الأدب الإسلامي
بقلم : الأديب الإسلامي العربي الكبير
معالي الدكتور الشيخ عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
ويحلو لبعض قائلي الحكم في الآداب الأخرى قول يسير مع هذا في بعض جوانب الحياة، وما يحدث فيها مع سير الزمن، فهم يقولون :
«بدع اليوم سنن الغد» .
ويلوم فقيه الزمان تغطية لتأنيبه لأهل زمانه، وما يودّ لهم أن يرتفعوا إليه بدلاً من المنزلة التي هم فيها، والتي يجد أنها لا تليق بهم، وليجعل الأمر مقبولاً لهم، فلا يأنفون من هجومه المغلف، فإنه يجعل محور النقص مركزًا فيه هو نفسه، وهي خطة بارعة، لا يصل إليها إلا مفكر ذكي، وهذه صفات تتوفر في الفقهاء، وما سلكه هذا الفقيه في هذا النهج يسلكه كثيرون ممن يريدون أن «يبيعوا فكرة»، ليس من السهل «بيعها»، على غيرهم، وتستعمل في دروب عديدة من الحياة، وتحظى بالنجاح، لأنها مبنية على دراسة لأنفس الناس وطبائهم، ومعرفة ما ينفرهم أو ما يجذبهم، أو ما يجعل الأمر وسطاً عندهم، لا جاذبًا ولا منفرًا:
«قال إبراهيم النخعي لأبي حمزة:
لقد تكلمتُ، ولو وجدت بُدًّا ما تكلمتُ، وإنّ زمانًا أكون فيه فقيهَ أهل الكوفة لزمان سوء».(1)
إن إبراهيم، وهو إمام في علمه، قاس نفسه بمعلميه وهم من قاس زمانهم بزمانه، وقد عرفهم كبارًا في سنهم وعلمهم، وحفر، منذ كان صغيرًا، لهم تقديرًا واحترامًا في ذهنه، بقي يزيد ويتضخم مع الأيام، وتضخم كذلك موقع زمانهم، فعند مقارنته للناس بالناس، والزمان بالزمان، يجد الرجحان للسابق، والعامة تقول: «من عرفك صغيرًا احتقرك كبيرًا» وهو قول صادق مع كثيرين تجاه كثيرين، ومَنْ من الناس مَن لم يعرف نفسه صغيرًا، ويعرف الهفوات وكثرتها وضخامتها في بعض الأحيان، فإذا كان من المسموح به للإِنسان – عند العامة على الأقل – أن يحتقر صغيرًا كَبُر، فالقياس ينطبق على الإِنسان مع نفسه، بل هو أولى أن يكون كذلك؛ إلا أن الله يتدارك الناس تجاه أنفسهم وغيرهم بالثقة التي تعطي دفعًا لعامل الاحترام والاعتزاز والفخر ليبرز، وليغطي على عوامل التحقير التي تدخل في حيز النسيان ونعمته، فتبهت تدريجيًا، فلا تأتي إلا إذا استدعيت، وقد لا تأتي بسهولة، ولا يأتي بها إلا أشطان وأمراس تجرها إلى مقدمة التفكير، لتبرز ملهاة وطرفة، لا ألمًا وحرقة، أو مظهر حياء وخجل.
ويقال إن عبد الملك كتب إلى الحجاج أن صف لي الدهر: فكتب إليه:
«أمس كأن لم يكن، وغد كأن قدٍ، ويوم يستطيله البطالون، فيقصرونه بالملاهي، وفيه يتزود العاقل لمعاده» (2).
وهذا قول جميل، وحكمة مضيئة، جاءت بأبهى عبارة، وأقصر تعبير، جامعة لمعانٍ شريفة، بكلمات معدودة، وقد اشتملت على جانبي الحياة: الإِنسان وزمانه، وصلة أحدهما بالآخر، وفي مواءمة متقنة، ومجانسة مبدعة .
والذي يلفت النظر في هذا النص هو طلب عبد الملك الخليفة، من عامله أن يعطيه جواب أمر لم يتبين له كنهه، فهل الأمر مركب وموضوع على لسان الخليفة والعامل، ليروج ويقبل، استخسارًا لضياع مثل هذا القول الشريف ، أو أن السوأل من عبد الملك والجواب من غير الحجاج أو أن السؤال من غير الخليفة، والجواب من الحجاج، بمعنى أن السائل أحد جلساء الحجاج، في جلسة مذاكرة أدبية، والحجاج عرف بحبه لمجالس اللغة والعلم والأدب، وإعجابه بالفصحاء والمتكلمين بالحكمة. أو لعله سؤال ألقاه الخليفة على عامله إختبارًا واكتشافًا، حتى يتأكد من أمرٍ، أو ليكشف عما إذا كان عقل عامله قد رَكَدَ وصدأ مع مرور الزمن، وطول المدة في المنصب. الله أعلم!
ويصور الزمان أحيانًا وما يحدث للناس بمروره صورًا تأخذ باللب، للعناية في رسمها، ووصفها في تعبير مؤثر مُدَعَّم بالشعر مثل القصة الآتية :
عن شيخ من همدان :
بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع بهدايا، فمكثت حولاً لا أصل إليه؛ ثم أشرف إشرافة من كوة له، فخرّ من حول القصر سجدًا.
ثم رأيته بعد ، وقد هاجر إلى حمص ، يشتري اللحم بدرهم، ويسمطه خلف دابته: وهو القائل:
أُفٍّ للــــدنيا إذا كانت كــــــــذا
أنـــــا منــــــها في عنـــــــاء وأذى
إن صفا عيش امرئ في صبحها
جــــرعتـــه ممسيًا كأس القــــذى
ولقـــــد كنت إذا قيــــــل مـــــن
أنعــــم الناس عيشًا؟ قيــل ذا» (3)
هذه صورة من الصور التي تُري ما يحدث للمرء مع مرور الزمن من تغير في الأحوال، وتبدل في مظاهر الحياة؛ وهناك قصة ترسم صورة تهدف إلى ما هدفت إليه هذه، وتسير في الاتجاه نفسه، وهي تعبير متقن عن فكرة اختلاف الأمور باختلاف الزمان وبمروره :
«قال مالك بن دينار: مررت على قصر تَضِرب فيه الجواري بالدفوف ، ويقلن:
ألا يا دار لا يدخلك حزن
ولا يذهب بساكنك الزمان
ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب، وثـَمَّ عجوز، فقالت:
يا عبدَ الله! قد – والله! – دخلها الحزن، وذهب بأهليها الزمان» (4).
وتأتي أحيانًا قصص رمزية تنطق جمادًا يصور مرور الزمن، وما يحدث للناس مع مروره، والقصة الرمزية تعبر عن فكر صاحبها، الذي لابد أنه أدار الفكرة في ذهنه عن الزمان وأهله، والصلة التي بينهما، وما يحكمها في تنظيمها وسيرها وجريانها، والقصة التالية تُمَثِّلُ ذلك خيرَ تمثيلٍ:
«تشاجر رجلان في قصر، فأنطق الله لبنة من الزاوية، فقالت:
إعلما! أني كنت إنسانًا مثلكما ألف سنة، ثم مت فكنت رميمًا ألف سنة، ثم كنت حِبًّا مئة سنة، ثم كسرت، فصرت تراباً، فضربت لبنة، فوضعت في بنَاء هذا القصر منذ ثلاث مئة سنة؛ فحياءً لكما بعدما سمعتما أن تتشاجرا، وتأخذا بتلابيبكما» (5).
ويستقرئ بعض النابهين أزمان الماضين، والأزمان الحاضرة، ويرى بعض الظواهر وتطورها، فيأخذ منها حُكْمًا على المستقبل، ويتنبأ على هذا بما قد يحصل للأجيال القادمة في هذه الأزمان المقبلة .
«يقول خلف بن إسماعيل:
سمعت سفيان يقول:
يأتي على الناس زمان لاينجو فيه إلا من تحامق» (6).
ولَعَلَّ سفيان رأى ما درأ على المجتمع، ورأى أن أسباب التغيير مستمرة، وأنها في اتجاه مُعَيَّن، يدل على أن زمانًا آت لن ينجو من الأذى فيه العاقل، ولا ينجو إلا مجنون أو عاقل يتظاهر بغير العقل، ويتَّسِمُ سياسة بسيماء الجنون .
وليس هذا غريبًا فقد جاءت فترة من العصر العباسي قامت فيها فتنة اتجه أذاها إلى خيرة العلماء فيها، وهي فتنة خلق القرآن، وكأنّ سفيان يُطِلُّ على مجلس الخليفة والناس تدخل عليه، ويُقِرُّ بخلق القرآن من يقر فيسلم، وينكر من ينكر فينال نصيبه من الأذى كَبُرَ أو صَغُرَ، ولقد تحامق رجل على الأقل دوّنت قصته في التراث، فنجا من الأذى بفضل هذا التحامق، الذي دلّه على اختياره فكر ثاقب، وذهن صائب، جاء له منهما نجاة محققة، إذا صَحَّ الخبر، ولم يكن متخيلاً:
«قيل: أدخل عُبادة على الواثق، والناس يُضْرَبون ويُقْتَلون في الامتحان [في خلق القرآن]. قال:
فقلت: والله لئن امتحنني قتلني، فبدأته، فقلت:
«أعظم الله أجرك، أيها الخليفة» .
فقال: فيمن ؟
فقلت: في القرآن .
قال: والقرآن يموت ؟
قلت: نعم، كل مخلوق يموت، فإذا مات القرآن في شعبان فبإيش يصلي الناس في رمضان؟
فقال: أخرجوه، فإنه مجنون» (7).
فإن كانت هذه القصة حدثت فعلاً، فهذا أمر يؤكد ما ظَنَّه سفيان يحدث في زمن لاحق لزمنه، وسبب الشك الذي لم يجعلنا نقطع بأن هذا حدث فعلاً، هو جلال الموقف، وتوقع أن مثل هذا الهزل قد يجد معه الخليفة وجوب معاقبة «عبادة» عقابًا شديدًا قد يصل إلى القتل، حتى لا يتجرأ الناس على مجلس الخليفة .
ولسقراط قول يلمس الناس وزمانهم، وقد جاء من زاوية جعلت قوله مقبولاً، لأن ما قاله ملموس في كل زمن، ويكاد لايبقى من فضلِ قولِه لسقراط إلا صياغة الكلمات :
«قال سقراط:
لاتكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم» (8).
إنه يدخل تحت هذا أمور مهمة، أحدها تربوي يُوَجِّه الآباء إلى كيف يجب أن يكون تعاملهم مع أولادهم، إذ أن تفاعلهم مع زمنهم يختلف عن تفاعل الآباء مع زمنهم، فالمؤثرات التي تَدَخَّلَتْ في تهذيب الأب وتربيته تختلف عن تلك التي تكون لابنه في دَرْجـِهِ الجديد؟ وثانيها أن التربية على شيء لا تكون بالإِكراه؛ لأن الأكراه أحيانًا يجلب المكابرة والعناد من الصبي، وهذا يوجب التواقف والمشاحنة بينه وبين مربيه سواء كان والده أو معلمه أو معلمته أو والدته أو ولي أمر إذا كان يتيمًا .
وهذا يذكر بالقول بأنه إذا كان الأب والابن من جيل واحد كان هذا أقرب إلى التفاهم بينهما، وبُعد التنافر، فرجل تَزَوَّجَ صغيرًا، ورُزِقَ أولادًا في أول زواجه، تربيتهم أسهل عليه من تربية رجل تزوج متأخرًا في حياته، وصار بينه وبين أبنائه فجوة كبيرة، وأصبح الأب من جيل والأبناء من جيل، ففي الغالب لا يكون الانسجام تامّاً، أو التربية مقبولةً، لأنه يكون للأب نظرة إلى أمور الحياة تختلف عن نظرة أبنائه، لأن الزمن غير الزمن؛ في حين أن الابن إذا كان قريبًا من عمر أبيه يكون أقربَ إلى أخيه. ولعل هذا أحد مرامي قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – :
«الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم» (9).
وينظر حكيم إلى فعل الناس، فيرى فيه خللاً، فينبههم إلى ما يجب عليهم تجنبه، وما يجب عليهم أن يحلوه محله، فيقرن ذلك بالزمان، ويجعل ذلك مَطيَّتَه إلى غايته، ووسيلتَه إلى إقناع من يخاطبهم، ممن استقرئ أمرهم، وأَهَمَّتْه مصلحتُهم، فينبه إلى أن الزمان الذي هم فيه لا يدوم الحال فيه على ما هو عليه، وأنه بمرور الزمن سوف يتغير الأمر، وسيكون هناك عسرة وشدة، وأن الرخاء والازدهار موقت بوقتهم الحاضر القصير، وأن عليهم أن يتعلموا الشدة من الآن تحسبًا لما سيأتي، وتعودًا على الحالة القادمة، فإذا جاءت فلا يكون مجيؤها مفاجأةً لهم، ولا يكون تغير الحال وصل إليهم، أو وصلوا إليه بغتة؛ فإذا استعدُّوا له، وتعوّدوا على شظف العيش، وما يلائم قواعد الصحة، كانوا في خير وعافية :
«قال جعفر:
كنا نأتي فرقدًا السبخي، ونحن شَبَبَة، فيُعَلِّمُنا:
إن من روائكم زمانًا شديدًا؛ فشُدُّوا الأُزُرَ على أنصاف البطون، وصَغِّرُوْا اللقم، وشدِّدوا المضغ، ومصُّوا الماء مصًّا؛ وإذا أكل أحدكم فلا يَحُلَّنَّ إزاره فتتسع أمعاؤه؛ وإذا جلس أحدكم ليأكل فليقعد على إليته، وليلزق بطنَه بفخذيه، وإذا فرغ فلا يقعد، وليجيء وليذهب، واحتموا فإن من ورائكم زمانًا شديدًا» (10).
في كل ما قاله فرقد معْزو للزمان، ومركز عليه، ويدور حوله، فهو الذي يتغير، في حين أن الزمان كما قلنا ثابت، ونحن الذين ندور عليه، ونُستَهلك بعد أن نُنْهك: يقظة ونوم، ونوم ويقظة، وأكل وشرب، وجوع وعطش، وأخذ وعطاء، وسفر , وإقامة، وحمل وولادة، وصحة ومرض، وقاتل ومقتول، وساجن ومسجون، وهكذا دواليك، والزمان ينظر بعين عادلة، تنظر إلى كل جيل بمثل ما نظرت به لجيلٍ سابقٍ، وما ستنظر به إلى جيلٍ لاحقٍ. ولكن الزمن «حمّال أسيّه»، إثقال كتفيه بالمسؤولية أسهل على ابن آدم من حملها هو بنفسه! ولعلّ فرقدًا مثل غيره استعار الزمان لمن حل فيه، على وزن: واسْأَلِ الْقَرْيَةَ، إذ المقصود أهل القرية .
والاستعارة في اللغة العربية وغيرها مصدر جمال، إلا أنها في اللغة العربية مكتملة الأصول، متشعبة الفروع، أنواعها لا تُعَدُّ ولا تُحْصـٰـى، تفنَّنَ فيها اللسان العربي إلى حد الأدهاش، ووردت في القرآن الكريم غلى حد الإِعجاز، فجاءت بالصور الناطقة المعبرة، ورسمت معاني مبهجة في جمالها ورونقها.
ولقد أعطت الاستعارة المعاني العربية، والتعبير عنها في هذه اللغة الرائعة مجالاً تصول فيه وتجول، وسعة فائقة للمناورة والمحاورة والمداورة، لا تجدها في أي لغة أخرى، ولا غرْو فكل لغة لها خصائصها، ولكن اللغة العربية لغة القرآن فلا عَجَبَ أن تبز غيرها سعة وعمقًا، ودقة وجمالاً وتأثيرًا، ولا يخفى هذا إلا على جاهل حظه منها قليل، أو مكابر له غرض وهو الخاسر أولاً وآخرًا.
في اللغة العربية تستطيع أن تقول:
«لقد بنيتُ هذا البيت في عامين، وهذه العمارة الضخمة في عامين كذلك» .
فيفهم العربي أنه لايمكن أن تكون بنيتها بنفسك، بيديك ولكن يعرف بديهة، وبمجرد أن تنتهي جملتك التي نطقتَ بها، أنك استأجرتَ قويًّا قادرًا مع آخرين مثله على بنائها، ويتصور العمل كله في جميع أجزائه ومراحله كما كان.
أما الإِنجليزي فيفغرُ فاه عندما تقول الجملة ويقول بدهشة بلهاء:
«بنيتها بنفسك!؟ ».
ولو سمع: «واسأل القرية» لتصورك تخاطب حيطان البيوت وأبوابها ونوافذها. ولهذا امتاز العرب عن بقية المسلمين بِلَذَّةِ فهم القرآن، وتعجب المسلمون من غير العرب كيف نهمله ونهمل لغته، وفيها الشرف لنا! إنهم يغبطوننا على معرفتنا باللغة العربية، ولكننا لا نشحذ هذه الغبطة بدراستنا للغة القرآن، والمحافظة على نصاعتها وأصالتها، وحمايتها من الدخيل إليها من اللغات التي هي أدنى منها، أو تحريف كلماتها في تصريفها على غير قواعدها، وإذا أردت أن تحميها من عبث الجهلة والمتهاونين الكُسالى، قليلي الغيرة عليها، وأخذت تصحح الأخطاء المخزية، ردوا ردًا متهربًا، وقالوا: نحن في عصر غزو الفضاء، وأنت في جهد تمحك اللغة، ونشر مواتها؛ وهذا تغطية لكسل، لأنهم لم يعطوها ما أعطيتَها، وأضاعوا وقتهم في التبحر في لغةٍ عند التمحيص نجدهم لم يكسبوا منها إلا القشور، في حين أن أطفال أبنائها يتعمقون فيها، ويغارون على أصولها، بل يشقون ليغوصوا على ما يوصلها باللغات القديمة الإِغريقية أو اللاتينية، ولم يفكروا في دراسات الفضاء إلا بعد أن أتقنوا أداةً من أدوات التخاطب بين الفضاء والأرض، بما لا يأتي منه لبس، أو سوء فهم، لأنّ في هذا كارثة.
ولكن «عازف الحي لايطرب! ».
أذكر أني مرة في فرنسا سألت شابًا عن شارع من الشوارع باللغة الإنجليزية، فأجانبي باللغة الفرنسية، وقال: لماذا تعلمت اللغة الإنجليزية ولم تتعلم الفرنسية، وكأنه يجازيني، ونحن نفرح عندما تأتي الفرصة لنتكلم مع الأجنبي بلغته حتى لو كان يعرف اللغة العربية ويتقنها .
وأذكر أن زميلاً لنا إنجليزيًا سافر إلى مصر ليَتَمَرَّنَ على التحدث باللغة العربية، فوجد صعوبة مع من يجلس معهم، كلهم يحاول أن يتحدث معه باللغة الإنجليزية، فصار يهرب منهم، ويجلس مع البوابين والخدم والسائقين!
لقد أبعدنا عن الزمان بهذا الاستطراد فلنعد إليه لنرى بعض ما قيل عنه من قريب أو بعيد.
يقول أبو جعفر القرشي :
أرى زمنًا نــــوكاه أكثـــر أهلــــه
ولكنمــــا يشقى بـــــــه كل عاقـــــل
سعى، فوقه رجلاه والرأس تحته
فكبّ الأعالي بارتفاع الأسافل(11)
إن أبا جعفر نظر إلى الزمن، ثم أجلس فيه أهله، فصار هو الصَّحْفة التي قَدِمَ فيها الناس، ثم وصفهم، وأن كل عاقل يشقى بهذا الزمان الذي أمتلأ بالحمقى، وقد أكد في البيت الثاني انعكاس الأمور، وانقلابها رأسًا على عقب؛ فأبو جعفر يقول: إن الزمان تغير، وتغير أهله، وكان ما قبله أفضل منه، فقد كانت في السابق الأمور أفضل، وفي هذا الزمان انحط ما كان عاليًا، وارتفع ما كان سافلاً.
وأبو جعفر ثانٍ له قصة ثانية مع الزمان، فيها طرافة عندما تقارن بما قاله أبوجعفر القرشي:
قال: أبو جعفر الشيباني:
أتانا يومًا أبو مياس الشاعر، ونحن في جماعة، فقال:
ما أنتم فيه؟ وما تتذاكرون؟
قلنا: نذكر الزمان وفساده.
قال: كلا، إنما الزمان وعاء، وما ألقي فيه من خير أو شر كان على حاله، ثم أنشأ يقول:
أرى حللا تصــان على أناس
وأخلاقــــًا تـــداس فما تصان
يقـــولــون الـزمان بـــه فســـاد
وهم فسدوا وما فسد الزمان
هنا موقفان متضادان، موقف يضع اللوم على الزمان، وموقف يعذّر له، ويبرئه مما نُسِبَ إليه، الموقف الأول فيه تسرع وكسل عقلي، والثاني فيه تأنٍّ وتبصر، وإجهاد للفكر وإعمال له، حتى الوصول إلى كنه الأمر، والحصول على المحِّ والزبدة، وشتان بين الموقفين .
والأبيات صادقة وبديعة، ومعضدة لفكرة صاحبها الذي قالها أو استشهد بها، وما قاله أبو مياس الشاعر هو الحق فيما يبرأ به الزمان من التّهم التي تكال له، ويمكن أن يكون قوله المحك لكل قول من النوع الذي أثاره فَرَدَّ عليه .
وهذا آخر يجعل في يد الأيام عملاً تؤديه حيال الناس، والأيام جزء من الزمن، وأُوَكّل إليها عملاً كبيرًا، فجعلها تقلب حالات الناس، ومثّل لذلك بصورة معبّرة، وهي أن الأمور انقلبت رأسًا على عقب، حتى أن الثعالب تجرأت فَعَدَتْ على الأسود:
«قال الحارث بن تمر التنوخي:
وقد تقلب الأيــــام حالات أهلها
وتعدو على أسد الرجال الثعالب» (12)
ومظهر آخر من انقلاب بعض الأمور رأسًا على عقب يعبر عنه عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – في قوله :
«إن صغار هذه الأمة تعلموا من كبارها في صدر الإِسلام، وسيجيء زمان يتعلم كبارها من صغارها».(13)
ويأتي الحديث عن الزمن في مخاطبة بعض رموزه، ومنها الهلال إذ هو دليل دخول الشهر؛ وكان أهل الجاهلية:
«إذا رأوا الهلال قالوا:
«مرحبًا بمن يحلّ دَينًا، ويقرِّب حينًا» (14).
إنه ترحيب سخرية، لأن الشهر إذا أهلّ أتى بما ينغص عليهم حياتهم، وينكد عيشهم، إما بالمطالبة بدين حل أجله، أو موت عزيز حان وقتُه. والشهر في الحقيقة لا دخلَ له بالأمر، فالموت بيد الله – سبحانه وتعالى – يأتي في أول الشهر أو وسطه أو نهايته، لا دخل للهلال في مجيئه أو رده؛ أما الدَّين فالذي حدّد وقته هم الناس، فما بالُهم يلقون اللوم، وألفاظ السخرية على الهلال رمز الزمن؟!
هذه بعض الأقوال التي وردت في الزمان، تُحَمِّلُه اللوم على ما لم تجن يداه، وما لم يتسبب فيه، وتلقي عليه حملاً أهل الزمان أولى بحمله، ومعاناته، وبعض هذه الأقوال يقف حصنًا منيعًا أمام لوم الزمن، وإلقاء التهمة عليه، وينتصب ترسًا واقيًا يحمي حوزة الحق تجاه الزمن .
وإلقاء اللوم على الزمن يمتد إلى زمننا هذا، فكثيرًا ما نسمع من يقول: «الزمان تغير» أو «هذا زمان كذا»، وتتغير أمور، وتتبدل مظاهر في زمن واحد، وعلى جيل واحد، واللوم على الزمن، وأحيانًا أبناء الزمن، ولو فكّر أحدنا فيما مرّ عليه في الخمسين سنة الماضية، أو الستين، وكيف تغيرت الأمور من صورة إلى صورة، مع عودة للصورة السابقة تفضيلاً لها، وهروبًا من الأخرى، لَوَجد عجبًا، وما هذا من الزمن، ولكنه من تقارب الديار، وسهولة المواصلات، وانتقال التأثير، وأعطي مثلاً واحدًا، سوف أتتبع – دون تدقيق – بعض مراحل في خط سيره :
عندما كنا صغارًا كان الشيء المحمود هو حلق شعر الرأس بالموسى، كل شهر مرة تقريبًا، وغير هذا منتقد؛ ثم صار في بعض المناطق، أو المراحل ترك الشعر يطول هو المحمود، ويكون للشخص الكبير والصغير من طبقة معينة، ذوائب، تنافس ذوائب النساء، ثم دخلت بعضَ المدن طريقةُ القذلة، ثم الغرّة و «التواليت»، وكانت هذه تحارب من عقلاء الناس، ويوصَى بترك الشعر كلية أو حلقه كلية، ثم قُبل الأمر فترةً طويلةً، وفجأةً زحف على المجتمع طراز حلاقة الخنافس، فثار المجتمع العاقل عليه، وتمنى الناسُ العودةَ إلى «الغرّة» أو «التواليت»، فكانت محمودة عند هذا الحدث الكريه المنظر، ثم اختفت، وجاءت قَصَّة الغراب وكثرت القصات، حتى لم يعد الناس يعرفون هذه من تلك، وكثرت الظباء على خراش، ولكن هذه الأنواع من الطراز قصيرة الأجل، سريعة العطب.
تفاعل المجتمعات هو الذي يأتي بإذن الله بالتغيير والتبديل وليس الزمن، وما الزمن إلا شاهد عدل .
* * *
الهوامش :
- الإشراف: 270 .
- ربيع الأبرار: 1/70 .
- ربيع الأبرار: 1/557 .
- ربيع الأبرار: 1/566 .
- ربيع الأبرار: 1/368.
- العقل وفضله: 57.
- عقلاء المجانين: 41.
انظر أيضًا: تظاهر مسعر بن كدام بالجنون عندما دخل على المنصور الذي طلبه ليوليه القضاء، فقال له مسعر: هات يدك، كيف أنت وأولادك ودوابك، فقال (المنصور): أخرجوه فإنه مجنون. عقلاء المجانين: 42.
- الكشكول: 2/270.
- بهجة المجالس: 2/651.
- عيون الأخبار: 3/237.
- العقل وفضله : 57.
- تسهيل النظر: 212.
- البصائر: 4/239.
- البصائر: 5/198.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر 2007م يناير 2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.