الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
تفنيد القول بأن كل ذكر من الأذكار بدعة سوى لا إله إلاّ الله
إن العلامة ابن تيمية – رحمه الله – يقول بكون جميع الأذكار بدعة سوى لا إله إلاّ الله ؛ لأن السنة ساكتة عن سواها . ولو كنتُ في عهده – رحمه الله – لوجّهتُ إليه استفتاءً معناه : بماذا يفتى علماء الدين في قضية أن أحدًا لدى حفظه القرآن ينطق به >إِذَا السَّمَاءُنْ< ثم يتقدم، فيقول حافظًا : >ـفَطَرتْ< >ـفَطَرَتْ< ثم يجمع بينهما ، فيقول مستظهرًا : >إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ< هل يجوز له استظهارُ هذه الفقرة القرآنية بهذا التقطيع أم ماذا؟ إني أومن أن العلامة ابن تيمية لم يكن ليسعه إلاّ أن يقول بجواز هذا الأسلوب من استظهار الفقرة ، مستدلاً بأنه ليس تلاوةً للقرآن؛ لأن الرجل لم يقصد الآن تلاوتَه ، وإنما قصد إظهارَ الفقرة وتثبيتها في الذهن . وهنا أقول: لماذا كان النطق بـ>إلاّ الله< أو بـ>الله الله< غير جائز على حين إن الناطق بهذه الكلمات إنما أراد ترسيخه في ذهنه . وبناءً على التجربة أقول : إن هذا الترتيب في الذكر مُجْدٍ للغاية ، ولن يسع أحدًا أن ينكر ذلك . ومن كان لديه شك فليجرب ذلك . فلو قال أحد : إن المتصدّي للقرآن بالشكل الذي مضى لا يكون تاليًا للقرآن، وإنما يكون مبتديًا للتلاوة ، فكذلك هذا الذي يؤدي ألفاظ كلمة (لا إله إلاّ الله) بالشكل المذكور آنفًا لايكون ذاكرًا لله ، وإنما يكون مبتديًا للذكر. لقلتُ : إن انتظار الصلاة في حكم الصلاة ، فهذا القائم بالنطق بهذه الألفاظ أيضًا ذاكر لله . لو عُرِضَت القضيةُ على العلامة ابن تيمية رحمه الله بهذا الشكل، لما قال بكونها بدعة ، وإنما عُرِضَت عليه قضايا الصوفية الجهلة في عصره . وكان قد استدل بعضُهم بالآية القرآنية: >قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ< (سورة الأنعام/91) ومن هنا تناولهم العلاّمة ابن تيمية بانتقاد عنيف كانوا يستحقونه . والحقُّ أن الاستدلال بالآية في الموضوع المذكور لايصحّ بشكل ؛ لأن >الله< فيها ليس مَقُولاً لـ>قُلْ< لأنّ مَقُولَ القول ومشتقّاته لايكون مُفْرَدًا، وإنما يكون جملةً . و>الله< فاعل لفعل >أَنْزَل< الذي يدلّ على حذفه سياقُ الكلام ؛ لأن الله تعالى يقول أولاً : >قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتـٰـبَ الَّذِيْ جَاءَ بِه مُوْسَىٰ نُوْرًا وهُدىً لِلّنَّاسِ تَجْعُلُونَه قَرَاطِيْس تُبْدُوْنَهَا وتُخْفُونَ كثِيرًا ، وعَلَّمَكُمْ مَالَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤكُمْ< (سورة الأنعام/91) ثم قال تعالى: >قُلِ اللهُ< أي قُلْ أَنْزَلَ اللهُ .
فمثلُ هذا الاستدلال إنما يكون قد قام به جاهلٌ من الجهلة ، ومن هنا شَنَّعَ عليه ابن تيمية – رحمه الله – ولكن الطبيب الصناعي إذا أخطأ فإنه لايُلاَمُ جميعُ الأطباء بمن فيهم الأطبّاءُ النطاسيّون ؛ لأنّ خطأ فرد من القوم لا يُعَمَّمُ عليهم جميعًا . ولو سمع ابنُ تيمية دلائل المحققين من الصوفية لما وسِعَه استنكارهم جميعًا .
وعصارةُ القول أن الذكر الإلهيّ إحدى مراتبه أن نلهج بذكر >الله< والمرتبة الثانية أن نذكر ذات الله بواسطة الاسم ، والمرتبة الثالثة أن لانستخدم حتى واسطة الاسم أيضًا .
تفنيد اعتراض من ينتقدون كلمة «الحنفي» أو «الأحناف»
المُتَّبَعُ أصلاً هو الله تعالى . ومعنى اتّباع رسول الله ﷺ والصحابة والأئمة المجتهدين أن نتّبع الله حسبَ تعليماتهم وتوجيهاتهم ، إذاً لايعود فرق في الجواز وعدم الجواز فيما بين أن ندعو أحدًا >محمديًّا< أو ندعوه >حنفيًّا<؛ لأنّ الاتّباع إذا أريد به الاتّباع مستقلاًّ فإن كلتا النسبتين لاتجوز أبدًا ! إذ إنّ هذا الاتّباع إنّما يخص الله تعالى . أما إذا أريد بالاتّباع أننا نتبع أحكامَ الله تعالى حسب ما وَجَّهوا به ، فإنّ كلتا النستبين تصحّ ، فلا داعي إلى القول بجواز إحداهما وعدم جواز أخراهما ؛ فعُلِمَ أن التسمية بـ>الحنفيّ< لا بأسَ بها ، ويخطئ من يعتبر هذه النسبة ارتكابًا للكفر والشرك ؛ لأنه لايريد المنتسب إلى أبي حنيفة – رحمه الله – أنه يتّبعه رأسًا ومستقلاًّ ؛ وإنما يريد أنه يتبع أحكامَ الله عَزَّ وجلَّ حسبما هداه تحقيقُه . والأحكام الفرعيّة التي استنبطها الإمام أبوحنيفة نتأكّد بشأنها أنّه كان أكثر فهمًا وإدراكاً لحقيقة الأصول – من الكتاب والسنّة – التي اعتمد عليها في استنباطها – الأحكام – فمن ثم نتّبع تحقيقاته ، ولا نتبعه لكونه مُتَّبَعًا مستقلاًّ .
ونسبتُنا إلى أبي حنيفة – رحمه الله – مثلُها يُوْجَدُ في كتاب الله تعالى أيضًا :
>وَاتَّبِعْ سَبِيْلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ< إلى قوله تعالى: >قُلْ هذِه سَبِيْلِيْ أَدْعُوْ إِلَى اللهِ< (سورة يوسف/108) .
فالسبيلُ في هذه الآية نُسِبَتْ إلى الرسول وإلى من أناب إلى الله تعالى . أما في الآية الآتية: >وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ الله< (سورة الأنفال/47) فنُسِبَت السبيل فيها إلى الله عزّ وجلّ . فذلك يصدق عليه قول الشاعر :
عِبَارَاتُنَا شَتَّىٰ وحُسْنُكَ وَاحِدٌ
والصادقُ في الحبّ يعرف حبيبَه في كل حال يتلبّسها ، فالّذين فَهِمُوا الدينَ يعرفون الله تعالى من خلال الكتاب والسنة كليهما. هناك من يعتبر الحديثَ منفردًا من القرآن ، وهناك من يعتبر – مثلَ ذلك – الفقه منفردًا من القرآن ، والحقيقة أن الكلَّ واحد في شأن أنه يبيّن أحكامَ الدين . ومثاله في أن هناك عيادة للطب اليوناني العربي بمدينة لكهنؤ ،وعيادة أخرى له في دهلي، ولكنهما كلتيهما عيادتان للطب اليونانيّ العربيّ ، فكذلك القرآن والحديث والفقه كل من ذلك يختلف عن الآخر في الفروع ، ولكنه جميعًا يشمل الدين الإلهيّ . كما لايخرج كل من العيادة الطبية اللكهنوية والعيادة الدهلوية عن كونها عيادة للطب اليونانيّ على حين إنهما تختلفان في الفروع .
الغرض الحقيقي هو اتّباع الله
على كل إن السبيل التي دعاها الله بقوله >سبيل< دعاها في موضع آخر بقوله >سبيل من أناب إليّ< ومصداقُهما واحد . وكذلك قال تعالى في موضع : >ثـُمَّ جَعَلْنـٰـكَ عَلَىٰ شَرِيْعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا (الجاثيرة/18) وقال في موضع آخر: >اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيْمَ حَنِيْفًا< (سورة النساء/125) وليس المراد في كلا الموضعين إلاّ الشريعة المحمديّة التي إنما تعني الأحكام الإلهيّة . فينبغي للقوم أن لايستوحشوا من كلمة >اتّباع العلماء< التي إنما تعني اتّباعَ الأحكام الإلهيّة .
الجدير بالتأمّل في الآية الكريمة أن نبينا محمدًا ﷺ رغم أنه رسول و نبيٌّ مستقلٌّ يُؤْمَر باتباع ملّة إبراهيم . ومثلُ هذا الأمر إنّما يُوَجَّه إلى أفراد الأمة أن يتبعوا ملة نبيهم ، وذلك موقف صعب ، لايمكن تأويله إلاّ بما قلتُه آنفًا من أن المراد أكثر من لقب ، فأطلق عليها ههنا لقب >ملة إبراهيم< . والجدير بالذكر أن الشريعتين : الإبراهيمية والمحمدية متحدتان في كثير من الفروع ؛ من هنا أطلق على الشريعة المحمدية اسم >ملة إبراهيم< .
الانتساب إلى الأئمة الأربعة
ولذلك لابأس أن يُدْعَى مذهب ديني بالمذهب الشافعيّ أو المذهب الحنفي ، أو يقال إن الرأيَ الفلاني هو قول القاضي >خان< مثلاً . وفي هذا الموقف قد يقول العامّة : إن ذلك فتوى عالم وليس حكمًا من الأحكام الإلهية التي جاء بها الرسول ﷺ . والواقع أنه ليس فتوى العالم ، وإنما هو الحكم الإلهي الذي استخرجه العالم بعد التفكير العميق وإعمال الاجتهاد . ومن هنا ثبت أن >القياس مُظْهِرٌ لا مُثْبِتٌ ؛ فلزم اتّباع العلماء فيما بعد النبي ﷺ ، لأنه إن غابت الشمس فلا معدى لنا عن أن نستضيء بالسراج؛ فعندما انقطع الوحي لم تعد لنا حيلة سوى أن نتبع العلماء ، واتّباعُهم ليس اتّباعًا مستقلاً ، وإنما هو في الواقع اتباع لله ورسوله ؛ حيث إنهم دلّوا على أحكام الله ورسوله. ومهما كان ذلك في الظاهر اتباع سبيل من أناب إلى الله ؛ ولكنه في الواقع اتباع سبيل الله ورسوله .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الثاني 1428هـ = مايو 2007م ، العـدد : 4 ، السنـة : 31.