إلي رحمة الله
بعد معاناة طويلة مع المرض وعوارض الشيخوخة المتكاثرة ، انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ المفتي عبد الرحمن في نحو الساعة الخامسة من صباح يوم الأربعاء 8/ شعبان 1428هـ الموافق 22/ أغسطس 2007م . وذلك في 80 من عمره . كان رحمه الله مصابًا بداء السكّري وأمراض المعدة التي كانت قد أَنْهَكَتْ قواه ، وكان يهتمّ بعلاجها ويتناول أنواعًا من الأدوية بشكل دائم ويتلقى العلاج من أطباء الطبّ المعاصر والطب اليوناني العربيّ الذي يعتمد في العلاج على العقارات والأعشاب والأدوية المصنوعة منها .
كان الشيخ من الأساتذة القدامى للمدرسة الأمينيّة الشهيرة بمدينة دهلي ؛ حيث عُيِّن أستاذًا بها في 1960م (1380هـ) وظلّ يقوم فيها بالتدريس إلى جانب الإجابة الشرعية عن المسائل الفقهية المُوَجَّهة إلى المدرسة وإصدار فتاوى في النوازل الشرعيّة والقضايا المستجدة لدى السؤال عنها. وكان لفتاواه ثقة في الشعب المسلم . وكان عضوًا في هيئة الأحوال الشخصية الإسلاميةِ لعموم الهند، كما كان رئيسًا لهيئة رؤية الهلال التابعة لجمعية علماء الهند .
وانْتُدِبَ استاذًا ومفتيًا بالجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند عام 1402هـ / 1982م وقد أقام فعلاً بالجامعة لأسبوع أو أكثر؛ ولكنّ المدرسة الأمينية لم تسمح له بمغادرته إيّاها ، كما أن حبّه لها وارتباطاته العديدة بالمؤسسات والأشخاص بدهلي لم تَدَعْه يَتَوَجَّه لديوبند ويقوم بالمسؤوليّة المُفَوَّضَة إليه من جامعتها ؛ فاعْتَذَر إليها رغم أنّه كان مُتَخَرِّجًا منها وكان وطنه ملاصقًا بها بقرية «مَانْكِيْ» التي تقع في جهة الشرق من «ديوبند» على مسافة ثلاثة ك م منها فقط.
كان الشيخ عبد الرحمن من تلاميذ الشيخ المجاهد المناضل السيد حسين أحمد المدني رحمه الله (1295-1377هـ = 1879-1957م) وكان من العلماء المتقنين لعلوم الشريعة . وكان لديه بصر بعلوم الفقه والفتوى والقضاء . وعَاشَ حياةَ البساطة والتواضع في عزوف عن الذكر وزهد في السمعة وانصراف عن الاهتمام بجمع الوسائل والإمكانيّات ؛ فكان على شاكلة العلماء الماضين وسيرة المشايخ الصالحين في كثير من خصالهم.
وقد قرأتُ على الشيخ بالمدرسة الأمينية سنن أبي داؤود سنة 1391هـ/1971م . وكان في تدريسه يتكلّم مُتَباطِئًا كأنّه يتحدّث في مجلس يضمّ الناس في سمر أو في أحاديث عفويّة مُتَنَوِّعة. وهذا الأسلوب من التدريس والمحاضرة قد لايُعْجِب بعضَ الحضور المستمعين والمتلقين ؛ فكان بعض الزملاء في الدراسة لايرتاحونَ لدرسه؛ فكانوا يُسَاوِرُهم النعاسُ الذي إنما كان يعاودهم من حين لآخــر لإهمالهم . وأنا شخصيًّا كنت مهتمًّا بدرسه وبدروس غيره من الأساتذة جزاهم الله خيرًا ؛ لأن أسلوبه المتباطئ كان يُمَكِّن أمثالي من التقاط المعاني وتلقي الأفكار التي كان يعرضها علينا .
زرتُه رحمه الله بعد ما كنت أستاذًا بدارالعلوم/ ديوبند لأكثر من مرة خلال قُدُماتي إلى دهلي التي كثرت لطبيعة عملي رئيسَ تحرير لمجلة «الداعي» التي كنتُ أباشر في السنوات الأولى من تحملي المسؤولية الصحافية عمليةَ طرحها للطباعة بإحدى المطابع بدهلي . فكان رحمه الله يُبْدِي دائمًا حبَّه لي وعنايتَه بي ، ويتذكّر لديّ الأيّامَ التي كنتُ فيها طالبًا لديه ، وكيف مضت هذه السنوات الطويلة ، وكيف اجتزنا المشوار الحياتي بهذه السرعة الخاطفة التي تبدو من أجلها كأنها كانت قفزة فوق عشرات السنين . وربّما كان يبادلني المشورة في شأن علاج داء السكري والأدوية الأكثر جدوى والأقوى مفعولاً في كلا نوعي الطب الحديث المعاصر والقديم اليوناني الذي كان يُكَرِّسُ لديَّ أهميّته ؛ حيث أُصِبْت به – بداء السكري – مثلَه في السنوات الأخيرة .
وأهمّ شيء فيه عندي بساطتُه الزائدة التي كان يبدو من أجلها كأنه ليس أستاذي ولستُ أنا تلميذَه الصغيرَ وإنما هو زميلي في الدراسة والعمل. وذلك شيء كبير جدًّا إذا قارنّاه بما أجده اليومَ لدى كثير من الأتراب والزملاء في العمل والدراسة بل الذين يعملون تابعين لي في بعض الجهات العمليّة من التسامي والتظاهر بالعلوّ . إن التواضع قيمة كبيرة في الإسلام ؛ من ثـَمَّ رَكَّزَ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله ﷺ. وأكدت الشريعة بالمكانة الرفيعة للمتواضعين والذلّة المخزية للمتكبرين المترفعين الذين يحسبون أنهم شيء ، وليسوا بشيء إلاّ بحول الله وقوّته .
لدى نزوله بدارالعلوم / ديوبند مُفْتِيًا مُعَيَّنًا منها، وذلك بنية مباشرته للعمل فيها متولِّيًا هذا المنصبَ ، سُرَّ كثيرًا بوجودي بها أستاذًا مختارًا منها لدى انعقاد إحدى دورات مجلس شوراها ؛ وقال لي: بوجودك أنت سأستأنس وأعمل كثيرًا وسأعزم على أن أغادر دهلي والمدرسةَ الأمينيةَ بها إلى دارالعلوم ؛ ولكنه ما لبث أن غادرَ دارالعلوم خلالَ أسبوع أو نحوه ؛ وذهب أدراجَه إلى دهلي؛ حيث إنّ المدرسة لم ترض بشكل أن تُخَلِّي سبيلَه.
عمل بالمدرسة الأمينية نحو 47 عامًا . وهي مدة طويلة أمضاها في المشوار العمليّ الرتيب الذي ظل حافلاً بالمشاغل والمسؤوليات الجسيمة التي كانت كلُّها دينية تعليمية دعويّة وفي سبيل تخريج الشباب المسلم المرابط على الثغر الإسلامي العامّ في هذه الديار التي تموج بالتحديات في سبيل القيام على الدين ، وفي سبيل خدمة المسلمين خدمةً منصبَّة في قناة تسهيل بقائهم على الإسلام محتفظين بشخصيتهم الإسلاميّة وهُوِيَتّهم الدينية التي يحاول المواطنون المتطرفون من الهندوس جهدَهم إذابتَها بكل أسلوب يُتَاح لهم ؛ فأجره – رحمه الله – من الله مذخور وجزاؤه منه موفور . أعلى الله مقامَه في الجنة وأسكنه جنة الفردوس .
في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأربعاء الذي مات فيه صلى بالناس عليه الشيخُ السيّد مشهود حسن الأمروهويّ ثم الدهلويّ شيخ الحديث بالمدرسة الأمينية . وذلك بحي «باره هندو راؤ» من دهلي القديمة ؛ حيث كان منزلُه بدهلي منذ أن وَرَدَها . وحضر الصلاةَ عليه آلافٌ من العلماء والجمهور من المسلمين . ثم حُمِلَ جثمانُه إلى قرية «مانكي» – التي كان هو من سُكَّانها – بمديرية «سهارنبور» بولاية يوبي . والقريةُ على مقربة من ديوبند في الجهة الشرقية منها . ودُفِنَ بمقبرتها بعد صلاة المغرب بجوار أخيه الأكبر الشيخ عبد الغفور حسب ما كان قد أوصى به في حياته .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر 2007م يناير 2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.