الفكرالإسلامي
بقلم : أ. د/ عبد الرشيد عبد العزيز سالم
﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِيْنٌ﴾:
لايستطيع الناظر في الأديان السماوية أن ينكر موقفَ الإسلام المتميز من الإنسان .
فهو أكرم المخلوقات وأشرفُها عند الله بلا حسب ولا نسب ولا جنس ولا عرق ولا لون. وهو أعلاها مكانةً إنْ جَمَع خصال الخير، وأهمُّها بالرعاية والعناية إن أحاطت به واجتمعت عليه ألوانُ الشر، لايُتْرَك نهبًا للظنون والأوهام، كما لايُقْهَر على شيء حتى في العقيدة، لأنه في حقيقته كائن لاهو بالملاك ولا بالشيطان، وإن كان قادرًا في بعض حالات الهبوط أن يصل إلى درجة الشيطان من الشر.
وفي بعض حــالات الإيمــان والرقي أن يسمو بروحه إلى مستوى الملائكة من الطهر؛ ولكنــه حتى حالتـــه الطبيعيـــة شيء بين هذا وذاك ، مشتمل على الخير كما هو مشتمل على الشر، وليس أي العنصرين غريبًا عن طبيعته ولا مفروضًا عليه من خارج نفسه ؛ لأن نفسه مركبة من العنصرين معًا، وهو بهما إنسان مقبول في الإسلام .
لذلك كانت توبةُ التائب تطهيرًا له وتغليبًا لعنصر الخير على عنصر الشر، وكانت مكانته عند الله وفي نظر الإسلام بعد التوبة مكانة الواصل بعد عناء، المهتدي بعد ضلال، المضيء بعد ظلمة، لا تنقلب آثار الماضي عليه، ولا يظل حبيس ما قَبْلَ توبته، يُنْظَر إليه بمقدار ما وصله من تبليغ وعلم وعمل، ويُسْأل في حدود هذه الدوائر الثلاث ولايطالب عدلاً بغيرها.. لهذا رفض الإسلامُ الرهبانية أو التشكل بها؛ لأنها تمردٌ على نوازع الجسد ومحاولة لتطهير الروح؛ لتكون خليقة بالدخول في ملكوت الله والانسلاخ عن حاجات الدنيا، والإسلام يعتَبِر ذلك اختلالاً غير متوازن، يُعَطِّل أهدافَ الحياة، ويُعذِّب الفرد في سبيل غايته، وهي وإن كانت سامية إلاّ أنها غير عادلة بالنسبة للفرد والمجتمع والحياة التي استخلف اللهُ فيها هذا الإنسانَ ليقوم بها عاملاً فيها ومُسخِّرًا لها ومسيطرًا عليها، لايؤخذ بِوِزْرِ غيره فردًا أو جماعة، دولة أو أمة .
قال تعالى: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رِهِينٌ﴾ الطور: آية 21.
وقال تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ البقرة: آية 134.
وقال تعالى: ﴿لاَيُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ البقرة: آية286.
وقال أيضًا: ﴿وَأَنْ لّيسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُرىٰ﴾ النجم: الآيتان 39، 40.
ويقول: ﴿فَمَنْ يَّعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَّرَه * وَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَّرَه﴾ الزلزلة: الآيتان 7، 8.
ويقول سبحانه: ﴿ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ الحج: آية 10.
ويُعْجِبُني قولُ الأستاذ محمد قطب حول هذا المعنى: “إن الإسلام يكره فقدان التوازن ولو كان إلى أعلى، لأنه يحرص على أهداف الحياة العليا، التي لا تتحقق بغير الاستجابة لنوازع الأرض وكل ما يعمل الإنسان ويهدف إليه هو تنظيف الوسائل التي يستجيب بها الفردُ لنوازعه حتى ترتفع الحياة كلها وتصبح كريمة جميلة، خليقة بمعنى التكريم الذي أسبغه الله على الإنسان”(1)، وليس أصدق دلالة على هذا التوازن من موقف الإسلام من الأمم السابقة عليه – ومن أتباع رسلها – في صلاحهم وفسادهم، في يقينهم وتمردهم، في التزامهم بالحق والخروج عليه، فهم مسؤولون عن ذلك حسب أزمانهم ورسالات رسلهم إليهم، لاينتقل أثرهم إلى غيره، كما لاترتد إليهم عقائد غيرهم، هم مرهونون بما بُلِّغوا من رسالات، وما أوتوا من علم، وما قدموا من عمل.
وقال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَينَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَيُظْلَمُونَ﴾ يونس: آية 47.
ويقول تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رٍَسُولاً﴾ الإسراء: آية 15.
وقال سبحانه: ﴿رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وُمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ النساء: آية 165.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ النحل: آية 36.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلىٰ فِرْعَونَ رَسُولاً﴾ المزمل: آية 151.
﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلين﴾ الأعراف: آية 6.
وليس في الإسلام قهر للطبائع البشرية، كما ليس فيه إغفال لنوازع النفس، إنه يرتقي بهذه الطبائع دون قهر لها، ويسمو بهذه النوازع ولا يحاول القضاء عليها، أباح شهوة الطعام وشهوة الجنس وشهوة الاستمتاع بطيبات الحياة في وضوح وصراحة، وجعل الاستمتاع بها في حدودها المرسومة وطرقها المشروعة عبادة. كما جعل ضبطها والاتزان فيها والاعتدال في تناولها طهرًا ونقاء.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ المؤمنون: آية 51.
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ الأعراف: آية 32.
﴿إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ الكهف: آية 7.
﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوا فِيهِ فَيحِلَّ عَلَيكُمْ غَضَبِي﴾ طه: آية 81.
وقد حرص الإسلام على بيان قيمة هذا الإنسان، فأوضح منازل تكوينه وكيفية خلقه، وعرض صورته المثلى التي بها رفعه الله على مخلوقاته ، وصورته الدنيا التي بها يهبط إلى الدرك الأسفل من الكائنات ، فلم يكن في هذه ولا تلك مغاليًا ، وأحاط بالإنسان المكوَّن من جسم وعقل وروح ، وأعطى لكل مكوَّن منها دوره وقيمته في الحياة ، وقرر أن مطالبه حقيقة بالاستجابة إليها صريحــة من غير إسراف ولا تقتير من غير قهر ولا تبذير، فالجسد بما فيه من لحم ودم، ونوازع فطرية، وشهوات جامحة، هوالمطالب بحفظ الحياة على الأرض، والمحافظة على الذات وعلى النوع – ووسيلة ذلك هي الطعام والشراب والكساء والتناسل – وقد جعلها الإسلام حقًا لكل كائن ، وجعل للمسلم فيها خيار الوصول إلى حـلالها وأعظم طيباتها بالعمل والكفاح والرقي النفسي.
قال تعالى: ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِين﴾ الجاثية: آية 16.
وقال أيضًا: ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ الحجر: آية 20.
وقال سبحانه: ﴿لِيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقَا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ﴾ الحج: آية 58.
فالرزق من الحسن والطيب الحلال منه وأحسن ما فيه مباح للإنسان لا قيد عليه ولا حرج في العمل من أجله والكفاح في سبيله؛ لأنه من متطلبات الجسد وضرورة من ضرورات البقاء، وتحقيقه إرضاء لنزعة من نوازع الجسد العنيفة الملحة التي يستحيل عدم الاستجابة إليها، فإحساس الجوع والعطش إحساس عنيف لايمكن السكوت عليه. وذلك سر من أسرار الوجود ولتبقى الحياة مستمرة، وليستمر الإنسان الفرد فيها محافظاً على ذاته ممتدًا بوجوده ما شاء الله له وللأجيال من بعده ..
وقرن الله هذه النزعة – نزعة الطعام والشراب والكساء – بالعقل، وجعله المهيمنَ عليها حتى يتم تحصيلها عن طريق التدبر والتفكر، الذي هو نتاج العلم والمعرفة التي بها يتحق التقدم والرقي، وتنتقل الدنيا من حالة إلى حالة، ويتفاضل فيها الناسُ بمقدار ما وصلوا إليه من فسحة لهذا العقل أو ضيق، وتتحقق لهم منازل القرب من ربهم بمقدار علمهم المصحوب بالعمل الصادق من أجل الحياة والإحياء. ويبتعدون عنه بمقدار جهلهم وسوء عملهم، وسيطرة النوازع غير المحكومة بالعقل عليهم.
قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّه لاَ إِلـٰـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ آل عمران: آية 18.
ويقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فاطر: آية 28.
ويقول: ﴿وَلَو بَسَطَ اللهُ الرِّزقَ لِعِبَادِه لَبَغَوا فِي الأَرْضِ وَلـٰـكِنْ يَّنْزِلُ بِقَدْرٍ مَّا يَشَاء إِنَّه بِعِبَادِه خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ الشورى: آية 27.
وقال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثـُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾ الأنبياء: آية105.
وقد جعــل الله في الإنسان قوة حار فيها العلم ووقفت دونها مـدارك البشر، هي قوة الروح التي منها يستلهم النور الذي لاتراه الحواس ولا يدركه العقل . ولكنه بواقع الحياة ومشاهداتها موجـــود . يسمو بــه الإنسانُ ويرتقي على نوازعـــه ويأخذ منه الكائن البشري المتميز ما يعينه على تحقيق أهداف الحياة، التي لايمكن تحقيقها بالطعام والشراب والكساء، والتي تصقل الجسد فتجعله قادرًا على تحمل ألوان الآلام والصراعات والضيق والعذاب، وتدفعه إلى تسخير مقدراته الكامنة فيه للوصول إلى الغايات العليا في هذه الحياة .
هذا الإنسان المحكوم بهذه النوازع التي أقرها الإسلام وضبطها من غير قهر ولا كبت وجعل الحياة في حدودها شرقًا وعبادة. هو الإنسان الذي كرمه الله وجعل مكانته في الذروة بين المخلوقات بما أودعه من استعداد للتكليف وتحمل تبعة خلافة الله في الأرض.. فهو بهذا أكرم الخلائق “لأنه وحده من ذي حياة أو غير ذي حياة المنفرد بها والمسخرة له والمسؤول عنها، والعاقل لأمورها، والمتدبر كنهها”.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلىٰ كَثيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ الإسراء: آية70.
وقال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ غافر: آية 64.
ويقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ التين: آية 4.
ولوضع هذه المكانة الإنسانية المنفردة موضع الاختبار، سخر الله لها كل مافي الحياة تعمل فكرها فيه، وتناله بيدها أو بعقلها، وتأخذ منه ما يستوي بها إلى الدرجات الرفيعة جسدًا وعقلاً وروحًا، فهي في موازين الوجود والعدم بما تعلم ومالا تعلم، وفي مجال التكليف لا تُسْأل إلا على ما وسعها علمه، ولا تُحاسَب إلا على قدر طاقتها، وليس في الكون شيء معلوم كله، كما ليس فيه شيء مجهول كله، فعالم الغيب تملك فيه قدرة التصور والتخيل، وعالم الشهادة نملك منه المحسوس والملموس والمدرك والمعلوم، والمتصور والمتخيل، وما يمكن لنا بالبحث والعلم والاجتهاد والعمل الوصول إليه في أي زمان ومكان .
قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ إبراهيم: الآيات 32-34 .
ويقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَافِي الأَرْضِ﴾ الحج: آية 65.
﴿أَلَم تَرَوا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمـٰـوَاتِ وَمَافِي الأَرْضِ﴾ لقمان: آية 20.
وقد بين الإسلام أن هذا الإنسان الذي كُرّم هذا التكريم كلَّه ووُضِع في هذا الموضع السامي من كمال الخلقه والرقي الفكري، وسُخِّرت له هذه الأشياءُ كلها تسخير طاعة وإذعان، ماهو إلا مخلوق تعهده الله بالصفة والإبداع في الخلق، وجعل من مادته الواهية الضعيفة تلك القوة المفكرة المبدعة، ومن ترابيّته الضئيلة هذا الكمال والجمال الذي جرى به ويشاهد عليه، من ضعفه ووهنه هذه القوة الهائلة التي بها يغدو ويروح، فهو مخلوق مسؤول ذو أطوار صنعها الصانع، وأعدها لما هو أشرف من الحياة الحيوانية، وجعل من صنعته فيه دليلاً على ذاته العلية، وعلى قدرته في الخلق والإبداع، وعلى ما هو مطويٌّ عنا في عالم الغيب الذي لايدركه إلا هو..
قال تعالى: ﴿ذٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ السجدة: الآيات 6-9 .
وقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ الروم: الآيات من 20-22.
وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِيْ خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَديرًا﴾ الفرقان: الآية 54.
هذا الإنسان في الإسلام المخلوق بهذه الصورة المُبْدِعِ على هذا الشكل هو مجال العناية الإلهية في العطاء والمنع، وهو وحده المخلوق المسؤول عما يفعل، المطالب بأن يكون كل كمال فيه، وكل نقص مهما صغر يرتفع عنه؛ لأن خالقه وصانعه أحاطه بكل ما يكفل له ذلك، وأمده بما يعينه عليه، وبسط له آيات كونه يستعرضها بفكره، ويتناولها بعلمه وعمله، لا تخفى عليه إن أرادها، ولا تغيب عنه إن حاول التماسها لأنها جزء منه، ومن مكوَّنات حياته وحياة الكائنات حوله، وليس في استطاعته أن يدّعي غفلة عنها أو غموضًا في مدلولاتها، لهذا كانت دعوة الإسلام للناس كافة، وكان فرض الإيمان بها مسلمًا لأنها بالعقل تدرك وبالمشاهد الملموسة يستدل عليها .
يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ* وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ* وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الروم: الآيات 23-27.
وليس في المخلوقات من يجمع بين الضدين كالإنسان، فهو في أحسن تقويم وأكمل صورة وأرفع مكانة وأعلى درجة، شاهد على الخلائق مسيطر عليها، حامل للأمانة مقرونة به.. وهو ظالم طاغ، مخادع فاجر، متهاون خاسر.
وهو بين هذين الضدين إنسان مقبول في الإسلام، لا يُطْلبُ منه أن يسمو عليهما حتى يكون ملاكاً، أو يبقى على أوله فيكون روحًا وجمالاً، أو ينفصل عنها فيتحول مسْخًا شيطانًا، إن بين الأمرين في الطاعة والعصيان والرضا والسخط، واليقين والاضطراب هو الإنسان الذي تنصب له التعـاليم الإسلامية وتأتيه أحكامُ الإيمان، ويقف منه الحق مُجازيًا ومُحاسبًا ومُقَرِّبًا ومُبْعِدًا.
قال تعالى: ﴿إنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواصَوا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبْرِ﴾ العصر: الآيتان 2، 3.
ويقول: ﴿وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولاً﴾ الإسراء: آية 11.
وقوله: ﴿فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ الفجر: الآيتان 15، 16.
ذلك هو الإنسان، وضعه الإسلام في دائرته الصحيحة، ورسم له طريق الخلاص من كل وهن وضعف، وبين له كيف يكون أهلاً لحمل أمانة الخلافة في الأرض؟ وكيف يكون أعظم الخلائق بالعلم والإرادة والعمل؟ وكيف ينتصر على النفس الأمارة بالسوء؟ ليكون نورًا وهداية لغيره من بني الإنسان.
* * *
الهامش:
(1) الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب ص 81 ط ثالثة 1968م.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1429هـ = أغسطس 2008م ، العـدد : 8 ، السنـة : 32