دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور أحمد محمد كنعان
أذكر أن أوّلَ مالفت انتباهي شخصيًّا لمسألة الخوارق ما شاهدتُه في بيت أحد أصدقائي؛ فقد شاءت حكمةُ الله عز وجل أن يرزق هذا الصديقَ بثلاثة أولاد أسوياء الخلقة، فقد حباهم الله بجمال ونضارة قلّ مثيلُها بين البشر، ثم شاءت حكمتُه سبحانه أن تلد زوجةُ الصديق طفلةً لم تكن على هيئة البشر، بل كانت مسخًا أقربَ في شكلها وتكوينها إلى هيئة بعض الحَيَوَان.. فخُيِّلَ إليَّ وقتذاك أنّ ولادة الطفلة على تلك الهيئة يُمَثِّل خرقًا للسنن، التي تتحكّم في خلق وتصوير الجنين البشري.. غير أنني – بعد دراستي لعلم الجنين ومعرفتي بالتشوّهات، التي قد تطرأ على الأجنة أثناء تخلّقها – عرفتُ أن المسخَ لايُمَثِّل خرقًا للسنن التي تحكم نموَّ الأجنة، وإنما هو يحدث من تأثير عوامل خارجيّة تُعِيق عمليّةَ الخلق والنمو.. وقد أصبح الكثيرُ من هذه العوامل معروفًا اليومَ للأطبّاء وعلماء الأجنة(1) الذين أصبحوا قادرين – بإذن الله – على درء كثير من التشوّهات الجنينية نتيجةً لهذه المعرفة .
والواقع.. أنّ معظم مانشاهده في حياتنا من خوارقَ هو من قبيل هذه الحادثة التي ذكرناها.. أي أنّ معظم الخوارق التي نراها لاتُشَكِّل خرقًا حقيقيًا للسنن، وإنما هي تحدث نتيجةَ أسباب قد تخفى علينا، وقد نعلمها.. ونستعرض فيما يلي أشهرَ الخوارق التي عرفها البشرُ لنبين علاقتَها بالسنن التي فطر الله عليها أمورَ خلقه!
1– المعجزة
والمعجزة “أمرٌ خارقٌ للعادة، داعيةٌ إلى الخير والسعادة، مقرونةٌ بدعوى النبوة، قُصِدَ بها إظهارُ صدق من ادّعى أنه رسول من الله”(2) وكما هي الحال في الإرهاص، فإنّ المعجزات مرتبطةٌ بزمن الأنبياء كذلك .. وتقوم الحجةُ في المعجزة على أساس من ثبات السنن، التي فطر اللهُ عليها أمورَ الخلق، فلولم تكن السننُ ثابتةً، لما كان في الخروج عنها إعجازٌ ولاحجةٌ، وإنما كانت الحجةُ في المعجزة لأنّها تأتي بما لم يألفه البشرُ، وما لايمكن الإتيانُ بمثله، إلا من قبل نبيّ مرسل، مُؤَيَّد من الله عزو جل، الذي خلقَ السنةَ أصلاً وأوجدها.
وقد كانت المعجزاتُ كثيرةً في حياة الأنبياء عليهم السلام، ولاتكاد تخلو سيرةُ نبي من ذكر المعجزات، التي أجراها اللهُ على يديه، ونذكر من ذلك عصا سيِّدنا موسى عليه السلام، التي انقلبتْ حيّةً، وابتلعتْ حبالَ سَحَرَةِ فرعونَ وعصيَّهم..
ومن المعجزات كذلك إنزالُ مائدة من السماء على قوم سيدنا عيسى عليه السلام، وإبراؤه للأكمه والأبرص والأعمى، وإحياؤه الموتى.. كلُّ ذلك بإذن الله.
ومن المعجزات التي جرتْ على يدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إنطاقُه للشجر، وتكليمُه ذراعَ الشاة المسمومة، وتفجّرُ الماء من بين أصابعه .. وغيرُها كثيرٌ مما جاء في كتب الحديث والسيرة .
ولاشكَّ أنَّ معجزتَه الخالدةَ الباقيةَ على الزمن هي القرآن الكريم.
2- الأرهاص
ومن الحوادث الخارقة التي ذكرتْها كتبُ السيرة “الإرهاصُ”، وهو حدوثُ أمر خارق للعادة، يدلّ على بعثة نبي قبل بعثته.. ومن الإرهاصات التي سبقتْ بعثةَ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تلكُ البركات التي ظهرتْ لمرضعته حليمةَ السعديةِ، بعد أن ذهبتْ إلى قريش لتسترضع ولدًا، فلم تجد غيرَه صلى الله عليه وسلم .
ومن الإرهاصات التي سبقتْ بعثةَ صلى الله عليه وسلم أيضًا حادثةُ شقّ صدره الشريف، وفيها “إن نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يارسول الله أَخْبِرْنَا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوةُ أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأتْ أمي حين حملتْ بي، أنه خرج منها نورٌ أضاء لها قصورَ الشام، واسْتُرْضِعْتُ في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لي خلفَ بيوتنا نرعى غنمًا لنا، إذ أتاني رجلان عليهما ثيابٌ بيضٌ بطست من ذهب مملوءة ثلجًا، ثم أخذاني فشقّا بطني، واستخرجا قلبي فنقّاه، فاستخرجا منه علقةً سوداءَ، فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه”(3).
والإرهاصاتُ في حياة الأنبياء عليهم السلام معروفةٌ وكثيرةٌ .
3- الكرامة
والكرامة كالمعجزة من حيثُ أنها أمرٌ خارقٌ للعادة، خارجٌ عن مألوف البشر، إلا إنها غير مقترنة بدعوى النبوة، وغير مرتبطة بزمن النبوات؛ فهي خوارقُ يجريها الله عزوجل على أيدي بعض عباده وأوليائه الصالحين تكريمًا لهم، وبشارةً على تقواهم وصلاحهم.. ونذكر من الكرامات التي حكاها القرآنُ الكريمُ، أمرَ السيِّدة مريمَ عليها السلام التي نذرتها أمُّها لخدمة بيت المقدس ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَها زَكَريّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيها زَكَريّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَال يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يرزقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران37) والكرامةُ هنا هي ماخصّ الله عز وجل به السيدةَ مريمَ عليها السلامُ، بأن كان يرسل إليها الرزقَ الوافرَ، وهي في خلوتها، حتى إن سيِّدنا زكريا عليه السلام كان يستغرب وجودَ ذلك الرزق عندها، وهو يعلم أنه لا أحدٌ يدخل عليها غيره.
وقد أورد الإمامُ النوويُّ رحمه الله في كتابه “رياض الصالحين” أحاديثَ عديدةً عن الكرامات في “باب كرامات الأولياء وفضلهم” ختمه بقوله: “وفي الباب أحاديثُ كثيرةٌ صحيحةٌ سبقتْ في مواضعها من هذا الكتاب، منها حديثُ الغلام، الذي كان يأتي الساحرَ والراهبَ، ومنها حديثُ جُرَيْج، وحديثُ أصحاب الغار، الذين أطبقتْ عليهم الصخرةُ، وحديثُ الرجل الذي سَمِعَ صوتًا في السحاب يقول: اسقِ حديقةَ فلان، وغير ذلك، والدلائلُ في الباب كثيرةٌ مشهورةٌ”.
وهذه كلُّها دلائلُ على أن اللهَ عزوجل قد يخرق السنةَ كرامةً لأوليائه، وهذا الخرقُ غيرُ مرتبط بزمان ولامكان، وغيرُ مرتبط كذلك بإرادة العبد الصالح نفسه، وإنما هو مرتبطٌ أولاً وأخيرًا بإرادة الله ومشيئته وحكمته.
4- السحر
والسحرُ (لغةً): هو كلُّ أمر يخفى سببُه، ويُتَخَيَّل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع.. وقد فَصَّل بعضُ أهل العلم في أنواع السحر فذكروا منها: التمائمَ، والشعوذةَ، وتسخيرَ الجنّ، واستخدامَ الأدوية والأبخرة، وغير ذلك من الأساليب، التي يلجأ إليها السَحَرَةُ عادةً.. ولا نريد أن ندخل في تفصيلات هذه الأساليب، نظرًا لطبيعة بحثنا هذا من جهة، ونظرًا لاختلاف العلماء حولَ حقيقة هذه الأساليب، وتأثيرها من جهة أخرى.. لكنّ الذي نريد أن نناقشه الآنَ هو تلك الحوادثُ من خداع البصر الذي يبدو خارقًا للعادة التي تجري على أيدي بعض السَحَرَة، سواء منهم من يفعلون ذلك بقصد الإمتاع في الحفلات وغيرها، أو الذين يفعلون ذلك لأغراض أخرى كالوقيعة بين الناس.. والظاهرُ من نصوص القرآن الكريم أنّ فعلَ السَحَرَة لايعدو أن يكون خداعَ بصر، ولنستمع إلى وصف الحقّ تبارك وتعالى لما جاء به سحرةُ فرعونَ، وهم أمهرُ السحرةِ على مرِّ التاريخ: ﴿قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى. قَال بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سَحْرِهِم أَنَّها تَسْعى﴾ (طه65-66) وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْترهَبُوهم وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ (الأعراف116) فلم يكن سحرُ السَحَرَةِ إذن غيرَ تَخْييلٍ ﴿يُخَيَّلُ إِليْه مِنْ سِحْرِهِمْ..﴾ ولم يكن غيرَ خداع لأبصار المشاهدين ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ..﴾.
والفرقُ كبيرٌ مابين التخييل والوهم والخداع، وبين الحقيقة، وهذا ما أثبتته بقيةُ القصة حين ألقى موسى عليه السلام عصاه ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَاكانُوا يَعْملون﴾ (الأعراف 117-118). فإن ماجاء به موسى عليه السلام كان معجزةً من الله عزوجل.. كان حقيقةً لا وهمًا.. كان خرقًا حقيقيًّا للسنن، فقد انقلبتِ العصا الجامدةُ إلى حيّة تَدِبُّ على الأرض، وتتحرك وتبتلع حبالَ السَحَرَة وعصيَّهم! ولما كان سحرةُ فرعونَ يعلمون طبيعةَ السحر، فإنهم لم يتمالكوا وهم يرون المعجزةَ إلا أن يَخِرُّوا سجّدًا لله، ويعلنوا إيمانَهم بما جاء به موسى لأنهم – وهم أهل الصنعة – قد أيقنوا أن ماجاء به لايمكن لبشر أن يأتي به، إلا أن يكون مُؤَيَّدًا من الله، الذي خَلَقَ الخلائقَ وَقَدَّرَ السننَ.. فهو وحدَه سبحانه القادرُ على خرقها، وأما السحرةُ فإن دأبَهم التمويهُ والخداعُ .
ونلاحظ من خلالِ عرضِ هذه الخوارقِ الخارجةِ عن مألوف البشر أنّها ليست خوارقَ مطلقةً؛ فهي غيرُ قابلة للحدوث في كل زمان ومكان، بل هي مُقَيَّدَةٌ بظروف..
* فالمعجزاتُ والإرهاصاتُ مرتبطةٌ بعصر النبوّات، ومادام عصرُ النبوّات قد اختتم ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا معجزات ولا إرهاصَ إذنْ بعد ذلك.
* وأما السحرُ فإنّ أغلبَه من باب التخييل والخداع، وهو لايُعَبِّرُ عن خرق للسنة كما بينّا آنِفًا.. وإنّ أحوالَ الذين يمارسون السحرَ لتدل على طبيعة أفعالهم، فالسحرُ لايصنعه إلا الفُسَّاقُ والكفارُ، وأما المؤمنون فهم أبعد الناس عن فعل السحر، وبخاصة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ منه، وَعَدَّهُ من الكبائر.
* وتبقى “الكرامةُ” هي الخارقةُ الوحيدةُ، التي قد يداخلها بعضُ الالتباس، إذ قديلجأ بعضُ أصحاب النفوس الضعيفة، والنوايا الخبيثة، لادِّعاءِ ظهورِ بعضِ الكرامات على أيديهم، بقصد الوصول إلى مكاسبَ مُعَيَّنَة، أو تحقيق مآرب شخصيَّة دنيئة، وهذا ما حصل في العصور الإسلاميّة المُتَأَخِّرة في صفوف غُلاَة الطرق الصوفيّة، وأصحاب الدعوات الباطنية الباطلة، وكثيرًا ما نشاهد هؤلاء يعقدون الجلسات الخاصة، ليعرضوا مهاراتِهم في الإتيان بخوارقَ مختلفة، يَدَّعون أنّها كراماتٌ من الله عزوجل.
والحقيقةُ أنّ العبدَ الصالحَ الذي يخصّه الله عزوجل بكرامة من عنده، يغلب عليه أن يداري هذه الكرامات عن غيره من الناس، مخافةَ أن يحبط الله عملَه، فهو أشدُّ حياءً بالكرامة من البنت في خدرها، كما يقولون، بينما نجد أدعياءَ الكرامات يفاخرون بها، ويذيعون أخبارَها للقريب والبعيد لكي يُحَقِّقُوا من وراء ذلك أغراضَهم ..
ويُحَتِّم علينا هذا البيانُ أنّنا كلما رأينا خارقةً من الخوارق أو سمعنا خبرًا من أخبارها أن نعرضها على كتاب الله، وسنة رسوله، فإنْ وافقهما قبلناها منه، وعَدَدْنَاها كرامةً، وإنْ وجدناه غيرَ ذلك لم نقبل منه، وعددناها نوعًا من السحر أو الاستدراج .
* ونخلص من حديثنا عن الخوارق إلى أنّها تُعَدُّ استثناءً لا قاعدةً، لأن القاعدةَ في سنن الله في الخلق هي الثباتُ، وأما هذه الخوارقُ فهي استثناءاتٌ.. ولهذا ينبغي أن نضعَها في موضعها الصحيح من حركة الكون، لا أن نجعلها الأصلَ في تعاملنا مع الكون من حولنا.. ونحن مُسْتَخْلَفُون في الأرض بناءً على هذا الأصل، وأعني به ثباتَ السنن على الهيئة التي قَدَّرَها اللهُ عزوجل، يومَ أن خلق السماوات والأرض، كما أننا مُحَاسَبُون على تصرفاتنا بالعالم المحيط بنا، بناءً على هذا الأصل كذلك.
ويجب أن نؤمن يقينًا أنّنا لايمكن أن نستفيد من ذخائر هذا العالم أو نُسَخِّرها في شؤوننا إلاّ من خلال معرفتنا الدقيقة بالسنن، التي تحكمها، وأما التطلّعُ إلى الخوارق، والتعاملُ مع الأحداث من خلالها فلا يُجْدِي فتيلاً، لأنّها كما قَدَّمْنَا ليستْ هي القاعدةَ في بناء هذا العالم، وليست هي التي تحكم مسيرةَ الحضارة والبناء، وإنما يحكم ذلك الجهدُ الواعي، والبحثُ الدؤوبُ، الذي يهدف إلى كشف سنن الله في الخلق، والعمل على تسخيرها فيما يستهدف خيرَ البشريّة وصلاحَها.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1429هـ = أغسطس 2008م ، العـدد : 8 ، السنـة : 32