كلمة العدد
غزوُ العراق واحتلالُه ومن قبل غزوُ أفغانستان واحتلالُها ، لم يكن أمرَ صدفة وإنما كان سياسة مُخَطَّطَة ، لتحقيق أهداف بعيدة المدى كثيرة التوَجُّهات ، تَنْصَبُّ كلُّها في مصالح أمريكيّة محضة أو مصالح صهيوأمريكيّة مشتركة في الأغلب . وقد كشفتْ وثائقُ الأمن القوميّ الأمريكيّ أنّ إدارة “بوش” الابن كانت قد بدأت عقب الغزو والاحتلال في إعداد الاستراتيجيَّة الأمنيَّة العراقيَّة الأمريكيَّة طويلة المدى ، التي كان من شأنها تنظيمُ وجود وبقاء القوّات الأمريكية بالعراق طويلاً لمدّة زمنيَّة غير معلومة ؛ فالتحليلُ الاستراتيجيُّ لوثائق الأمن القوميّ يُؤَكِّد المُخَطَّطَ الذي أعلنه البيتُ الأبيضُ في 20/سبتمبر 2002م (الجمعة 12/ رجب 1423هـ) والذي كان قد صاغه “المُحَافِظُون الجدُد” (اليمينُ المسيحيُّ المتشدّد) في الحزب الجمهوريّ – الذين يُسَمَّوْن “مجموعةَ الصقور” – إنهم صاغوا ما سُمِّي “دليلَ التخطيط الاستراتيجيّ” للولايات المتحدة يتضمّن عدة مبادئ رئيسة ، من بينها :
* تأمينُ عدم وجود قوة عظمى قد تُنَافِس الولايات المتحدة * توجيهُ ضربة عسكريّة لكل قوة ناهضة ولاسيّما في منطقة الشرق الأوسط ؛ حتى لا تُوْجَد مخافةٌ مستقبلاً على مصالح أمريكيّة صهيونيّة . وذلك بدءًا بالعراق ، تمهيدًا لخلخلة هذه المنطقة الشرق أوسطيّة ، لإعادة رسم خريطتها السياسيّة والإقليميّة ، ولإيجاد واقع عربيّ مُهَلْهَل منهار يُضْطَرُّ لتقبّل كل ضغط لحلّ النزاع العربيّ الصهيوني بشكل يخدم كاملاً المصالح الإسرائيليّة * اتّخاذُ غزو العراق نقطةَ انطلاق لهزّ المنطقة كلّها بزرع نظام حليف يختلف تمامًا من النظام السابق؛ ولتأمين تدفّق البترول العراقيّ، والسيطرة على النفط وأسعاره ، وإعادة صياغة جهاز إدارته على المستوى العالميّ .
ولتحقيق ذلك كلّه وغيره ، كان لابدّ أن يُؤَمِّن “بوش” بقاءَ الجيش الأمريكيّ بالعراق للأمد الطويل ، وإضفاءَ شرعيّة دائمة لاحتلال العراق ، ليؤكد للشعب الأمريكيّ أوّلاً وللعالم كلّه ثانيًا أن مهمته بالعراق كانت ناجحة ولم تكن فاشلة كما يحسب كثير من المُحَلِّلِين ؛ فرغم الجدل الواسع الذي أثارته المعاهدة الاستراتيجيّة الأمريكيّة العراقية – الرامية إلى منح الاحتلال الأمريكيّ شرعيّةً دائمةً وبقاء الجيش الأمريكي في العراق للأمد الطويل المجهول – أعلنت وزارة الخارجيّة العراقيّة في 18/يونيو 2008م الماضي (الأربعاء: 13/ جمادى الأخرى 1429هـ) أنّ واشنطن وبغداد اتفقتا على توقيع المعاهدة قبل نهاية يوليو 2008م. والمعاهدة خطيرة للغاية بالنسبة للعراق وللمنطقة العربيَّة الإسلاميَّة كلّها ؛ حيث تستهدف تذليلَ كل العقبات أمام إنجاز جميع المشاريع والمُخَطَّطَات الأمريكيَّة الصهيونيَّة . وقد تضمنّت على وثيقتين ، أولاهما الاتفاق على حالة القوات ، الذي يشمل وضع القوات الأمريكيَّة بالعراق بعد نهاية العام الحاليّ . وذلك بعد انتهاء صلاحيّات قرارات الأمم المتحدة الخاصّة بذلك في نهاية ديسمبر 2008م. (ذوالحجة 1429هـ) ؛ وثانيتهما : معاهدة استراتيجيَّة متكاملة طويلة الأمد ، هدفُها إضفاءُ الشرعيّة على الوجود الأمريكيّ ، واستغلاله اقتصاديًّا وسياسيًّا ، وأمنيًّا وعسكريًّا.
والمُعَاهَدة – كما تَسَرَّب منها لحدّ الآن – تُرَكِّز – حسبما أفادت الزميلة المجتمع الكويتية – على ما يأتي :
- إقامة 50 قاعدة عسكريّة أمريكيّة دائمة بالعراق ، في أماكن تُحَدِّدها واشنطن حسبما تقتضي مصالحها الاستراتيجيّة .
- السيطرة الكاملة عسكريًّا على الأجواء العراقيّة وحتى ارتفاع 29 ألف قدم .
- حقّ القوات الأمريكيَّة منفردةً في العمل بالعراق ، واستخدام مجاله الجوِّيّ ومياهه الإقليميَّة، دون إذن مُسَبَّق من الحكومة العراقيَّة.
- إعفاءُ جنود أمريكا من المُسَاءَلَة القانونيَّة عن أيَّة جرائم ترتكبها بالعراق .
- حقُّ الشركات الأمريكيّة في التنقيب عن النفط بالعراق ، ونقل ملكيته للشركات الأمريكيَّة المُكْتَشِفَة ، دون مراجعة الحكومة العراقيَّة.
- حقُّ القوات الأمريكيّة في مطاردة واعتقال ومحاكمة المواطنين العراقيين ، دون إخطار، أو إذن من الحكومة العراقيَّة ، إضافةً إلى منحها حريّةً كاملةً في استجواب أيّ عراقيّ يتمّ اعتقالُه.
هذا ، وتسمح المادّة (80) من الدستور – التي صاغها الاحتلالُ الأمريكيّ للحكومة العراقيّة – بالتوقيع على مثل هذه المعاهدات ثم عرضها على المجلس النيابيّ .
والجديرُ بالذكر أنّه قد تَرَدَّدَ عبر وسائل الإعلام أن إدارة “بوش” خَصَّصَتْ 3 ملايين دولار – كرشوة مغرية – لكل نائب عراقيّ يوافق على المعاهدة .
والجديرُ بالتسجيل والملاحظة الخاصَّة أنّ الجهود الأمريكيّة تتكثَّف وتتواصل لتأكيد استمرار الأنشطة العسكريّة تكريسًا وإدامةً لاحتلالها – أمـــريكا – للعراق ، تتزامن مع تصاعد اتهامات مكثّفة تُوَجَّه لإدارة “بوش” بارتكاب جرائم حرب في السجون ومراكز الاعتقال الأمريكيّ بالعراق وأفغانستان ومُعْتَقَل “غوانتا نامو” بعد تصاعد الاتّهامات لها في مجال التعذيب ، وانتهاك حقوق الإنسان ؛ حيث تَعَرَّض المعتقلون للتعذيب والصعق الكهربائيّ والحرمان من النوم بجانب الإذلال الجنسيّ . وكما قالت الزميلة “المجتمع” كشف تحقيقٌ لمجلس الشيوخ الأمريكيّ عن إدراج أطبّاء نفسيِّين بالجيش الأمريكيّ ضمن قائمة من ساهموا في تنفيذ وتطوير أساليب تحقيق وحشيَّة مع المشتبه بتورّطهم في أعمال إرهابيّة . وشملت الأساليب بثَّ الرعب بكل الوسائل ، كاستخدام الكلاب أو إجبار المُتَّهَمِين على الوقوف عُرَاةً لفترات طويلة .
إنّ شريحةً كبيرةً من الشعب الأمريكيّ – الذي كان قد صَفَّقَ أوّلَ الأمر لبوش في كثير من سياساته الخرقاء التي أعمل بشأنها دعايةَ التضليل والتعتيم والخداع والحيلَ الشيطانيّة الكثيرة – انقلبت على “بوش” بعدما افتضح أمرُه ، وانكشفت الغبارُ عن حمار أخطائه الكبيرة ، التي انعكست سلبًا على كثير من المصالح الأمريكيّة ولاسيّما على الاقتصاد الأمريكيّ ؛ حيث أنفقتْ أمريكا على الغزو الأفغانستانيّ والعراقيّ بلايينَ الدولارات ، فانعكست بشكل مُبَاشِر مُكَثَّف على الميزانيّة المُخَصَّصَة للصحّة والتعليم والرخاء الاجتماعيّ. وشهدت قيمةُ الدولار الأمريكيّ انهيارًا خطيرًا على المستوى العالميّ لم يَشهده في الماضي ؛ من ثم حَرَصَ “بوش” المجنون بالحرب حرصًا شديدًا على إنجاز المعاهدة المشار إليها لتأكيد نجاحه في شأن الغزو العراقيّ واحتلاله للعراق وسيطرته على المنطقة العربيّة الواسعة وفتحه البوابةَ المُشَرَّعَةَ أمام تحقّق المصالح الصهيونيَّة الأمريكيَّة الواسعة التي مَنَّى بها شعبَه والشعوبَ الغربيَّة.
إنَّ الحربَ التي خَاضَهَها “بوش” ومن قبلُ أبوه “بوش الأب” لاستعباد العالمين العربيّ والإسلاميّ وتحقيق المطامع الصهيونيَّة الأمريكيَّة الصليبيَّة ، باسم الحرب على الإرهاب لن تضع أوزارَها – كما قَرَّرَ “بوش” – إلاّ بإقامة الدولة الصهيونيّة العُظْمَىٰ فيما بين النيل والفرات ؛ وبالسيطرة الكاملة على النفط العربيّ ، وعلى جميع خيرات الدول الخليجيّة ؛ وبالهيمنة الشاملة على مقاليد الحكم والإدارة في البلاد العربيّة ؛ وبإنهاء عمليَّة إذلال العالم الإسلاميّ كله وجعله رهنَ إشارة الصهيونيَّة العالميَّة والصليبيَّة المُتَصَهْنِيَة.
واحتلالُ العراق وأفغانستان الدائم كان نقطةَ انطلاق إلى هذا الجانب ؛ ولكنّ “بوش” بحكمة الله وقدرته لازال فاشلاً في تحقيق ما كان قد حَلَمَ بـه من تحقيق أهداف الغزو ، أو بناء شرق أوسط جديد ؛ من هنا يسعى حثيثًا لعقد تحالف استراتيجيّ أمنيّ ، يتظاهر به أمام الشعب الأمريكيّ أوّلاً وأمام شعوب العالم ثانيّا أنّه قد حَقَّقَ قدرًا من النجاح ، مما قد يجعل الإدارة الأمريكيّة الجديدة التي تكاد تخلف إدارتَه أن يستمرّ في نفس النهج الذي ظلّ ينتهجه .
في ظلّ الخنوع والاستسلام الذي تعيشه القيادةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ اليومَ ، بالإمكان أن تتحقّق جميعُ خُطَط الأعداء ولاسيّما التحالف الصهيوني الصليبيّ الماكر؛ ولكنَّ الله العزيزَ القويَّ يُفْشِلُهم من حيث يحتسبون أنهم قد نجحوا أو كادوا ينجحون . وأَحْيَىٰ مثالٍ لذلك أفغانستان التي احتلّتها أمريكا قبل العراق ، وأَمْطَرَتْها بجميع الويلات ، وأَمَّنَتْ حيلتَها لتدميرها عن آخرها ، وكانت قد تأكّدت أنها قد كسبت النجاحَ كاملاً ، وتكاد تجني جميع الأرباح والمكاسب التي مَنَّتْ بها نفسَها لدى تخطيطها فغروها فاحتلالها لأفغانستان .
ولكنّه بعد مُضِيِّ هذه السنين من الاحتلال، تكاد لاتَجْنِي أيَّةَ فائدة من وراء مُهِمَّتِها ؛ فقد أَكَّدَتْ وسائلُ الإعلام كلُّها أنّ خسائرها – أمريكا – في أفغانستان تتجاوز مثيلتَها في العراق . ذكرت صحيفةُ “التايمز” البريطانيَّة أنّ عدد جنود قوّات تحالف الاحتلال الذين قُتِلُوا في أفغانستان تَجَاوَزَ، للمرة الأولى حصيلةَ قتلاه في العراق خلال شهرين متتاليين: مايو – يونيو . وقالت: إنّ 44 جنديًّا من بريطانيا وأمريكا ودول التحالف الأخرى قُتِلُو في المعارك الدائرة بأفغانستان ضدّ حركة طالبان خلال شهر يونيو الماضي ، بالمقارنة مع 31 سقطوا في العراق . وإنّ هذه الحصيلةَ تُعَدُّ لافتةً ؛ لأنّ عدد قوّات التحالف المنتشرة في العراق يبلغ ثلاثةَ أضعاف عددها في أفغانستان . وذكرتِ الصحيفةُ أنّ الحصيلةَ الشهريَّةَ لضحايا قوّات التحالف في أفغانستان تجاوزتْ للمرة الأولى نظيرتَها في العراق خلالَ شهر مايو الماضي، ثم يونيو، وقالت: إنّ الأرقامَ الجديدة حولَ ضحايا العمليّات القتاليّة في العراق وأفغانستان تشير إلى أنّ الأوضاعَ في الدولتين تتحركان باتجاهين مختلفين .
إنّ أمريكا كانت قد تصوّرت أفغانستان أسهل لقمة من العراق ؛ ومن ثم ابتلعتها أوّلاً لتكون تمهيدًا وتدريبًا لها على ابتلاع العراق ؛ ولكنّها لاتزال تجدها صخرةً صمّاءَ أمامَ ضرباتها المُتَتَالِيَة التي تكاد بإذن الله تضيع هدرًا، وتكاد لاتُلِيْنُ قناةَ الأفغان الأُبَاة الضيم الصامدين في وجه الاحتلال البعيض الذي إنما غزاهم لأنهم مسلمون مُتَصَلِّبُون في دينهم وعقيدتهم .
وإنّ الله لقادرٌ أن يخزي أمريكا وحليفاتها في العراق كما يخزيهم باستمرار في أفغانستان. والدلائلُ لحدّ اليوم تشير إلى ذلك. “وَاللهُ غالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِه وَلـٰـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لايَعْلَمُونَ” (يوسف/21).
“وَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ الله واللهُ مع الصّـٰـبِرِيْنَ” (البقرة/249) .
“وَيَمْكُرُوْنَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِيْنَ” (الأنفال/30) .
( تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الأحد : 16/7/ 1429هـ = 20/7/2008م )
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1429هـ = أغسطس 2008م ، العـدد : 8 ، السنـة : 32