بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
بعضُ الناس يتصدقون لصالح أمواتهم في كل موسم بأشياء موسميّة، ولاسيّما بما كان يرغب فيه الأموات، وربّما يتورّط في ذلك المُثَقَّفُون كذلك، وأبعدوا في هذا الشأن، واستدلّوا لصنيعهم بقوله تعالى:
“لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّوْنَ” (آل عمران/92). وقالوا: إن إنفاقَ المحبوب لدى الإنسان مُطَالَبٌ به في الشرع، فأيُّ حرج في أي يُنْفَق ويُتَصَدَّق بما كان يحبّه الأمواتُ في حياتهم. فأقول: إنّه تعالى قال: “مِمَّا تُحِبُّونَ” ولم يقل: “ما يُحِبُّونَ” فالمُتَصَدِّق ينبغي أن يَتَصَدَّق بما يُحِبُّه هو لا بما كان يُحِبُّه الأمواتُ. والسِرُّ في ذلك أنّ مِحْوَرَ الفضيلة الإخلاصُ، والإخلاصُ إنّما يتوفّر في إنفاق ما يحبّه الإنسانُ نفسُه، ولايتوفّر في إنفاق ما يُحِبُّه غيرُه. وذلك كان تنفيدًا لمُسْتَدَلِّهِم .
إنّما يصل إلى الأموات ثوابُ ما نتصدَّق به
والآن نُبَيِّن ما يَتَّضِح به أنّ الأمواتَ لايصلهم الأشياءُ التي نتصدق بها بعينها، وإنّما يصلهم ثوابُها. يقول تعالى: “لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُوْمُها وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلـٰـكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ” (الحج/37) فدلَّتِ الآيةُ دلالةً صارخةً أن اللهَ لايصله ما نُضَحِّي به من الحيوانات بلحومه ودمائه وإنما يصله الإخلاصُ منّا، وذلك الذي يضمن لنا الأجرَ والثوابَ. وذلك الأجرُ نفسه يصل الأمواتَ عندما نُضَحِّي بالحيوانات من قِبَلِهِمْ، أو نَتَصَدَّق بشيء لصالحهم وننوي إيصالَ ثوابه إليهم .
الأشياءُ المُتَصَدَّق بها لاتصل الأمواتَ
أساسُ الإصرار على التصدُّق بما كان يحبّه الأمواتُ إنما هو الاعتقادُ بأن عينَها تصلهم، وأنهم لو كانوا أحياءَ اليوم لتناولوها وأصابوا منها؛ فلما ماتوا ولم يعودوا أحياءَ، فلابدَّ أن يُتَصَدَّقَ بها حتى تصلهم !.
والأصلُ أننا لانستحضر في أذهاننا نِعَم الجنة، ولو اعتقدنا بأنّ الأموات يَحْظَوْنَ الآن بنعيم الجنّة، لما تحسّرنا على أن نِعَمَ الدنيا قد فاتتهم ؛ لأنها ليست من نعم الجنّة في شيء. وقد قال عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – ما معناه أن ما ذكره الله تعالى في كتابه من نعم الجنة من النخل والرمّان وغيرهما لايجوز قياسه بنعم الدنيا ونخلها ورمّانها، فالاشتراك بينهما إنما هو في الاسم وليس في الحقيقة؛ لأن نعم الآخرة شيء فوق الحسبان. ومثالُ ذلك ما رُوِيْنَا أنّ أمير “محمود آباد” أقام لنائب الملك الإنجليزي (VICEROY) مأدبة كان من محتوياتها رُمَّانٌ كَلَّفَ إعدادُه مِئَتَيْ روبيّة(1)؛ فكان يشابه الرمانَ صورةً واسمًا ؛ ولكنه كان يختلف عنه حقيقةً.
وقد قال تعالى:
“قَوَارِيْرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا” (الإنسان/16) أي يكون في الجنة زجاج من فضة أي يشابه نعمَ الدنيا في الاسم فقط، وإلاّ فإن في الجنة فضةً يخترقها العيون نظرًا، ولا ترتقي إليها فضة الدّنيا أبدًا . فتتمنّى أن لو كان الأمواتُ في دنياك، والأمواتُ يَتَمَنَّوْنَ أن لو كنتَ في آخرتهم . لا أدري لماذا تجعل نِعمُ الدنيا الناسَ يُغْرَمُون بها ويُفْتَنُون.
ونعمُ الجنّة قد ذكرها الحديثُ بما معناه أن حورَها على رؤوسهن أرديةٌ لو أنّ جانبًا منها تَدَلَّى إلى الدنيا لتضاءلت أمامه الشمس والقمر، وأما حورُها فيشفّ عن أجسامهن سبعون حلّةً يرتدينها، وترابُها من المسك واليواقيت .
وجاء في التعريف بحوض الكوثر: “من شَرِبَ منه شربةً لايظمأ بعدَها أبدًا” والمهمُّ أن الناس سيرغبون فيه دونما عطش أيضًا. أما مياهُ الدنيا فالناس لايرغبون فيها إلاّ لدى العطش، وبدونه لايلذّونها. ومياهُ الجنة يزول بها العطشُ للأبد بعد شربها مرة واحدة، وتحصل بها اللذةُ دونما عطش. دُلَّنِي على ماء في الدنيا يحمل هذه المزايا. وقس على ذلك نعمَ الدنيا كلها بالنسبة إلى نعم الجنّة، إن المماثلة بينهما في الاسم فقط؛ فالتمني أن لو كان أعزاؤنا الأموات في الدنيا وتمتعوا بنعمها حماقةٌ أيُّ حماقة، ولو وضعتم هذه النعم الدنيويّة أمامهم لربّما تقيّؤوا منها.
تفنيد الاعتقاد بأن نجاة الآخرة تفوق خِيَارَنا
وهذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا ويخالف النصَّ تمامًا. ورغم هذه المخالفة للنصّ، الناشئة عن الجهل، لانفتي بكفرهم؛ ولكنَّهُ الجهلُ الشديدُ بالنَّصِّ الذي يُصَرِّح بأنَّ دخولَ الجنَّة تحت خيار العبد. يقول تعالى:
“سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ” (الحديد/21) .
ففي الآية أمرٌ بالمسابقة إلى الجنّة، ولو لم يكن دخولُ الجنة في اختيارنا لما قيل: “سَابِقُوا” فعُلِمَ أنه تحت خيارنا؛ لأن الله لايُكَلِّف العبدَ إلاّ الأمورَ الاختياريّةَ، ولا يُكَلِّفه الأمورَ غيرَ الاختياريّة؛ فالنصُّ القرآنيُّ يقولُ:
“لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا” (البقرة/286).
وقد يقول قائل: إنّنا لانرى الجنّة والنارَ؛ حتى نَثِب إلى الجنة أو نقفز من النار أو نتباعد عنها متسارعين؛ فكيف نسابق إلى الجنة؟!.
فاعلموا أن الفعل الاختياري له معنيان: أن يكون اختياريًّا بدون واسطة وبشكل مُبَاشِر كأكل الطعام وكشرب الماء؛ وأن يكون اختياريًّا بالواسطة أي بشكل غير مُبَاشِر؛ بحيث تكون أسبابُه اختياريّة، كالوصول من مدينة إلى أخرى؛ حيث لايتم الوصول ههنا بالوثوب أو القفز من مدينة إلى أخرى؛ ولكنّه اختياريّ بمعنى أن أسبابه ووسائله اختياريّة؛ حيث إذا قطع المسافةَ بين المدينتين وصل من إحداهما إلى أخرى. وإذا تأمّلنا وجدنا أنّ مُعْظَم الأفعال إنما هي اختياريّة بهذا المعنى، مثلاً ولادةُ الأولاد بعد النكاح، واكتسابُ الحاصلات بعد الزراعة، واكتسابُ الأرباح عن طريق التجارة، كلُّ ذلك أمور اختياريّة؛ ولكنها ليست اختياريّة بمعنى أن تُحقِّقها متى تشاء وبدون واسطة ؛ نعم، إنّها اختياريّة بمعنى أن الوسائل المُؤَدِّيةِ إليها اختياريّة، مما يُرَجِّي أنّ المُسَبَّبات ستتحقّق بهذه الأسباب.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1429هـ = أغسطس 2008م ، العـدد : 8 ، السنـة : 32
(1) ومائتا روبية في حياة الشيخ التهانويّ رحمه الله قد تعادلان اليوم 1429هـ/2008م عشرين ألف روبيّة أو أكثر. (المترجم)