الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ سلمان بن فهد العودة / الرياض
هناك نصوص معروفة حين نتحدث عن العلماء في المفهوم الإسلامي، فالله عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عَبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، فهم أصحاب خشية الله، وهم (ورثة الأنبياء)، كما في حديث السنن، و (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، وثمة حديث مشهور احتج به الإمام أحمد وحسنه ابن عبد البر (يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين)، وفي هذا الحديث ضمانة ربانية بأن يبقي الله في كل عصر وزمان جماعة من أهل العلم والدعوة والإيمان يقومون بمهام الضبط وإعادة التوازن، ورسم خط الاعتدال، وفي الوقت نفسه هذا الحديث لا يمنح العلماء ولا طلبة العلم ولا الدعاة قداسة مُطلَقة أو عصمة أو اعتلاء على النقد، بل يحمِّلهم المسؤولية، ويكلفهم بأداء الدور والرسالة.
ثم إن هذه الوراثة العلمية لهؤلاء الذين ينفون عن الدين تلك العلائق والتحريفات تُقوِّض ما بُنِي على امتداد تلك العصور من الخرافات والأوهام؛ فهم عدول لهم علاقة بعصرهم، بدليل أنهم يعرفون تحريفاته وتأويلاته، وهم يعاصرون واقعهم؛ ليحصل لهم هذا التأثير والتمديد، فهم الأئمة القائمون على أمر هذا الدين الذي يرجعونه للأصل العام والمقاصد العليا، والثوابت المُحْكَمة ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.
وإذا كان علماء الإسلام في هذا العصر من الاختلاف والضعف العلمي والعملي والتشرذم وقلة الاتصال بقضايا الناس فكيف نلوم الناس وعامتهم، كما كان يقول عبد الله بن المبارك: يا معشر القراء ياملح البلد مايصلح الملح إذا الملح فسد.. إن على النخبة من الإسلاميين والدعاة والمفكرين أن يضعوا الخلاف في موضعه ليلتفتوا إلى حوادث الناس وقضايا العصر التي لا أقول بأنهاتتجدد مع كل شمس، بل مع كل لحظة، وتندلق كل ثانية رزمة من الكشوفات والفتوحات التي تحتاج إلى فقه فكري ذكي يقتحمها وفي جعبته كل مبادئه وعقائده وتراثه ليتواصل مع تراثه وعصره، وليفي بحقوق دينه ودنياه. إن المقدمة الرئيسة لإدراك الفقه الإسلامي والفكري والحضاري هي أن تضع الخلاف في موضعه وأن تتخلى عن شهوة تصعيد الخلاف الفرعي أو الاجتهادي أو الاجتماعي أو الدعوي أو الفكري، وألا تثقل الأصول بمشاكلنا الخاصة فنحيل كل اختلاف بيننا على مستوى العقائد والقدح فيها، ولا بد أن نقترب من بعضنا في تخفيف اللهجة الهدائية، واستعمال لغة العلم والمعرفة ، فرسول الله ﷺ يقول: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا)، فالتسديد هو أن تصيب كبد الحقيقة، والمقاربة هو الاقتراب منها، وذلك الفهم يرفع المسلم إلى مستوى من الوعي والنضج يستطيع به أن يلتقي مع أخيه المسلم الذي قد يقارب الحقيقة أو ربما يسددها .
وشيء آخر سأقوله: إن بعض علماء الإسلام ودعاته وطلبة العلم استهوتهم قيم الجدل والنقاش العلمي – مع أهميته وضرورته – عن قيم العمل والإصلاح، ونحن نجد أن أمم الأرض وشعوبها اليوم أيقنت أن العمل ضرورة للحياة وأن الوقت ثمين، وأن الجهد والإنجاز والإتقان أشياء رئيسة لبناء مجتمع قوي متماسك، بينما المسلمون الذين يقرؤون في كتابهم أهمية العمل هم أكثر المتقاعسين والمتكاسلين، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّاجَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَّإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾، فهو سبحانه خلق زينة الأرض ليمتحن الناس أيهم أحسن عملاً في استغلال واستخدام هذه الزينة.
إن هذه المفاهيم هي مقدمات رئيسة لإيجاد أرض علمية تصدر من الوحي المُنزَّل، وتحاول بكل جهدها وجهادها أن تمارسه على الواقع، مستفيدة من كل إيجابيات هذا العصر وثمراته كنوع من أنواع الهداية الربانية، يقول الله تعالى في سورة الفاتحة: ﴿اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فالمسلم يقرؤها وقد تحقق له الاهتداء المجمَل بالإيمان والإسلام؛ ولكن القرآن يعلمنا طلب الاهتداء المتجدد، واليوم يشهد الناس أشكالاً من المستجدات والمستحدثات على الجانب السياسي والعسكري والتقني، ويشهدون اجتهادات وتحولات في الأوضاع المتخلفة، وليس ضروريًا أن القيم العالية تجاه هذه الأشياء واضحة منتهية؛ بل هي تحمل قدرًا من الالتباس وحاجة للدراسة والتأمل، ومسألة التوازن المعاصرة علينا ألا نديرها دائمًا وفق القانون الذي تعودنا عليه، فعاداتنا في التفكير تؤثر على فهم هذه النوازل، والتقليد العلمي يقوم بدور سلبي تجاه هذه القضايا والأحداث والمستجدات .
ولا شك أن هذا العصر حفل بمتغيرات هائلة جدًا في جل مجالات المعرفة والعلم والتقنية، وكشوف كثيرة متتابعة، وهذه الكشوف والمعارف جعلت كثيرًا من المسلمين في حرج وتردد، وكثيرًا من العلماء وطلبة العلم في التباس أو تقليد.
فتراهم أحيانًا تجاه المستحدثات يترددون ويؤثرون جانب الورع أو الخوف أو يؤثرون السبيل الأسهل بالمنع خشية أن يسلقهم الناس بألسن حداد، فيتوقفون تجاهها أو يحجمون، فإذا أذنت بها الحكومات وتعاطاها الناس ودخلت البيوت وأصبحت جزءًا من الواقع بدؤوا ينظرون إليها بعين الاعتبار، ويتعاملون معها تعاملاً مختلفًا، ولاشك أن هذا التعامل المختلف الأخير مفهوم ومبرر غير أن المفترض في علماء الإسلام وفقهائه ودعاته وقادته أن يحملوا نوعاً من المبادرة في مثل هذه القضايا، مبادرة في قضايا العلم والتقنية التي حدثت اليوم واحتاج الناس معها إلى اجتهاد وفتوى، وقد يُسأل هؤلاء العلماء عن قضايا طبية، كالاستنساخ وطفل الأنابيب وتغيير جنس المولود، أو قضايا فلكية كالحساب والرؤية للهلال، أو تقنية كبعض الآلات والمنتَجَات أو غيرها فتجدهم يلوذون بالصمت، أو ربما غلب عليهم الورع الموهوم؛ لأن الورع الحقيقي هو أن يقدم أهل العلم والفهم، ويبادروا لمناقشة هذه القضايا بروح علمية وموضوعية هادئة، وكلما بعد وتكاسل أهل العلم والإسلام اتسعت الفجوة وابتعد الواقع عن هدي الإسلام، وهذه الطريقة المهمة في التعامل هي المعاصرة المطلوبة التي تتطلب لونًا وقدرًا من الاجتهاد والفقه، يقول الله عزّ وجلّ: (وَلَوْ رُدّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلىٰ أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَه الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَه مِنْهُمْ) .
لازلت أتذكر يوم أن كنت طالبًا لدى أحد مشايخي، وهو يتحدث عن المعتزلة والفِرَق الكلامية القديمة كلها، ويذكر مذاهبهم ووجوه الرد عليهم، فبادر أحد الطلاب بسؤاله عن مذهب الوجودية والاشتراكية والبعثية، فتبسم هذا الشيخ بعفوية، وقال: هذه اسألوا عنها الشيخ مناع القطان !.
إن حصر العلم والدروس في مجموعة من المشاكل والمذاهب العقدية والفكرية القديمة هو نوع من الهروب والبعد عن مشاكلنا المعاصرة، وليس من الذكاء والعبقرية أن نعرف جوانب عن عصر ابن تيمية – مثلاً – من خلال قراءتنا له ولتلاميذه أكثر مما نعرف عن واقعنا وعصرنا، والذي يفترض بنا أن نستفيد من طريقة ابن تيمية في فهمه لواقعه وعصره ومشاكل عصره الكلامية والفلسفية والسياسية والعلمية، وفي إدراكه للجو الثقافي والمعرفي والاجتماعي، بل والعسكري، لا أن نردد دون عمق آراءه وانتقاداته. إننا حين نفهم واقعنا فنحن أقرب إلى فكر ابن تيمية من أن نقتصر على القضايا الفكرية القديمة، أن نفعل ذلك بقدر المستطاع و﴿لاَ يُكَلَّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) .
إن الوسائل التقنية المعاصرة، سواء عبر الاتصال الأرضي أو الفضائي أو الإنترنتي أو غيره تتطلب منا عملاً جادًا لتوظيفها وفهمها، وصنع أسبقية قوية، فإرجاء البحث فيها أو تأخيره لا يساعده الواقع الذي يركض ولا يدع لأحد فرصة ليلتفت وراءه! .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الثاني 1428هـ = مايو 2007م ، العـدد : 4 ، السنـة : 31.