الأدب الإسلامي
بقلم : الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الجيوشي
كلُّ دعوة في القديم والحديث تحتاج إلى أن يكون لها من يتحدّث باسمها، يعرض قضاياها ومنهجَها ويواجه خصومَها، ويردّ على من ينال من قِيَمِها أو يحاول الغضّ من أصحابها والقائمين بأمرها، وكلُّ عصر له من الأَدَوَات ما يناسبه، ففي عصرنا الحاضر تقوم وسائلُ الإعلام المقروءةُ والمسموعةُ والمرئيّةُ بهذه المُهِمّة، من عرض القضايا التي تريدها الدعوةُ، والكشف عن مزاياها وعرض نتائجها، وما يعود على الأفراد والجماعات من نفع وخير إذا أخذت بها والتزمت بمنهجها .
وفي العصور الماضية كان الشعراء هم القائمين بهذه المهمة، والمُتَحَدِّثين بألسنة من يَنْتَمُون إليهم وكان الأمرُ في عصر الرسالة يمضي على هذه الطريقة؛ فكان هناك من يتصدّى للدعوة، ويقف في سبيلها ويحاول النيلَ من صاحبها – صلوات الله وسلامه عليه – ولهذا كان هناك من الشعراء من يتصدّى لهؤلاء الذين يهاجمون الإسلامَ،ويتعرّضون لنبيه صلى الله عليه وسلم، فيردّون عليهم، ويكشفون عن سوآتهم وأولُّ هؤلاء الشعراء حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي – صلوات الله وسلامه عليه – ينصب له منبرًا في المسجد، ويقول له: «قل: وروحُ القدس معك، مادمت تُنَافِح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
وكان إلى جانب حسان كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة يدافعون عن الدعوة، ويردّون على أقاويل المشركين ويُشِيدون بالإسلام، ويرفعون من شأن أبطال المسلمين، وكان لكل منهم مجالُه المتخصص فيه، فكان كعب يذكر الحرب، ووقائعها، يقول فعلنا ونفعل، ويتهدّد الكفارَ ويتوعّدهم، وكان حسان يذكر عيوبَهم وأيامهم. وأما ابن رواحة فكان يُعَيِّرهم بالكفر. وكان حسان يتصدّى لمن يهجو رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن النبي – صلوات الله وسلامه عليه – قال له: كيف تهجوهم وأنا منهم؟
فقال: إني أَسُلُّك منهم سلَّ الشعرة من العجين، وكان يستعين بأبي بكر رضي الله عنه في معرفة أنسابهم وعلاقاتهم، فلما سمع كفارُ قريش هجاءَ حسان لهم، قال أبو سفيان: هذا شعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة .
ومما قاله حسان يرد على أبي سفيان:
هجوتَ محمَّدًا فأجبتُ عنه
وعنـدَ اللهِ في ذاك الجــزاءُ
فإن أبي ووالــدَه وعِرْضي
لعِـرْضِ محمّــدٍ منكم وِقَاءُ
أتهجوه ولستَ له بكفء
فشرُّكما لخيــركما الفِدَاءُ
ويمضي في قصيدته حتى يقول:
وقال اللهُ قد أرسلتُ عبدًا
يقول الحقَّ ليس به خِفَاءُ
وقال الله قد سيَّرْتُ جندًا
همُ الأنصارُ عرضتُها اللقاءُ
لنا في كل يوم من مَعَدٍّ
سبابٌ أو قتالٌ أو هِجَاءُ
فمن يهجو رسولَ الله منكم
ويمدحه وينصره سواءُ
وجبريلُ رسولُ الله فينا
وروحُ القدس ليس له كِفَاءُ
ويُشيد بشجاعة المسلمين من المهاجرين والأنصار في غزوة بدر، ويعرض أمجادَهم وبطولاتِهم وتضحياتِهم ويذكر مصارعَ قادة الكفر وما لاَقَوْه من الهزيمة وما حَلَّ بهم من الهوان فيقول :
فدَعْ عنك التذكّرَ كلَّ يوم
ورُدَّ حرارةَ القلب الكئيب
وخَبِّرْ بالذي لا عيبَ فيه
بصدق غير أخبار الكذوب
بما صَنَعَ المليكُ غداةَ بدر
لنا في المشركين من النصيب
غداةَ كأَنَّ جمعَهم حراءُ
بَدَتْ أركانُه جنحَ الغروب
فلاَقَيْنَاهُم منا بجمع
كأُسْدِ الغاب مُرْدَان وشِيْب
أمام محمد قد وازروه
على الأعداء في لَفَحِ الحروب
بأيديهم صَوَارِمُ مُرْهَفَات
وكلُّ مُجَرَّب خاظي(1) الكُعُوب
بنو الأوس الغَطَارِف وَازَرَتْها
بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبا جهلٍ صريعًا
وعتبةَ قد تركنا بالجبوب(2)
يناديهم رسولُ الله لَمَّا
قذَفْنَاهُم كَبَاكِبَ(3) في القليب(4)
ألم تَجِدُوا كلامي كان حقًّا
وأمرُ الله يأخذ بالقلوب
فما نَطَقُوا ولو نَطَقُوا لقالوا
صدقتَ وكنتَ ذا رأي مُصِيب(5)
وكعبُ بن مالك أحدُ الشعراء الذين دافعوا عن الإسلام وتَصَدَّوْا لدعاوي المشركين، وكعبٌ هو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا عن اللَّحَاق بالمسلمين لما تَوَجَّهُوا إلى غزوة تبوكَ، والذين نزل في شأنهم قولُ الله تعالى، وفي شأن المهاجرين والأنصار الذين تَابَعُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أوقات العسرة والشدة : ﴿لَقَدْ تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثـَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(التوبة/ الآيتان 117، ١١٨).
وقد أورد مسلمٌ في صحيحه وآخرون قصّة كعب وما عاناه من ألم وضيق لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقاطعة الثلاثة الذين خُلِّفُوا، وظلّ يعاني من ألم القطيعة، حتى نزل أمر الله بالتوبة عليه.
وكان شعرُه الذي يتهدَّدُ به الكفارَ سببًا في إسلام قبيلة «دوسِ» في بيت قاله، وهو:
تخيرها ولو نَطَقَتْ لقَالَتْ
قواطعهن دوسًا أو ثقيفًا
وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نسي ربك لك – وما كان ربك نسيًّا – بيتًا قلتَه .
قال: وماهو؟
قال: أَنْشِدْه يا أبا بكر، فقال:
زَعَمَتْ سخينةُ أن ستَغْلِب ربَّها
وليَغْلِبَـنَّ مُغَـالِبُ الْغَلاَّبِ
ومن شعر كعب بعد غزوة بدر يردّ على أحد شعراء المشركين :
عجبت لأمر الله، واللهُ قادرٌ
على ما أراد ليس له قَاهِرُ
قضى يومَ بدرٍ أن نُلاَقِيَ مَعْشَرًا
بَغَوْا وسبيلُ البغيِ بالناس جَائِرُ
وقد حَشَدُوا واستنفروا من يَلِيْهِمِ
من الناس حتى جمعُهم مُتَكَاثِرُ
وسارت إلينا لا تُحَاوِل غيرَنا
بأجمعها كعبٌ جميعًا وعَامِرُ
وفينا رسولُ اللهِ والأوسُ حولَه
له معقلٌ، منهم عزيزٌ ونَاصِرُ
وجمعُ بني النجار تحتَ لِوَائِهِ
يميسون(5) في الماذيّ(6) والنقعُ(7) ثائِرُ
فلما لَقِيناهُمُ وكلٌّ مجاهد
لأصحابه مستبسلُ النفس صَابِرُ
شهدنا بأنّ اللهَ لا ربَّ غيرُه
وأنّ رسولَ الله بالحقّ ظَاهِرُ
وقد عريت بِيْضٌ خِفَافٌ كأنها
مقاييسُ يزهيها لعينيك قَاهِرُ(8)
بهن أبدنا(9) جمعَهم فتبدَّدُوا
وكان يُلاَقِي الحينَ(10) من هو فَاجِرُ
فكُبَّ أبو جهل صريعًا لوجهه
وعقبةُ قد غادنَه وهو عَاثِرُ
وشيبةُ والتيميُّ غادرنَ في الوغى
وما منهمُ إلا بذي العرشِ كَافِرُ
فأَمْسَوْا وقودًا النار في مستقرها
وكل كَفُور في جهنَّم صَائِرُ
تَلَظَّى(11) عليهم وقد شَبّ(12) حميُها
بزبر الحديد(13) والحجارةُ سَاجِرُ(14)
وكان رسولُ الله قد قال: أقبلوا
فوَلَّوْا، وقالوا: إنما أنتَ سَاحِرُ
لأمرٍ أراد اللهُ أن يَهْلِكُوا به
وليس لأمر جَمَّه الله زَاجِرُ(15)
أما عبد الله بن رواحة فكان نقيب بني الحارث من الخزرج وشهد بدرًا وأحدًا والخندقَ والحديبيةَ وخيبرَ وعمرةَ القضاء والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اسْتُشْهِد في مؤتةَ. وكان ابن رواحة شديدَ الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد واجه ابن أبيّ لما حدّث رسول الله بما لا يليق، وذلك أنه – صلوات الله وسلامه عليه – كان في طريقه إلى زيارة سعد بن عبادة ومرَّ بابن أبيّ فكَرِهَ أن يتجاوزه، فنزل وسلّم، ثم جلس قليلاً فتلا من القرآن ودعا إلى الله سبحانه وحذَّر وبشَّر، وأنذر، وابن أبيّ ساكتٌ لا يتكلّم فلمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقًّا فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدِّثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغته به – أى لا تُعَذِّبه – ولا تأته في مجلسه بما يكره منه، عند ذلك تصدّى له ابن رواحة مع آخرين من المسلمين قائلين: بَلَىٰ، فاغشنا به، وائتنا به في مجالسنا ودُورنا وبيوتنا، فهو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به، وهدانا له(16).
وقد سأله النبي صلى الله عليه وسلم:كيف تقول الشعرَ إذا أردتَ أن تقول؟
قال: انظر في ذاك ثم أقول.
قال: فعليك بالمشركين، يقول ابن رواحة: ولم أكن هيّأتُ شيئًا، ثم قال في موقفه هذا:
ياهاشِمَ الخير إن الله فَضَّلَكُمْ
على البرية فضلاً ما له غيرُ
إني تفرستُ فيك الخيرَ أعرفه
فراسةً خالفتهم في الذي نَظَرُوا
ولو سألت إن استنصرت بعضَهم
في حل أمرك ما آووا ولا نَصَرُوا
فثبَّتَ الله ما آتاك من حسن
تثبيتَ موسى ونصرًا كالذي نَصَرُوا
فأقبل عليه رسولُ الله وقال، وهو مستبشر، وإياك فثبّت الله وكان في عمرة القضاء يقود ناقةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد:
خَلُّوا بني الكفار عن سبيله
اليومَ نضربكم على تنزيله
ضربًا يزيل الهامَ عن مقيله
ويُذْهِل الخليلَ عن خليله
فقال عمر: يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خَلِّ يا عمرُ، فهو أسرع فيهم من نضح النبل، وفي رواية أخرى: فو الذي نفسي بيده لكلامه عليهم أشدُّ من وقع النبل.
وكان النبي – صلوات الله وسلامه عليه – يبعث ابنَ رواحة إلى خيبرَ فيخرص(17) بينه وبين يهود، فأرادوا أن يرشّوه، فجمعوا حليًّا من نسائهم، فقالوا: هذا لك وخَفِّفْ عنا.
فقال: يا معشرَ يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليّ، وما ذاك بحاملي علي أن أحيف عليكم، والرشوةُ سحتٌ. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
وكان ابن رواحة رضي الله عنه من أكثر الصحابة دعابةً وخفةَ روح، وكان صاحبَ فكاهة مليحة، وقريحة سَمْحَة، وكانت له زوجةٌ طيبةَ القلب، قليلةَ التجارب، بالغةَ السذاجة، وكانت تُصَدِّق ما يقال لها دون تفكر أو تدبر، وكانت إلى جانب ذلك شديدة الغيرة على زوجها، والحب له، وكان لعبد الله جارية كَتَمَ عن زوجته أمرَها، فلما بلغها الخبرُ التمست كونَه عندها حتى عرفت ذلك. فلما جاءها قالت له: بلغني أنك اتخذتَ جاريةً، وأنك الساعةَ خرجتَ من عندها، وما أَحْسَبُك إلا جنبًا. قال: ما فعلتُ. قالت: فاقرأ آياتٍ من القرآن، فقال:
شهدتُ بأن وعدَ الله حقٌ
وأن النارَ مثوى الكافرينا
وأن العرشَ فوق الماء طافٍ
وفوق العرش ربُّ العالَمينا
وتحمله ملائكةٌ شِــدَادٌ
ملائكـةُ الإلـه مُقَـرَّبِينَا
فقالت: أما إذا قرأتَ القرآنَ، فقد علمتُ أنك مكذوب عليك.
وافتقدتْه ذات ليلة، فلم تجده على فراشها، فلم تزل تطلبه حتى عثرتْ عليه في ناحية الدار، فقالت: الآن صدقتَ ما بلغني، فأنكر فقالتْ: اقرأ آيات من القرآن، فقال:
وفينا رسولُ الله يتلو كتابَه
كما انشقّ معروفٌ من الفجر سَاطِعُ
ارانا الهدى بعد العَمَىٰ فقلوبُنا
به مؤمنًا أنّ ما قال وَاقِعُ
يبيت يُجِافِي جنبَه في فراشه
إذا أثقلتْ بالمشركين المَضَاجِعُ
وأَعْلَمُ علمًا ليس بالظنّ أنني
إلى الله محشورٌ هناك فرَاجِعُ
فقالت: آمنتُ بالله وكذّبتُ ظني.
فلما أخبر بذلك النبيَ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ، وقال: هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر الله لك يا ابن رواحة، خياركم خياركم لنسائكم(18).
* * *
الهوامش :
- خاظى الكعوب: مكتنز شديد .
- الجبوب : الأرض الغليظة .
- كباكب: جماعات .
- القليب: البئر.
- سيرة النبي لابن هشام ج2 ص281، 282.
- يميسون: يمشون.
- الماذي: الدروع البيضة اللينة.
- النقع الثائر: الغبار المرتفع .
- المقايس هو مقياس القطعة المشتعلة من الكار ويزهيها يحركها، يشبه السيوف بقطع النار.
- أمدنا: أهلكنا.
- الحين: الهلاك .
- تلظى: تلتهب.
- شب: أوقد.
- زبر الحديد: قطع الحديد.
- ساجر: من سجر النار أوقدها.
- همه الله قضاه وقدره، وزاجر مانع يعني لايمنع أحد أمرالله.
- راجع سيرة النبي لابن هشام ج2 ص378-380 تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد .
- سيرة النبي لابن هشام ج2 ص 218، 219.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير 2008م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 32.