إلى رحمة الله
في نحو الساعة الواحدة والعشر دقائق من ظهر يوم الأربعاء : 26/رجب 1429هـ الموافق 30/يوليو 2008م ، انتقل إلى رحمة الله تعالى الرجلُ الربّانيّ الشيخ الصالح الحافظ محمد إقبال بوطنه : مدينة “غوندا” بولاية “أترابراديش” بالهند، بعد ما عاني من عوارض الشيخوخة الشيءَ الكيثرَ وظلَّ يتجشم تداعيات الأمراض منذ سنوات . وكان يقارب عمره 96 عامًا لدى الوفاة ؛ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
وصَلَّى عليه بالجمع الحاشد من العلماء والطلاب وعامّة المسلمين في نحو الساعة العاشرة من الليلة المتخلِّلة بين الأربعاء والخميس : 26-27/ رجب 1429هـ الموافق 30-31/يوليو 2008م العالم الهنديّ الكبير فضيلة الشيخ السيّد محمد الرابع الحسنيّ الندويّ الأمين العامّ لندوة العلماء بلكهنؤ . وذلك في رحاب مدرسته التي ظلّ يقوم بإدارتها وتحفيظ القرآن الكريم فيها ، المعروفة بـ”المدرسة الفرقانيّة” بمدينة “غوندا”.
عُمِّرَ الشيخُ طويلاً ؛ فقد عاش 96 عامًا، وقام بخدمة القرآن الكريم تحفيظاً له وعنايةً بتأسيس وتنظيم حلقات التحفيظ عبر 76 عامًا، وعاش حياة الصلاح والزهد والتقوى التي ظلّ يغبطه عليها كثيرٌ من أقرانه ومعاصريه؛ حيث لم يرتقوا إليها رغم حرصهم البالغ . لم يكن الشيخ قد ارتقى إلى شهرة كبار الصالحين من العلماء في هذه الديار؛ ولكنّي أعتقد – وربما يعتقد معي كثير ممن يعرفونه عن كَثَب – أنّه ربّما فاق صلاحًا وتقوى وحياةَ زهد وكفاف كثيرًا من مشاهير الصالحين من العلماء .
أقرّت الشريعةُ أنّ صلاح الإنسان يقاس بأنّه إذا جلس إليه أحد شعر بالتقرّب إلى الله ، وكلَّما ازداد صحبةً له ازداد صلةً به تعالى. وأُشْهِد الله أني كلما لقيتُه وجدتُ لذَّةً إيمانيَّةً لا أكاد أصفها بدقّة ، ربّما لم أجدها لدى جلوسي إلى بعض المعروفين بالصلاح من العلماء ذوي الأتباع الكثيرين والمريدين اللاهجين بذكرهم .
كان خفيفَ الجسم، نحيلَ الكيان، أبيضَ البشرة، يعلو وجهَه نورٌ وَهَّاجٌ، الابتسامةُ الراقصةُ بشكل دائم على شفتيه تستقبل ملاقيه قبل أن يستقبله هو بكيانه النحيف . وكان كلُّ مُلاَقٍ له يشعر أنّه أقرب إليه من نفسه هو، يُسَلِّم عليك ويَسْتَخْبِرك أحوالَك ، فتُحِسّ كأنّه دَاخَلَك بشخصه ، وخَالَطَك بكيانه ، وشَاطَرَك حقًّا المشاعرَ والعواطفَ ، وصار هو جزءًا من نفسك وإن لم تكن أنت جزءًا منه .. رجلٌ يشفّ قلبُه عما في ضميره وعلى لسانه ، ظاهرُه كباطنه . لقد شَهِدَ الله أنّي قلَّما رأيتُ مثلَه الذي لايختلف لسانُه عن قلبه وقلبُه عن لسانه . وشَهِدَ اللهُ كذلك أني كثيرًا ما جَرَّبْتُ بعضَ الذين اشتهر عنهم أنهم صلحاءُ مُتَعَبِّدون ، فوجدتُه على غير ما اشتهر عنه ؛ فأَسِفْتُ كثيرًا، وتَرَكَ لقائي معه انطباعًا سلبيًّا نحوه في قلبي كاد يجعلني أُسِيءُ الظنَّ بكلِّ من يتقمّص شخصَ الصالحين ولايكون منهم في شيء.
لم يكن عالمًا بمعنى كونه حاملاً لشهادة العالميَّة أو الفضيلة في الشريعة الإسلاميَّة من أيّ من هذه المدارس والجامعات الإسلاميَّة الأهليَّة الكثيرة بشبه القارة الهنديَّة ، التي حَامِلُها يُسَمَّى “مولانا” في هذه الديار وهو الذي يُعْتَبَر عالمًا ، وإنّما كان فقط حافظاً للقرآن الكريم؛ ومن ثمّ كان يُدْعَى “حافظ محمد إقبال” ولم يكن يُعْرَف بـ”مولانا محمد إقبال”. إنّ “حافظ محمد إقبال” كان قد أصبح في هذه المنطقة الواسعة من الجزء الشرقيّ من ولاية “أترابراديش” اسمًا وقورًا دالاًّ على الكثير الكثير من معاني الصلاح والتديّن ، والزهد في زخارف الدنيا، والاطِّرَاح الصادق على عتبة الرحمن . إن “حافظ محمد إقبال” إذا سَمِعَ به أحد ممن ينتمي إلى أوساط المدارس الإسلاميَّة الأهليَّة التي كانت لها معرفة به، امتلأ ثقةً بأنّه ذاك الشخص الذي أحَبَّه اللهُ ؛ فأحبَّه الناسُ ، وعَرَفَه اللهُ فَعَرَّفَه بين العدد الكبير من خلقه. إنّ “حافظ محمد إقبال” كان رمزًا عن رجل خالطتْ قلبَه بشاشةُ الإيمان وكبرياءُ الإسلام، وصفا من كل كدرةٍ من لوثات سوء الخلق، وزيغ السلوك، وفساد السيرة، وخبث السريرة. عايشتُه في دارالعلوم ندوة العلماء بلكهنؤ سنوات طويلةً ؛ حيث إنّه عن طريقه تَمَّ تأسيسُ قسم التحفيظ فيها ، وكان رئيسًا له ، وكنتُ أنا أيضًا أقوم عندئذ بالتدريس بالدار في العقد الثامن من القرن العشرين الميلاديّ ، وكانت حلقات التحفيظ تُعْقَد أيَّامئذ في القاعة الفوقانيَّة من الرواق السليمانيّ ، وكنتُ أسكن غرفةً في الطابق الثاني منه بجنب القاعة ، وكان “حافظ محمد إقبال” يمرّ من أمام الغرفة مرّات كثيرةً ذهابًا وإيابًا بالطلاب فيما بين القاعة والمسجد وسكن طلاّبه وسكنه هو العائليّ ، وما رأيتُه إلاّ رطبًا لسانُه بذكر الله ، مديرًا حبَّات سبحته بسبّابته اليمنى، وما إن كان يلقاه أحد أو يقَعَ نظرُه عليه ، حتى يبتسم له ، ويبادر بالسلام عليه واستخبار أحواله . وعشراتِ المرّاتِ في اليوم كان ينسجم لقائي معه بشكل عفويّ ذهابًا أو إيابًا في مدرج الرواق ، وكنتُ أشعر حقًّا لدى لقائي إيَّاه ببرودة وحلاوة رائعتين كان منشؤهما صدقَ إيمانه ، وشفّافيَّة قلبه، وإخلاصَه العبادةَ لله، وصلتَه القويّةَ بربّه ، وتجنُّبَه الآثامَ ، وابتعادَه عن دواعيها ، وإحسانَه لظنّه بكل مسلم .
وجدتُه يعمر أوقاتَه بالوظائف المُسْنَدَة إليه أو بالذكر والتسبيح والتلاوة والعبادة ، وكان محافظاً على أوقاته ؛ فلا يدعها تضيع فيما لايعنيه. وكان مواظبًا على القيام في الليل، وكان يُكَلِّف طلابَه في قسم التحفيظ بالنوم عاجلاً بعد صلاة العِشاء وتناول العَشاء، والاستيقاظ في الهزيع الأخير من الليل ؛ فكانوا يستغلون بالحفظ والاستظهار ساعةً كاملةً قبل طلوع الصبح الصادق . وكان يضبط أوقاتهم ليلَ نهارَ، ولا يتيح لهم أن يُهْدِرُوها دونما جدوى . وكان مثالاً يُحْتَذَى فيما يتعلّق بوضع نظام دقيق للتحفيظ وتنفيذه وأخذ الطلاب ومُدَرِّسِيهم بالتقيُّد به ، وكان يُبَارِكه صلاحُه وتديّنُه وصدورُه في جميع تحرّكاته عن الخلق الحسن واللين والكرم ؛ فكان يألف عاجلاً ويُؤْلِف العاملين معه وتحت أمره عاجلاً؛ بل كانوا يسعدون جميعًا بالعمل تحت أمره.
وكان موضعَ الحبّ والتقدير لدى الصالحين في عصره، وكان يزورهم كثيرًا ويَسْعَد بصحبتهم والاستفادة منهم فيما يهمّ آخرتَه ؛ فكان يزور الشيخ البروفيسور عبد الباري الندويّ رحمه الله (المُتَوَفَّى يوم الخميس 30/يناير 1976م الموافق 26/صفر 1396هـ) الذي كان من كبار المتخرجين في التزكية والإحسان على العلامة الجليل الشيخ أشرف علي التهانوي، والمعروف في شبه القارة الهندية بـ”حكيم الأمة” (1280-1362هـ = 1863-1943م) وكثيرًا ما كنتُ أصحبه إلى بيته، وأتمتّع بهذه الصحبة المفيدة ، كما كنت أصحبه كثيرًا لزيارة العالم الهندي الكبير الداعية والكاتب الإسلامي فضيلة الشيخ محمد منظور النعمانيّ رحمه الله (1323-1417هـ = 1905-1997م) وعليه تخرج في التزكية والإحسان. وكان موضع التقدير والاهتمام جدًّا لدى المفكر الإسلامي الهندي الكبير سماحة الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله (1333-1420هـ = 1914-1999م) وكان يحتفي به كثيرًا تلميذُه النجيبُ ويدُه اليمنى ونائبُه في تولّي الأمانة العامّة لندوة العلماء الشيخ محمد معين الندويّ رحمه الله (المُتَوَفَّى 1420هـ/1999م) وكان يختلف كثيرًا إلى الشيخ الصالح صاحب القلب الرقيق محمد أحمد البرتابكدهي رحمه الله (المُتَوَفَّى 1412هـ/1991م) .
إنّه من علامات صلاح الرجل أن يحبّه الصالحون وتنجذب إليه قلوب عامّة المسلمين ، ويستأنس بصحبته كلُّ إنسان ، ويحسبه صديقَه وخليلَه . وكان “الحافظ محمد إقبال” على هذا المستوى السعيد ، وظلّ عليه مادام حيًّا. ونثق بأنّ ربّه الذي أنزله على هذا المستوى المبارك ، سيُنزله منزلاً كريمًا في جنّته العليا، ويُبَوِّئه مقعدَ صدق بجوار الأنبياء والصدِّيقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقًا .
كان الفقيد الغالي من مواليد عام 1330هـ/1912م، وُلِدَ بقرية بمديرية “غوندا”. و حَفِظ القرآنَ الكريم في “المدرسة الفرقانية” بمدينة “غوندا” وبها عَمِلَ مُدَرِّسًا مُحَفِّظاً لأكثر من عشرين عامًا ، ثم انتدبه سماحة الشيخ أبو الحسن الندويّ رحمه الله ليؤسس قسمَ التحفيظ بدارالعلوم ندوة العلماء بـ”لكهنؤ” فعمل بها نحو عشرين عامًا، ثم عاد أدراجَه إلى مدرسته الأولى “المدرسة الفرقانيّة” حيث ظلّ يعمل مديرًا لها ومُحَفِّظاً للقرآن الكريم ، يُعْنَى بكتاب الله تعالى، لفظاً وغايةً ، ويقوم بتربية النشء المسلم على الدين والعقيدة ، وبقي على هذه الحالة السعيدة حتى لَفَظَ أنفاسَه الأخيرةَ . ورغم أنه كان يعاني انحرافات صحيّة كثيرة وعوارض ناتجة من الشيخوخة الطاعنة في السنّ منذ سنوات عديدة ، حتى عاد لايمشي على رجليه، وإنما كان يَتَنَقَّل بالكرسيّ المُتَنَقِّل ، وقد ضعف كثيرًا ؛ ولكنّه كان يحضر الفصولَ الدراسيَّة ولاسيّما حلقتَه من التحفيظ ، وكان يستمع لتلاوات الأطفال والطلاب وهم يُرَدِّدون الآيات القرآنيّة ، وكان ديدنَه ذلك كلَّ يوم؛ حيث كان لايصبر عن حضور الحلقة رغم معاناته من الضعف والأمراض، وإنما كان يشعر بالسكينة بحضوره إيّاها واستماعه لأصوات تلاوات كتاب الله تتردّد في جوّ قاعة الحلقة .
وقد احتسب ذووه وأصحابُه مُدَّة عمله مدرسًا قائمًا بخدمة كتاب الله عَزَّ وجلَّ، فوجدوها تمتدّّ على 76 عامًا: مدة مديدة جدًّا قلما يحظى بها المشتغلون بكتاب الله تعالى. أنزل الله عليه شآبيب رحمته ، وأدخله فسيحَ جنَّاته ، ولا حَرَمَنا أجر فراقه ، ولا فتننا بعده ، إنّه سميعٌ قريبٌ مجيب.
(تحريرًا في الساعة الواحدة ظهرًا من يوم الثلاثاء: 3/شعبان 1429هـ الموافق 5/أغسطس 2008م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1429هـ = سبتمبر – أكتوبر 2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32