إلى رحمة الله
في الساعة السابعة والعشرين دقيقة من صباح يوم الأحد 16/ ذوالقعدة 1429هـ الموافق 16/ نوفمبر 2008م انتقل إلى رحمة الله تعالى العالم الصالح الشيخ ناظر حسين – رحمه الله – بمستشفى “فورتنر” بمدينة “نويدا” (Noida) الصناعيّة الملاصقة لدهلي – إحدى مدن ولاية “أترابراديش” – عن عمر يناهز 89 عامًا بالنسبة إلى الأعوام الميلاديّة و91 عامًا بالقياس إلى السنوات الهجريّة؛ حيث كان من مواليد ديسمبر 1919م الموافق ربيع الثاني 1338هـ، فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
كان – رحمه الله – يعاني الضعفَ الناتج عن الشيخوخة؛ ولكنّه ظلّ يتمتّع بصحّة لابأس بها حتى هذه المرحلة من عمره؛ ولكنّه منذ يوم الجمعة 2/ شوال 1429هـ = 3/ أكتوبر 2008م ساءت حالته بشكل خطير؛ لأنه كان قد حدث انكسارٌ في عظام العجز في أواخر رمضان 1429هـ = سبتمبر 2008م . وأُدْخِل بعضَ المستشفيات بمدينة “ميروت”؛ ولكنّه لم يحصل تحسّنٌ، فأُدْخِل المستشفى المشار إليه بـ”نويدا”؛ فجاءه الأجلُ المحتومُ الذي إذا جاء لا يُؤَخَّر، ونُقِلَ جثمانُه إلى وطنه مدينة “هابور” (Hapur) إحدى المدن التجاريّة النشيطة بمديرية “غازي آباد” (Ghazi Aabad) حيث صُلِّي عليه بعد صلاة العصر مباشرة في اليوم نفسه، وأَمَّ الصلاةَ عليه فضيلةُ الشيخ السيد أرشد المدني أستاذ للحديث الشريف بالجامعة الإسلاميّة الأم “دارالعلوم/ ديوبند” وحَضَرَها آلافٌ من المسلمين علماءَ وطلاّبًا وأناسًا من شتى قطاعات الحياة. وأفادتِ المصادرُ العليمةُ بأنّ المدينة لم تشهد صلاةَ جنازة مثلها؛ حيث حضرها عددٌ كبيرٌ مُزْدَحِم.
كان رحمه الله من تلاميذ العالم العامل المجاهد الشيخ السيّد حسين أحمد المدني رحمه الله (1295-1377هـ = 1879-1957م) شيخ الحديث الأسبق بالجامعة الإسلاميّة “دارالعلوم/ ديوبند” وكان عالمًا صالحًا، حليمًا كريمًا، ليِّنَ الجانب، مُتَوَاضِعًا مع كلّ أحد، بسيطاً في جميع شؤون الحياة، لايعرف التصنّع والتأنّق، يحبّ من اللباس المتواضعَ من الثياب، ومن الطعام ما تَيَسَّرَ ويعين على بقاء الحياة. وكان يُحِبّ الصالحين وتلاميذَ العلوم الشرعيّة، وظَلَّ منقطعًا إلى خدمة مدرسته المعروفة بـ”الجامعة العربيّة خادم الإسلام بمدينة “هابور” التي أحياها للمرة الثالثة يوم 15/ أغسطس 1951م (11/ ذوالحجة 1370هـ) وتَوَلاَّها وهي ككُتّاب فعَكَفَ على النهوض بها حتى حَوَّلها بجهوده المخلصة مدرسةً كبيرةً متكاملةً شاملةً لجميع الأقسام التي تتضمّنها في ديارنا مدرسةٌ كبيرةٌ تُوَفِّر لديها التعليم من البداية إلى النهاية وتُنَظِّم تدريسَ جميع العلوم الشرعيّة والدينية التي لابدّ أن يتلقّاها عالم مُتْقِنٌ، من مراحل الروضة والابتدائيّة والثانويّة إلى المرحلة الجامعيّة إلى جانب قسم التحفيظ والتجويد وقسم الإفتاء وما إلى ذلك.
وكان هذا الكُتَّاب يَجْرِي – لدى تولِّيه إدارتَه – في المسجد الجامع بمدينة “هابور” الذي كان قد بناه الملك المغولي شاهجهان (1001-1077هـ = 1593-1666م) وكان قد أسس بجانبه مدرسةً اشتهرت بمدرسة السادات. وذلك عن طريق العالم الصالح مولانا السيّد قطب رحمه الله وأشقائه السيد فريد والسيّد مريد والسيّد عالم. وكانت المدرسة والمسجد تعرّضا لاعتداءات الاستعمار الإنجليزيّ أيام 1857م (1273هـ) حيث صَادَرَ جميع مُمْتَلَكَات المسجد والمدرسة، وقَتَلَ عددًا من العلماء والطلاّب الذين وَقَفُوا في وجهه مُقَاوِمِين للاعتداء، واخْتَفَىٰ بعضُهم إبقاءً على حياتهم لأداء الدور المُنْتَظَر منهم في هذه الظروف العصيبة على الإسلام والمسلمين في هذه الديار التي حكموها ألف سنة. وباع الاستعمارُ المسجدَ والمدرسةَ لبعض غير المسلمين الذين انتهكوا حرمتَهما، ثمّ اشتراهما مولانا الحكيم السيد عالم بثمن باهظ من عنده، وقد كان مُتَوَلِّيًا لشؤون المدرسة والمسجد آنذاك، فأجرى نشاطَ المدرسة، وجَلَبَ إليها كبارَ العلماء المُتْقِنِين لتدريس العلوم الشرعيّة في عهدهم، فنَشِطَتْ كثيرًا، وتَخَرَّجَتْ فيها كثيرٌ من العلماء؛ ولكنّه بعد وفاة مولانا الحكيم السيد عالم توقّفتْ نشاطاتُ المدرسة؛ غير أنّه بجهود بعض خَدَمَةِ الدين والعلم انتعشتْ مرّةً أخرى مُتَوَزِّعَةً لبعض الأسباب بين مدرستين: “بركات الإسلام” و “خادم الإسلام”.
حتى عاد إلى مدينته هذه – هابور – الشيخ الصالح ناظرحسين رحمه الله متخرجًا في الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند عام 1951م/ 1370هـ فأجمع العلماء وذوو الوجاهة الدينية والاجتماعيّة في المدينة على أن يُوَلُّوه مسؤوليّةَ هاتين المدرستين اللتين دمجوهما ووَحَّدوهما باسم “خادم الإسلام”. وكان يومًا مشهودًا بالمدينة وساعةً سعيدة للمدرسة/ الكتاب؛ حيثُ لم يدر بخلد أحد عندها أنها ستقطع خلالَ سنوات قادمة أشواطاً بعيدة نحوَ التقدم والازدهار، قَطَعَتْها بمساعي الشيخ ناظر حسين المشكورة؛ فهي اليوم من المدارس الكبرى المعدودة على الأصابع في المنطقة الغربيّة من ولاية “أترابراديش” بعد كل من دارالعلوم / ديوبند، ومظاهر العلوم / سهارنبور والجامعة القاسميّة / مراد آباد.
وبعدما شَهِدَتِ المدرسةُ نهضةً تعليميَّةً وإداريَّةً مسّتِ الحاجةُ إلى نقلها من المسجد الجامع بالمدينة إلى مكانٍ أرحبَ تقوم عليه مبانٍ تستوعب الأقسامَ كلَّها وتسع العددَ المتزايدَ من الطلاب، فتمّ شراء قطعة أرضيّة واسعة على الشارع العامّ الواصل بين المدينة وبين “بلند شهر” عام 1980م (1400هـ) وجرى عليها إنشاءُ مباني المدرسة، التي تدعو المارَّةَ لزيارتها ومشاهدتها، بما فيها مسجدُ المدرسة الكبير، ومبنى المكتبة، ومبنى المضيف، ودارالتحفيظ، ومبنى دورة الحديث الشريف، ومبنى الافتاء والكمبيوتر، ويُزَيِّنُها بوابة شامخة تطلّ على الشارع.
وقد كان رحمه الله يقوم بتدريس بعض الكتب من المُقَرَّرَات الدراسيَّة في المراحل المُتَوَّسِّطة والعالية إلى جانب إدارة المدرسة. ولحبِّه للمدرسة كان يُمْضي مُعْظَمَ أوقاته فيها، وقلَّما كان يذهب إلى يبته بالمدينة؛ فما كان له شغلٌ في حياته إلاّ السهرَ على شؤونها.
وإلى جانب عمله مديرًا للمدرسة، كان يُشْرِف على عدد من المدارس في المنطقة المُجَاوِرة، وكان عالمًا مُحْتَرَمًا في الأوساط الإسلاميَّة لصلاحه وتقواه وبساطته وتواضعه البالغ. وكان من خُلَّص خَدَمَة دارالعلوم/ ديوبند وجمعيّة علماء الهند. ولكونه مُتَوَفِّرًا على خدمة دارالعلوم/ ديوبند انْتُخِب عضوًا في مجلسها الاستشاريّ عام 1989م (1409هـ) فكان يواظب حضورَ جلسات دوراته، وكان لايغيب عنها حتى في حالة إصابته بالوعكة الصحيّة. وقد رأيتُه يحضرها في أواخر عمره وقد بَلَغَ من الضعف أنّه كان يتهادى بين رجلين وكان لايقدر على المشي برجليه هو دونما استناد إلى أحد.
وكان يحبّ جدًّا أسرةَ الشيخ الكبير السيّد حسين أحمد المدني رحمه الله وأبناءَه وأحفادَه وجميعَ المنتمين إليه؛ ومن هنا كان خادمًا وفيًّا لجمعيّة علماء الهند التي كان يراها ذكرىً جميلةً له رحمه الله؛ فكان يساعدها دائمًا بنفسه وبالمال وبالرجال، وكان يبدو مستعدًّا كلّ وقت لتقديم كل خدمة تحتاج إليها. وقد رأيتُه كان يضع على رأسه قلنسوةً مُثْبَتًا عليها شعارُ الجمعيّة، وحقًّا كان سندًا كبيرًا لها في هذه المنطقة الغربيّة من الولاية .
كلما لقيتُه وجدتُه رجلاً قليلَ الآمال، كبير الأهداف، زاهدًا في زخارف الدنيا، راغبًا في الآخرة، لايهمّه مايهمّ اليوم معظمَ العلماء من الجيل الحاضر، من الرغبة في الجاه، والحرص على الشهرة، والركض من أجل كسب الشيء الكثير من حطام الدنيا الزائل.
تَلَقَّى التعليمَ الابتدائي بمدينة “هابور” في مدرستي “بركات الإسلام” و “خادم الإسلام”، وبها حَفِظَ القرآن الكريمَ، والتحق لتلقي التعليم الشرعيّ العالي بالجامعة الإسلاميّة دارالعلوم / ديوبند، عام 1944م (1363هـ) وتخرج منها عام 1950م (1366هـ) والتحق فيها بقسم الإفتاء عام 1950م (1366هـ) وتخرج منه مفتيًا بشكل رسميّ عام 1951م (1367هـ). وكان ضمن الدفعة الأولى التي تخرجت في قسم الإفتاء بالجامعة بعد قيامه بشكل مستقل منتظم .
وحَجَّ وزار الحرمين الشريفين ثلاث مرات عام 1947هـ (1366هـ) و 1983م (1403هـ) و 1997م (1417هـ) وكان يرافق في حجته الأولى رئيسَ الجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند سابقًا: فضيلة الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله تعالى (1315-1403هـ = 1897-1983م).
وخلّف – رحمه الله – وراءه زوجته الصالحة وابنًا وثلاث بنات والكثرة الكاثرة من محبيه من العلماء وطلاب علوم الدين والصالحين، ومدرستَه الكبيرةَ التي زرتُها بعد وفاته فلمستُ كأنها تبكي فراقه بكل مبانيها وكل من فيها من الأساتذة والطلاّب والموظفين والمنسوبين حرسها الله، ولا فتنها بعد موته.
وكان – رحمه الله – حافظاً مُتْقِنًا للقرآن الكريم، وكان يُكْثِر من تلاوته، ولاسيَّما أيامَ ولياليَ رمضان التي كان يحيها بالتلاوة والقيام والذكر. ومن أجل صلاحه الصادق كان يحبّه الجميعُ الكبيرُ والصغيرُ، وما وجدتُ أحدًا يُبْغِضه؛ لأنه بدوره كان سليمَ دواعي الصدر، لايُخَالِط النّاسَ إلاّ لإسداء الخير إليهم.
رحمه الله وأدخله فسيح جنّاته.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس 2009م ، العـدد : 2-3 ، السنـة : 33