطواتها انصبّتْ في مصالحها الصليبيّة الصهيونيّة وأنها ما أعطت شيئًا إلاّ لتستردّه مضاعفًا.
إنّ “حماس” وفصائل المقاومة الأخرى تخوض معركـــة الحياة والموت، وهي مُضْطَرَّة لتقبّل الدعم من كلّ جهـة؛ فلماذا يُضْرِب القادةُ والساسةُ الموالـون للغـرب و”أمريكا” في دولنا العربيّة والإسلامية عن تقديم الدعم المطلوب للمقاومـة، حتى لاتضطرّ هي لتقبّل دعم من قبل طرف يكرهونه هم. ونعلم أنهم لايكرهونه من أجل مُعْتَقَـداته الفاسدة أو تصرفاته الخرقاء، وإنّما يكرهونه لأن “أمريكا” تكرهه. والدليلُ على ما نقول أنهم يحالفونه عندما يرون أن مصالحهم المعلومة ستتحقق من خلال محالفتهم له.
لاشكّ أنّ مُعْظَمَ الشعوب الإسلاميّة لاتحبّ أن تكون هناك سيادة قويّة للطرف الشيعيّ الحامل للمُعْتَقَدَات الفاسدة في هذه المناطق العربيّة الواسعة التي يجب أن تكون ساحةً للإسلام الصحيح الذي ينبغي أن يسود ويقود هو وحده لا غيره؛ ولكن الشعوب الإسلاميّة في الوقت نفسه لاتحبّ هذا الخضوعَ المهينَ من قبلهم للقيادة الأمريكيّة الصليبيّة الروح، الصهيونيّة التفكير، التي تخطّط وتعمل منذ وقت طويل بشكل واضح من أجل استعباد العرب والمسلمين، وتدمير البلاد العربيّة، ونهب ثرواتها، وجعلها مُتَقَلْقِلَةً غيرَ مُسْتَقِرَّة سياسيًّا واجتماعيًّا.
* * *
إنّ تصرّف القادة العرب والمسلمين تجاه هذه “المحرقة” الأخيرة التي أقامتها الدولة الصهيونيّةُ على مساندة من “أمريكا” ومُعْظَم الغرب لتقتيل الفلسطينيين واستئصال “حماس” وفصائل المقاومة يُشَكِّل عارًا لهم لاعارَ بعده.. إنّهم ظلّوا ملازمين للصمت، وتحرّكوا بعد مضيّ وقت تحركاً لم يُسمن ولم يغن من جوع، وفي برودة أكَّدَتْ تجردهم من كل غيرة إسلامية وعربيّة وعلى استحياء شديد، فما صنعوا شيئًا يدلّ على أنّهم يُبْغِضُون إسرائيلَ ويَسْخَطُون عليها؛ لأنها تبيد الفلسطينيين دونما استثناء وتدمر جميعَ مرافقهم الحياتيّة، وتستخدم ضدَّهم الأسلحةَ الفتّاكة المُحَرَّمة دوليًّا؛ بل إنّ عددًا من المصادر الإعلاميّة أكّدت أنّ بعض الدول العربيّة أشارت على إسرائيل أن لاتَدَعَ “حماس” وفصائل المقاومة دون أن تَدْفِنَها عن آخرها وتستأصل شأفتها كليًّا حتى لاتقوم لها قائمة بعدُ!!.
إنّ كثيرًا من المُحَلِّلين الخبراء أَكَّدُوا أنّ دولاً عربيّة ترى “حماس” وفصائل المقاومة صداعًا لها، وتتقلّب على أحرّ من الحمر من أجل أنشطتها المقاوميّة، وستَثْلُج صدورها عندما تفنى هي، وتبقى “فتح” العلمانيّة وحدَها، حتى يتمّ بيعُ القضيّة الفلسطينيّة للأبد لإسرائيل، ويتمّ طيُّ الملفّ للأبد، ويرتاحوا ويناموا ملء العيون والجفون، ويتشبّعوا في هذه اللحظات المعدودات من الحياة الدنيا مُتَمَتِّعِين بالملذّات، مُتَبَوِّئين على كراسيّ الحكم والقيادة. وكأنّهم يؤمنون أنّها ستدوم لهم، ويدومون هم لها. اللّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لاَيَعْلَمُوْنَ.
* * *
طوال الـ 22 يومًا التي أمطرت فيها الدولة الصهيونيّة على الفلسطينيين الدمارَ والخرابَ وقتّلتهم تقتيلاً دون تفريق بين الأطفال والنساء والمسنين بالأسلحة الأمريكية، واستهدفت خصيصًا المرافق الحيويّة والمباني القياديّة التابعة لحماس والقياديين الحمساويين ومنازلهم وأمكنة لجوئهم، على تحديد من قبل رجال فتحاويين – كما أكّدت عدد من المصادر الإعلاميّة العليمة – هم أشدّ عداء لحماس من “إسرائيل” ظلّت “غَزَّة” قيادةً وشعبًا صامدةً صمودَ الجبال الراسيات، تطارد الموتَ، وتلعب به، وتَسْخَر منه.
لقد سَجَّلَ التأريخُ بحروف من نورالملحمةَ البطوليَّة النادرةَ التي شهدتها “غزة” من قبل أهاليها جميعًا، وعلى رأسهم رجال “حماس” الذين كانت تستهدي القوات الصهيونية في استهدافها لهم ببعض رجال فتحاويين باعوا دينهم وغيرتهم وعِرضهم بعَرض من الدنيا. إنّ هؤلاء المجاهدين الباسلين بَدَّدُوا حقًّا أسطورةَ الجيش الصهيوني الذي هو أقوى جيش في المنطقة، إنّهم تلاعبوا بالموت الزؤام بصدورهم العارية، والأسلحةُ بأنواعها تنهمر على رؤوسهم وأجسامهم، والأرضُ والجوُّ والمباني كلها تشتعل، والجثثُ والأشلاءُ من بني جلدتهم تتطاير من حولهم وتغصّ بها الشوارع والأزقة، وتضيق عن الجرحى المستشفياتُ، وصراخُ الأمهات وعويلُ الأَيَامَىٰ والثكالى والأقارب والإخوان والآباء والأمهات يعمّ الأرجاءَ كلَّها.
مشهدٌ دامٍ، يبعث على البكاء والحزن والألم المُمِضّ، ويكاد القلب ينفطر ويذوب كمدًا، مشهدٌ اطّلع على بعض فصوله كثيرٌ من الناس في العالم من خلال التلفاز، فتفجّروا بكاءً، وكادوا يفقدون وعيَهم ويذهلون عن ذواتهم، وتَمَنَّوْا أن لايكونوا قد وُلِدُوا ليَرَوْا هذا المشهدَ الذي لايمتلك دموعَه بعد مشاهدته إلاّ ذوو القلوب القاسية المتحجّرة.
إنّهم والله لقد سطروا ملحمة بطولة فريدة سيقف التاريخ أمامها بكل معاني التقدير والاحترام، والتعظيم والإجلال؛ لأنهم عبر هذه المدة التي امتدّت عبر 22 يومًا؛ حيث وقف الصهاينة إطلاق النار صباح يوم الأحد في الساعة الخامسة والنصف بالتوقيت الهندي: 18/ يناير 2009م (20/ محرم 1430هـ) وكانوا قد بدأوا الهجوم البربريّ يوم السبت: 27/ ديسمبر 2008م (28/ ذوالحجة 1429هـ) واجهوا القصف الصهيوني العشوائي غير القابل للوصف بالإيمان القويّ بالله، والثقة المطلقة بوعده بنصره لمن يجاهدون مخلصين في سبيله، والتوكّل عليه وحده حين تآمر عليهم “إخوانهم” في داخل الصف من المنتمين إلى “فتح” وتآمر عليهم “إخوانهم” في الدولة الملاصقة، ولازمت السكوت والقعود دول عربيّة وإسلاميّة تدين بدينهم، تجاه الجرائم الصهيونيّة النكراء التي قالت عنها مديرة لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي تنضم إلى عضويتها 47 دولة في العالم “نافي بيلاي” (Navi Pillay) إنها جرائم حربيّة بشعة ويجب محاكمة القادة والمسؤولين الإسرائيليين المتورطين فيها.
وقالت منظمة العفو الدوليّة: إن إسرائيل استخدمت الأسلحة المحظورة دوليًّا بما فيها أسلحـة الفـوسفور الأبيض. وذلك يدعـو لمحاكمتها عاجلاً؛ لأنها استخدمتها في المنطقة ذات الكثافة السكّانيّة في “غزة” مما يزيد جرائمها شناعة، ويؤكّد وقاحتها ووحشيتها وتجردها من الإنسانيّة.
وقد قالت المجلات والصحف العربيّة: إنّ كلَّ شيء عاد مُهَدَّمًا في “غزة” والجثث والأشلاء تقع عليها الأنظار في كل مكان، وبرك الدماء أكثر من برك المياه، وإن المصابين جروحهم غير عاديّة، وإن الحرب المدمرة تركت آثارًا سلبيّة بعيدة المدى على الأطفال والمسنين والنساء والشباب، وإن الأحياء من الغزاويين سيعانون ويلاتها عبر حياتهم.
* * *
وقفت القوات الصهيونية إطلاق النار وانسحبت من “غزة” لتقف على حدودها محاصرة لها، انسحبت تجرّ أذيالَ العار والشنار والانكسار المعنويّ لآخر الحدود، دون أن تحقق المصالح التي حاولت تحقيقها من وراء حربها على “غزّة” كما انهزم المتواطئون مع الصهاينة من داخل الصفّ الفلسطيني وخارجه من العلمانيين والمطبعين والسائرين على درب المفاوضات ومحادثات السلام ، والمُوَالِين للغرب وأمريكا، انهزموا انهزامًا نفسيًّا ومعنويًّا يلعقون الذلّ والعار والخزي، ولن يغفر التاريخ جريمتهم، كما لن يغفرها لهم شعوبهم التي تؤمن بما تؤمن به “حماس” وفصائل المقاومة من أن فلسطين لايحررها إلاّ المقاومة الباسلة، والنضال المشروع، والجهاد الإسلامي الذي سيظل ماضيًا إلى يوم القيامة؛ وأن اليهود لايجوز الثقة بوعدهم؛ لأنهم فُطِرُوا على إخلاف الوعد، وتعوّدوا قتل الأنبياء، وتكذيب الرسل، وأكل الربا والسحت، وكل ذلك يؤكده الكتاب والسنّة. وقد شهد الصراعُ الطويل بين الصهاينة وبين الفلسطينيين أنهم لايزالون على عاداتهم، بل ازدادوا تمسكاً بها، وصدورًا عنها، وخضوعًا لإملاءاتها.
فلا يثق بهم في أي من المحادثات والاتفاقيّات إلاّ المخدوعون المُتَعَمِّدون لتجاهل الواقع، الذين قد يؤمنون بما تقول أمريكا وإسرائيل إيمانًا أقوى من إيمانهم بما يقول الله تعالى عنهم في كتابه الخالد، وما قاله نبيُّهم صلى الله عليه وسلم في أحاديثه التي هي مرويّة مدونة في مجاميعها ودواوينها.
في هذه المرحلة من تاريخ الصراع بين الصهاينة والفلسطينيين يجب على المسلمين والعرب أن يصنعوا ما يأتي إذا كانوا جادّين في إرادتهم لحلّ القضية الفلسطينية لصالح الإسلام والمسلمين:
- أن ينفضوا أيديهم عن كل شيء يعني “اتفاقيات السلام مع العدوّ”.
- قطع العلاقات كلها مع العدوّ الصهيوني بما فيها العلاقات الدبلوماسيّة والتجاريّة وطرد سفرائه من جميع الدول العربيّة التي أقامت مع إسرائيل علاقات دبلوماسيّة.
- تدعيم الشعب الفلسطيني بالأسلحة التي يقاوم بها العدوّ الصهيوني ويدافع عن الأرض والعرض.
- العودة من جديد إلى تنفيذ خطّة الدفاع العربي الإسلامي المشترك عن فلسطين والمسجد الأقصى والإنسان الفلسطينيّ.
- لتعلن الحكومات العــربيّــة رسميًّا دعم المقاومة الفلسطينيّة كعهدها السابق؛ لأن ذلك وحده الكفيل لاسترداد الحق المغصوب عاجلاً أو آجلاً.
- رفع الحصار الظالم عن “غزة” بإرسال سفن عربيّة وإسلاميّة مُحَمَّلَة بالموادّ الغذائيّة والدوائيّة والموادّ التي لابدّ منها للعيش، وإرغام مصر من قبل الدول العربيّة على فتح معبر “رفح” بشكل طبيعيّ لتمرّ منه المساعدات إلى الفلسطينيين بشكل طبيعيّ دون مبالاة بأيّ انتقاد أمريكي أو غربيّ لفتح المعبر.
- اعتبار عمليّات التطبيع مع الصهاينة “عبثيّة” لاجدوى من ورائها، ومن ثم يجب تجميدها، لأنها لم تنفع ولن تنفع ولن تخدم المصالح الفلسطينية ولابشكل ضئيل جدًّا.
- تأييد حماس وفصائل المقاومة عربيًّا وإسـلاميًّا، والتـورع تمامًا عن وصفها بالإرهابيّــة تمشيًا مع السياسة الأمريكية الغربيّة الصهيونيّة، وبالتالي نفض اليد من تأييد الحكومة غير الشرعيّـة لمحمود عباس وزمرته العلمانيّة التي بعض أفرادها تجاوز العلمانيّةَ إلى الإلحاد وسبّ الذات الإلهيّة ويعملون كرجال استخبار لصالح الصهاينة.
( تحريرًا في الساعة:9:30لليلة المتخللة بين الجمعة والسبت : 26/1/1430هـ = 24/1/2009م )
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس 2009م ، العـدد : 2-3 ، السنـة : 33