دراسات إسلامية

بقلم : الدكتور أحمد محمد كنعان

      عرفنا في الفصول السابقة، ما نقصده من مفهوم “سُنة الله في الخلق” وقلنا: إن هذا المفهوم يعني: مجموعة القوانين التي سَنَّها الله عزّ وجل وأخضع لها مخلوقاته جميعًا على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها.. وعرضنا بعد ذلك شواهد عديدة، دلت كلها على أن كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود تخضع لسُنن ربانية، لا تتبدل ولا تتحول، ثم بيَّنا أن تسخير العالم المحيط بنا غير ممكن، بغير الفهم الصحيح لطبيعة السنن الربانية، لأن هذا الفهم يعد بمثابة “كلمة السّر” التي تفتح لنا مغاليق هذا الكون، وتُتيح لنا فرصة الاستفادة من كنوزه، التي لاتعد ولا تحصى، وتسخيرها فيما يصلح شؤون حياتنا، ويُيَّسر لنا أمر عمارة الأرض.

       ولكن.. هل ثمرة (التسخير) هي الثمرة الوحيدة، التي يمكن أن نجنيها من فهمنا لطبيعة السُنن، التي فطر الله عليها أمور خلقه؟ لا.. بل هناك ثمرات أخرى كثيرة يمكن أن نجنيها من فهمنا للسنن، ويأتي في مقدمة هذه الثمرات ثمرة.. الإيمان.. لأننا حين نطلع على طبيعة السنن، التي تحكم الكون، وما فيه من مخلوقات كثيرة، فإننا سندرك أن هذا الكون ما كان له أن يقوم على هذه الصورة البديعة من التناسق والتوازن والاستقرار، لولم يكن خالقه.. ربًا واحدًا، حكيمًا، عالماً، ومحيطاً بكل شيء، وقادرًا على كل شيء (سبحانه).

       ويلحق بثمرة الإيمان ثمرات أخرى كثيرة، من أبرزها تصويب نظرتنا إلى كثير من المفاهيم، التي لها مساس مباشر وعميق بسلوكنا وحركتنا في الحياة.. وهذا ما سوف نعرض له في هذا الفصل.

1– الحرية

       عندما نسمع كلمة “الحرية” نتذكر على الفور قولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتم أمهاتهم أحرارًا؟”.

       وقد نتذكر كذلك “الثورات” التي قادها أصحابها باسم “الحرية”..

       وقد نتذكر السجون ودهاليز التعذيب الجهنمية الرهيبة.

       وقد نتذكر أعواد المشانق، التي أقيمتْ وما تزال تقام بين الحين والحين هنا وهناك بهدف “تأديب” المنادين بالحرية..

       وقد نتذكر .. ونتذكر..

       قد نتذكر ذلك كله ما دام الحديث يدور عن “الحرية”.

       ومن العجيب أن ينحصر جلّ تفكيرنا بالمعنى السياسي للكلمة، مع أن للحرية معاني كثيرة أوسع وأشمل من مجرد فهم سياسي محدود. فما الذي يجعل تفكيرنا يتوجه نحو السياسة وحدها دون سواها؟

       إنه – دون ريب – ضغط الواقع الذي يعيشه الإنسان اليوم، في كثير من بلدان العالم، حيث حرية الرأي، وحرية الحياة، وحرية التعليم، وحرية التملك.. وكل الحريات الأخرى مهددة بالإعدام في لحظة واحدة نتيجة قرار سياسي أحمق!

       غير أن هذا الواقع الأليم – على فداحته – لا يصح أن يحجب عنا الرؤية الموضوعية للمسألة، ولا أن يمنعنا من الفهم الصحيح للحرية، التي ننادي جميعًا بها.. لأننا من غير تلك الروية، وهذا الفهم، لن نستطيع أن نتجاوز أزمتنا الحضارية الراهنة، بل قد نزيد هذه الأزمة تعقيدًا، وقد ينتهي بنا الأمر إلى خسارة أخرى من حريتنا، التي يفترض ألا نقبل بها إلا كاملة، غير منقوصة.

فما هي الحرية يا تُرى؟

       ربما كانت الحرية من أكثر المصطلحات التصاقًا بحياة الإنسان وبمصيره، وربما كان هذا هو السبب، الذي من أجله يتعرض مفهوم الحرية للكثير من عمليات التشويه والتلبيس والتلاعب.. ولقد ظلت الحرية على مدار التاريخ عرضة لعمليات “تحجيم” ماكرة يراد منها أن تخدم مصالح بعض أصحاب القرار، الذين لايؤمنون أصلاً بالحرية إلا بمقدار ما تمنحهم هذه الحرية من “سلطات” إضافية، تضاف إلى رصيدهم من التسلط والطغيان والجبروت!

       ويقودنا البحث عن معنى الحرية أول ما يقودنا إلى رحاب القرآن الكريم الذي يخبرنا بأن الله عزوجل – الذي خلق السموات والأرض – لم يترك هذا الخلق ليعيش على هواه، وتصرف بلاضابط ولا نظام ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمواتِ والأَرضَ وما بَيْنَهما لاعِبِينَ﴾ (الدخان28)، بل أخضع الله ذلك كله لمجموعة من السنن لتحكم مسيرة هذا الخلق ﴿وَخَلَقَ كُلُّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا﴾ (الفرقان2). وتوحي آيات كثيرة بأن هذه السنن تعد بمثابة حواجز تحد من حرية الإنسان في هذا العالم، وتقيد حركته، نلمح هذا مثلاً في قوله تعالى: ﴿يَامَعْشَرَ الجِنّ والإنْس إِنْ اسْتَطَعْتُم أَنْ تَنْفُذُوا منْ أَقْطَارِ السَّمواتِ والأرْضِ فانْفُذوا﴾ (الرحمن33) فالنفاذ لا يكون إلا لوجود مانع أو حاجز، لكن إرادة الله سبحانه شاءت ألا تكون هذه الحواجز مطلقة بحيث لا يستطيع الإنسان الفكاك من أسرها، بل جعل الله عز وجل هذه السنن قابلة للتسخير من قِبل الإنسان، لكي يتمكن من القيام بأمانة التكليف، وهذا معنى قوله تعالى ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمواتِ وَمَا في الأَرضِ جَميعًا مِنْه﴾ (الجاثية13)، لكنه سبحانه جعل شروطاً لابد للإنسان أن يوفرها حتى يتمكن من تسخير السنن الربانية، ومن تلك الشروط أن يعرف طبيعة السنن، التي تحكم الأشياء التي يريد تسخيرها، وأن يهييء الظروف المواتية لهذا التسخير.. نلمح هذا المعنى في قوله تعالى تعقيبًا على تحدي الجن والإنس أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض في ختام الآية السابقة من سورة الرحمن ﴿لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلطان﴾ ويرجع أن السلطان هنا هو معرفة السنن الربانية التي تعين الإنسان على الطيران وتجاوز أقطار السموات والأرض(1).. والملاحظ أن الإنسان عندما استطاع أن ينفذ من أقطار السموات والأرض اكتسب هامشًا جديدًا من الحرية؛ إذ تحرر من قيد الجاذبية الأرضية، وتحرر من قيد السرعة، التي مُنحت له فطرة، وهي سرعة مشيه على قدميه، فأصبح قادرًا على الحركة بسرعات مذهلة تتجاوز عشرات الآلاف من الأميال في الساعة الواحدة!!

       ويمكن أن نزيد هذه الفكرة توضيحًا بمثال آخر.. فلو أننا أتينا بإنسان لايعلم شيئًا عمّا وصلت إليه الاختراعات والتقنية الحديثة من تقدم، ثم عرضنا عليه سيارة.. فما يكون موقفه منها ياترى؟ إنه – دون ريبٍ – سيقف حيالها حائرًا مستغربًا مندهشًا، وربما فَرَّ منها خائفًا مذعورًا! فهي بالنسبة له عالم مجهول تمامًا، ينطوي على كل ما ينطوي عليه المجهول من خوف ومفاجآت.

       ولو أننا طالبنا من هذا الإنسان، أن يتصرف بالسيارة على مقدار ما لديه من علم فطري، فربما اكتفى باستخدامها مأوى لدجاجته.. وهذا غاية ما قد يقوده إليه تفكيره من استخدام هذه الآلة العظيمة.. أي أنه لن يستطيع أن يستفيد من الحرية الواسعة، التي يمكن أن توفرها السيارة له، وما ذلك إلا لجهله بالقوانين التي تحكم عملها. بينما نجد أن إنسانًا آخر لديه علم بتلك القوانين، سيتصرف بالسيارة بصورة مختلفة تمامًا، فهو يعرف كيف يشغلها، وكيف يحركها، وكيف يجعلها تحمل متاعه، وتجري به بسرعة كافية، تعنيه على توفير الوقت، وتقريب المسافات.. فهذا الإنسان اكتسب بعلمه بالسنن، التي تحكم عمل السيارة هامشًا إضافيًا من حرية الحركة في هذا العالم، كما اكتسب قوة جديدة أضيفت إلى قوته الجسدية، فأصبح قادرًا على بلوغ أماكن، وتحقيق أهداف، لم يكن ليبلغها أو يحققها بقوته الجسدية وحدها.

الحرية والعلم بالسنن

       وعلى هذه الشاكلة من المعرفة بالسنن يكتسب الإنسان المزيد من الحرية في هذا العالم.. ونستشف من خلال استعراض الخلق في القرآن الكريم أن الإنسان أول ما أوجده الله فوق هذه الأرض أصيب بخيبة أمل كبيرة، فبعد أن كان يعيش في الجنة سيدًا، ينعم بحرية مطلقة.. أهبط إلى الأرض ليجد نفسه فجأة في عالم يتنكر له، عالم مختلف تمامًا عن عالم الجنة، لأن كل ما فيه عَصِيٌّ على الأمر المباشر.. كان آدم في الجنة يأمر فيطاع.. أما هنا في عالم الأرض فإن الأمر وحده لم يعد يكفي للوصول إلى الهدف، بل لابد من جهد، وعلم بالقوانين، أو السنن، التي تحكم هذا العالم.. وهكذا وجد آدم نفسه فجأة مقيدًا داخل حدود السنن.. ووجد نفسه بسبب جهله بسنن العالم الجديد خاضعًا لسيطرة المخلوقات الأخرى، والتي كانت أكثر منه عددًا، وأشد قوة! فاحتار:

  • ماذا يصنع ؟
  • أيستسلم ؟
  • أيقف مكتوف اليدين أمام هذا الواقع الجديد، الذي اختاره بنفسه طائعًا؟
  • أم يتحرك ليسترد حريته من جديد؟

       ولم تطل به الحيرة، فاختار – بما وهبه الله من عقل – أن يتحرك، وراح يواجه العالم المحيط به، بكل ما آتاه الله من عزم وتوق إلى الحرية، فأخذ يفك طلاسم الوجود، ويكشف من أسراره ما شاء الله له أن يكشف، فاهتدى إلى معرفة الكثير من السنن، التي على نهجها تسير الحياة، وبهذه المعرفة السننية، تمكن من تسخير العالم المحيط به، وتحرر من السيطرة التي كانت مفروضة عليه. وشيئًا فشيئًا راحت تتوسع دائرة حريته، حتى تمكن في النهاية من قلب الموازين، وتغيير المعادلات، فأمسى العالم الذي كان يفرض عليه سيطرته رهن أوامره هو!

ما مدى حريتنا في عالم اليوم؟

       ويمكن أن نوسع مفهوم الحرية كما قدمناه، لننظر على ضوئه إلى أزمتنا الراهنة.. فبعد عصور التخلف والانحطاط والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. التي تعاقبت على أمتنا، أصابنا الوهن، وقعدت بنا الهمة عن متابعة الدرس والبحث، والسير في الأرض، لكشف المزيد من السنن الكونية، التي كان يمكن أن نستفيد من تسخيرها في عمارة الأرض، وتشييد الحضارة الإنسانية التي نتوق إليها..

       وكان من نتيجة تخلفنا أننا أصبحنا اليوم نقف أمام ما استجد في العالم من اكتشافات واختراعات وحقائق، موقف ذلك الذي وقف خائفًا مهزومًا أمام السيارة، لا يدري ما طبيعتها، ولا كيف يتعامل معها!

       وأما “الآخرون” فقد انطلقوا بالمقابل يبحثون ويدرسون ويجربون ويكتشفون، حتى عرفوا الكثير عن سنن الوجود، فكسبوا بذلك هامشًا رائعًا من الحرية.. هذا في الوقت الذي ضاقت فيه مساحة الحرية “المتاحة” لنا.. فانتهت بنا هذه المعادلة غير المتكافئة، أن أمسينا تابعين غير متبوعين، وهذا جانب هام من أزمتنا جدير بوقفة تأمل طويلة!

       ويخطئ من يظن أن سبب أزمتنا الراهنة نقص في الطاقات المادية.. فإن هذه الطاقات مبثوثة في الأرض كلها، حتى لا تكاد تجد دولة من دول العالم إلا وتجد فيها من الثروات والطاقات ما يغنيها ويكفيها، لتعيش حياة حرة كريمة هانئة.. وربما كانت بلادنا من أغنى الأرض من حيث خصوبة أراضيها، ووفرة الثروات المخبوءة فيها .. فما الذي ينقصنا إذن؟

       إن الذي ينقصنا حقا هو موقف متجدد من الحياة، ونظرة متجددة إلى واقعنا.. موقف متجدد ونظرة متجددة ينطلقان على هدى التوجيه الرباني الحكيم ﴿قُلْ انظروا مَاذَا فِيْ السَّمـٰـوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (يونس101) فلقد غفلنا عن هذه الدعوة الربانية أمدًا بعيدًا، وقصرنا في دراسة السنن التي جعلها الله سبلاً لتسخير هذا الكون.. ويوم نعاود البحث والدرس، ونفهم طبيعة هذه السنن، ونهيئ الشروط اللازمة لتسخيرها.. فيومئذ يمكن أن تنفتح السبل أمامنا، وتنهار الحواجز التي قيدت حريتنا عصورًا طويلة!

2– العلم

       .. الصلة وثيقة بين (العلم)، وبين السنن، التي فطر الله عليها أمور خلقه، فالقوانين التي قامت عليها العلوم المختلفة، ترتكز على أساس من فهم السنن،  بل إن القوانين التي ثبتت صحتها بدليل قطعي، ماهي إلا صياغة بشرية، لما اكتشفه الإنسان من السنن الربانية، التي تحكم كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود!

       ومن المعروف أن القانون العلمي يمر بمراحل عدة، قبل أن يصاغ صياغة نهائية، وقبل أن يصبح قابلاً للتطبيق العلمي (أوالتسخير)، وهذه المراحل هي:

       أ- الملاحظة : إذ يلاحظ الباحث من خلال تأملاته بالطبيعة، أو من تجاربه في المختبر، أن هناك ظاهرة ما تتكرر في وتيرة واحدة ثابتة.

       ب – الفرضية: وبناء على معطيات الملاحظة الأولية يضع الباحث فرضية لتفسير الظاهرة التي استدعت انتباهه.

       ج – البرهان: وبعدئذ يصبح على الباحث لزامًا أن يستيقن من صحة الفرضية، التي وضعها لتفسير الظاهرة، وفي سبيل ذلك لابد أن يبحث عن العوامل، التي لها علاقة مباشرة بهذه الظاهرة، وقد يتطلب ذلك منه إجراء بعض التجارب المعملية للبرهنة على صحة ما توصل إليه من معرفة العناصر والعوامل والظروف المؤثرة في حدوث الظاهرة.

       د- القانون: فإذا ما نجح الباحث في إعادة تشكيل الظاهرة نفسها فإنه يكون قد فهمها فهمًا صحيحًا وعلم حقيقتها علمًا يقينيًا، أي أنه يكون قد علم السنة التي تحكمها.. وحينئذ يصبح قادرًا على أن يصوغ القانون العام الشامل الذي يحكم هذه الظاهرة، ويحكم كذلك كل الجزئيات المماثلة لموضوع هذه الظاهرة.

       وبعد هذا المنهج في البحث هو الأساس الذي قامت عليه العلوم المختلفة.. أي أن الهدف الذي تسعى إليه العلوم قاطبة هو معرفة السنن التي تحكم مفردات هذا الكون.

       .. ومما لاريب فيه أن وضع العلماء للقوانين، وتعميم هذه القوانين بعد ذلك على الصورة التي قدمناها، سوف يفقد مبرراته ومصداقيته، ويغدو بلا معنى، لولم تكن السنن الربانية متصفة بالثبات، وعدم التبدل والتحول، فلولا هذه الصفات لما أمكن لأي باحث أن يضع نظرية، أو يقرر قانونًا علميًّا له صفة العموم والشمول، ولما كان ممكنا أيضًا قيام أي من العلوم البشرية المعروفة اليوم! وهذا ما يؤكد أن ثبات السنن يشكل الأساس الأول في بنية العلوم، لأن ثبات السنن هو الذي جعل من الأمور المسَلَم بها لدى العقل البشري، أن القانون الذي يصدق على مجموعة معينة من مجاميع الطبيعة، يصدق كذلك على المجموعات الأخرى المماثلة لها.. ونضرب على ذلك بعض الأمثلة:

       فقد لاحظ العلماء مثلاً أن عنصر الأكسجين يتحد مع عنصر الهيدروجين بنسبة معينة ليتكون من هذا الاتحاد جزئيات الماء، وفق المعادلة التالية:

2H2 + O2              2H2O

       ثم لاحظ العلماء أن الأكسجين نفسه يتحد مع الكربون بنسبة مختلفة عن النسبة التي اتحد بموجبها مع الهيدروجن، فينتج من ذلك ثاني أكسيد الكربون كما يلي:

C + O2              CO2

       ثم عرف العلماء أن هذه الظاهرة تتكرر في بقية العناصر الكيميائية، فيتحد كل عنصر مع العناصر الأخرى، وفق نسبة معينة تتعلق بالأوزان الذرية لهذه العناصر.. وعندئذ توصل العلماء إلى معرفة السنة، التي يتم بموجبها اتحاد العناصر الكيميائية بعضها مع بعض، وأطلقوا على هذه السنة اسم (قانون االنِّسَب) الذي يحمل اليوم اسم الكيميائي (دالتن).

       ونأخذ مثالاً آخر من علم الإجتماع.. فعندما لاحظ الباحثون الاجتماعيون أن تفشي ظاهرة اجتماعية معينة في أحد المجتمعات يؤدي إلى حدوث وتغييرات واضحة المعالم في بنية هذا المجتمع.. وعندما لاحظوا أن تلك الظاهرة نفسها تؤدي لحدوث نفس التغييرات في المجتمعات البشرية الأخرى.. عندئذ أيقنوا أن حياة المجتمعات قاطبة محكومة بنوع من السنن الصارمة التي تحكم تطورها واتجاهها.. وبناءً على هذه المعطيات استطاع هؤلاء الباحثون تحديد معالم بعض السنن الاجتماعية، ووضعوا على أساسها أصول (علم الاجتماع)!

       ومن هنا.. يمكن أن نخرج بتعريف أولي للعلم على ضوء علاقته بالسنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، فنقول: (العلم: هو المعرفة اليقينية بالسنن، التي تحكم جزئية من جزئيات هذا الوجود) وهذا التعريف للعلم يحدد لنا المسألة تحديدًا دقيقًا..

       فلا يصح أن أدعي بأن عندي علمًا بقضية ما من القضايا، مالم أكن قد عرفت يقينًا السُنة التي تحكمها، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن معرفة السُنة التي تحكم ظاهرة ما، تعني بالضرورة معرفة كل العوامل والشروط المتعلقة بالظاهرة والمحيطة بها، وتعني كذلك القدرة على إعادة تشكيل الظاهرة من جديد انطلاقًا من تلك العوامل والشروط.. وبمعنى آخر: فإن العلم بظاهرة ما من ظواهر هذا الوجود يعني أمرين اثنين:

       1- القدرة على التنبؤ بنتائج الظاهرة تنبؤًا يقينيًا، وليس مجرد ظن، لأن الظن قد يصيب وقد يخطئ، ويعني كذلك أننا لم نحط بالظاهرة إحاطة تامة.

       2- القدرة على تسخير الظاهرة نفسها من خلال تهيئة شروطها وأسبابها، التي سبقت معرفتنا بها.

       وهذا هو العلم اليقيني، الذي لا يدانيه باطل.

       وهذا هوالعلم النافع، الذي يمكن به تسخير العالم المحيط بنا تسخيرًا صحيحًا.

       وهذا هوالعلم الذي يحثنا القرآن الكريم على تحصيله، وذلك من خلال عدد كبير من الآيات.. فقد وردت كلمة (العلم) بتصريفاتها المختلفة فيما يزيد عن سبعمائة آية، مشفوع معظمها بالدعوة إلى التأمل في آيات الله (أو سننه) على بصيرة، ووفق المعايير العلمية المبرأة من الظن والهوى!

       وقد كان لهذه التوجيهات القرآنية الحكيمة أثر هام في تشكيل العقلية الإسلامية، التي استطاعت فيما بعد إرساء قواعد البحث العلمي، وأصول المنهج التجريبي، لأنها أصبحت تنظر إلى الكون نظرة جديدة لا تكتفي بمجرد الدهشة والانبهار، عند اكتشاف سر من أسرار الخلق، أو سُنة من سنن الخالق .. بل أصبحت تنظر إلى الوجود نظرة علمية إيجابية، تستهدف فهم السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، ومن ثم تسخير هذه السنن، والاستفادة من معطياتها في تصريف شؤون الحياة، وعمارة الأرض على الوجه الذي أمر به رب العزة سبحانه.

علم الكتاب

       والحق.. أن القرآن الكريم لم يقف بالمسلمين عند هذه الحدود في حثهم التحليق نحو آفاق أبعد وأرحب، حين تحدث حديثًا مسهبًا عن واقعة خارقة للعادة، ثم ربطها ربطاً مباشرًا بقضية العلم، وتكل هي قصة نبي الله (سليمان) عليه السلام مع (بلقيس) ملكة (سبأ) التي طلب من جنوده إحضار عرشها قبل أن تأتيه وقومها مسلمين، فتصدى لهذه المهمة الصعبة واحد من الجن ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ من الجّن أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِك وإِنِّيْ عَلَيْهِ لَقَوِيُّ أمِيْنٌ﴾ (النمل39﴾، لكن سليمان عليه السلام كان يطمح للحصول على العرش بأسرع من ذلك، فراح ينظر فيمن حوله متسائلاً عمن يستطيع تحقيق حلمه، وعندئذ ﴿قال الذي عِندُ عِلْمٌ من الكتاب أنا آتيكَ به قبلَ أن يَرْتَدَّ إليك طَرْفُكَ﴾ (النمل40)، وما هي إلا لحظات خاطفة حتى كان العرش الثمين بين يدي النبي عليه السلام!

       وواضح من خلال السرد القرآني البليغ لهذه القصة الطريفة، أن قضية إحضار العرش من أقصى اليمن، حيث كانت تعيش الملكة بلقيس، إلى فلسطين، حيث كان يعيش نبي الله سليمان، كان أمرًا معجزًا خارقًا للعادة آنذاك، يوم لم يكن معروفًا من وسائل التنقل غير الدواب.. لكن الملفت للنظر حقًّا، أن القرآن الكريم لم يعرض الواقعة بوصفها أمرًا معجزًا وكفى، بل عرضها عرضًا متميزًا يدعو للتأمل والتدبر، إذ نجده يؤكد على دور العلم في القضية؛ نلمح ذلك من خلال معالجة كل من العفريت والذي عنده علم من الكتاب لهذه القضية.. فالعفريت من الجن أراد إحضار العرش معتمدًا على قدراته الجسدية، التي منحه الله إيّاها خلْقة فقال: (وإني عليه لقوي أمين) وأما “الآخر” الذي أحضر العرش فعلاً خلال زمن قياسي قصير جدًا فقد لجأ إلى (العلم) الذي تشير الآية الكريمة إلى أنه (علم من الكتاب)!

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال  1429هـ = سبتمبر – أكتوبر  2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32


(1) ذكر بعض المفسرين أن السلطان في هذه الآية يعني (سلطان الله) وقيد الآية بيوم القيامة، وبأن نجاة العبد في ذلك اليوم لا تكون إلا أن يأتي ببرهان على إيمانه، إلا أن النظر إلى الآيات التي سبقت هذه الآية والآيات التي لحقتها لا يؤيد هذا التقييد، ومادامت العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب كما يقول علماء الأصول فإننا نرجح المعنى الذي ذهبنا إليه، وقد ورد في عدد من التفاسير ما يؤيده، ومن ذلك ما ذكره (البيضاوي) في معرض تفسيره للآية إذ قال: (إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السموات والأرض فانفذوا لتعلموا، ولكن لا تنفذون إلا ببينة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها..).

Related Posts