الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
هناك من يتعصّبون فيعملون بالجمود في تقليد الأئمة – رحمهم الله – فيتركون مقابل أقوال الأئمة حتى الأحاديث الصحيحة . إني يقشعرّ جلدي في مثل هذا الموقف . إن بعض هؤلاء قال في أحد أبياته بالفارسيّة ما يعني أنه سمع كثيرًا >قال قال< – إشارة إلى أسلوب نقل الرواية عن النبي ﷺ على لسان الصحابي الذي سمعه يقول – وهو إنما يود ما قاله إمامُه الذي يقلّده . فمثلُ هذا القول إساءة أيُّ إساءة إلى الحديث النبويّ وجراءة كبيرة عليه . وإني أدعو الله عزّ وجلّ أن يعيذنا من مثل هذا الجمود ؛ حيث إن أسلوب هؤلاء يؤكّد أنهم يحسبون إمامَهم هو المقصود مباشرةً ؛ فلو اعتبر أحدٌ هذا التقليدَ شركاً في النبوة ، لما كان ملومًا ؛ لأنه لم يخطئ في رأيه .
ولكنّ مكمنَ الخطأ في أن ينظر أحد إلى خطأ أمثال هؤلاء الجهلة المعدودين من مُقَلِّدي الأئمة ، فيتعبر جميعَ المقلدين مشركين في النبوة، على حين إن جميع المقلّدين ليسوا كذلك . وإنّ معنى التقليد لديّ أني أعمل بأقوال وإرشادات النبيّ ﷺ في ضوء ما قاله الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – في تأويلها وتوضيحها ؛ لأنه كان في الهداية والفقه على مكانة كبيرة لايسع أحدًا أن ينكرها ، وكونه فقيهَ الأمة مُسَلَّمٌ لدى الأمة، وعلومُه أيضًا تدلّ على ذلك دلالة واضحة . ولا أدري كيف يسوغ لأحد أن يحمل تقليدي لأبي حينفة إشركاً في النبوة ، على حين إن من يقف هذا الموقفَ من التقليد – الذي أقفه أنا – يكون الحديث النبوي هو المقصود أصلاً لديه ، ولايكون أبو حنيفة رحمه الله إلاّ واسطةً لفهم الحديث . والذي يزعم أنه يعمل بالحديث مباشرة دونما توسّط من الأئمة، فهو يعمل بالحديث بفهمه هو . ولاشك أن السلف الصالحين كانوا يفوقوننا إيّانا وإيّاكم في كل من العقل والفهم ، والورع والتقوى ، والأمانة والتدين ، والخوف من الله ، والعمل بالتحفّظ في كل من شؤون الحياة . فقولوا لي: العمل بالحديث عند من يكون أكمل : عند السلف الصالحين أو عندنا نحن . أو بكلمة أخرى : عندكم أنتم الذين يعملون بالحديث على ما يفهمون أو عند المقلدين الذين يعملون به على ما فهمه السلف الصالحون ؟!. والحكم في هذا الصدد نتركه إلى من يتبنَّون الإنصاف . وعلى كل إن التفسير الذي قلت به في شأن >التقليد< تفسير ذو قيمة كبيرة ينبغي أن يعيَها المعنيون بالأمر.
اعتراض وتفنيده
أما ما يقوله المدّعون للعمل بالحديث من أنكم أيها المقلدون ! قد يُعْرَضُ أمامكم حديث نبوي، ولكنكم لا تعملون به لمجرد أن قول إمامكم يعارضه ، مما يؤكّد أن اتّباع الحديث ليس مقصودًا عندكم أصلاً ، وإنما المقصود أصلاً هو تقليد قول الإمام .
والردّ على هذا الاعتراض أن القضية المختلف فيها تختلف فيها الأحاديث . والحديث الذي قد تعرضونه علينا إذا لم يكن العمل لدينا به، فإنه يكون بحديث آخر في الباب ، ولكنكم لاتعملون به أنتم ، ونحن نعمل به ، فالاعتراض لايعود علينا وإنما يعود عليكم أيضًا ؛ حيث تركتم العمل بالحديث الذي نأخذ به في هذا الباب . أما قولكم إن الحديث الذي نأخذ به مرجوح والحديث الذي تأخذون به راجح ، فأقول : إن الترجيح عماده الذوق ، فهناك حديث ترونه راجحًا ، بينما يرى أبو حنيفة رحمه الله غيرَه راجحًا . وإن رأيَ أبي حنيفة أقوى وأسلم لدينا من رأيكم أنتم ؛ فقولكم بأنكم عاملون بالحديث وأن مقلدي الأئمة لايعملون به ، هو تعنّتٌ منكم لاغير . ومن ثم نقول: ما المراد من العمل بالحديث ؟ هل المراد به العمل بجميع الأحاديث أو ببعضها ؟ إن قلتم: المراد: العمل بجميعها فهذا ما لاتعملون به أيضًا. وذلك لايمكن أحدًا ؛ لأن الأحاديث المختلفة والآثار المتعارضة لايمكن فيها العمل بجميعها. وإن قلتم: المراد: العمل ببعضها فإننا أيضًا عاملون بالحديث بهذا المعنى ، فكيف يجوز لكم أن تسمُّوا أنفسكم عاملين بالحديث ، وتسمُّون غيركم غيرَ العاملين بالحديث .
القضايا الاجتهادية
والأمر الثاني الذي ينبغي وضعه في الاعتبار في هذا الموضوع أن القضايا المنصوص عليها قليلة جدًّا ، ومعظم القضايا اجتهادية . وقد علمنا أن المدعين للعمل بالحديث هم الآخرون يفتون في شأنها – القضايا الاجتهادية – بكتب الفقه الحنفي، ويعملون به ، أو يرجعون إلى كتب فقه الأئمة الآخرين ، فصرتم أنتم – يا من تُسَمُّوْنَ أنفسَكم >غَيْرَ المُقَلِّدين< – أيضًا مقلدين في معظم القضايا ؛ فما بالكم تمارسون التقليد، وتتحرجون من النطق بكلمة >التقليد< وترون ذلك حرامًا وغير جائز .
وإن ادّعى أحد أنّه يعمل فقط بالأحاديث المنصوص عليها وفي إطارها يفتي ، فليسمح لي أن أُوَجِّه إليهم – أي غير المقلدين – أسئلة في كل من المعاملات وعقد النكاح والفسخ والشفعة والرهن وما إلى ذلك ، ولتكن إجابتهم عنها من الأحاديث الصريحة المنصوص عليها . إنه لن يتمكن من الإجابة من الأحاديث إلى يوم قيام الساعة . وإذًا فإما إنه يجيب صادرًا عن قول إمام من الأئمة ، فــذلك هو التقليد ، وإما يقــول : إن الشريعة لاتنطق بحكم في مثل هذه القضايا . وذلك سيتعارض مع قوله تعالى : >الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيْنًا< (سورة المائدة/3) ومن ثم تأكّد جوازُ الاستنباط والقياس ؛ لأن الله عند ما قال إنه أكمل الدين، وَجَبَ أن لا توجد قضية لايكون حكمها في الشريعة. ومن الواضح أن المسائل المنصوص عليها قليلة فلا يعني إكمال الدين إذًا إلاّ أن تسمح الشريعة بالاستنباط والقياس على القضايا المنصوص عليها ، ليعلم حكم قضية غير منصوص عليها . ومن هنا اتّضح خطأ من يرفض الاستنباط والقياس مطلقًا . وبعضُ الأحاديث التي تذم القياس ، فهو القياس الذي يعارض مبادئ الشريعة ، أي لايوجد له أصل في القضايا المنصوص عليها ، ويكون منشؤه رأي من يقيس . والقياس الذي يصدر عن أصل في الشريعة لم يُذَمَّ قط ؛ وإلاّ فيستلزم ذلك انتقاصَ الدين الإسلامي وقد أعلن ربّ العزّة إكماله .
الإجابةُ عن أن التوسّل كيف يُؤَثَّر
في اجترار رحمة الله عَزَّ وجَلَّ
أسلوبُ التوسّل بالصلحاء الذي يعني أن يقول أحد : اللهم ! ارحمني بوسيلة العبد الصالح فلان ، حقيقتُه : أن القائل يقول : اللهم ّ إن فلانًا عندي عبد صالح محبوب لديك ، والمحبوبون لديك قد وعدتَ بالرحمة في شأنهم بموجب >المرأ مع من أحبّ< فإني أسألك هذه الرحمةَ . فالتوسل معناه أن السائل رحمةَ الربّ يبدي حبَّه لأولياء الله ، ويسأل الله على هذا الحبّ رحمتَه ؛ لأن حبَّ الأولياء ذريعةٌ للرحمة والثواب . والأحاديث تؤكد كثيرًا فضائل المتحابين في الله ؛ فارتفع الاعتراض الذي يقول: ما هو فعل صلاح الصالحين في توجّه رحمة الله إلى العبد ؟ وقد اتضح الفعلُ بأن حبّ العبد الصالح المعنيّ فرد من أفراد الحبّ في الله تعالى. وقد وَعَدَ الله بالأجر على حبّ العبد في الله. وهذا التأويل الذي قمتُ به لمعنى التوسّل مبادؤه جميعها صحيحة ، ولو اطّلع عليه شيخ الإسلام العلامة ابن تيمية رحمه الله ، لما أنكر التوسل؛ لأنه إنما أنكره نظرًا لحالة الجهلة في زمنه الذين كانوا يستغيثون بالأولياء ويستعينون به .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1428هـ = أبريل 2007م ، العـدد : 3 ، السنـة : 31.