الفكر الإسلامي

بقلم :  الدكتور محمد بكر إسماعيل

       لقد كلّف الله سبحانه عباده بتكاليف، فأمرهم ونهاهم، وأرشدهم وأدّبهم، وما ذلك إلا لمصالحهم، ليس إيجابًا على الله تعالى من خلقه، فالله سبحانه يفعل مايشاء ويختار، لايُسْئَل عما يفعل وهم يُسْئَلون ؛ لكنه الحكيم الرحيم الغني، فهذه التكاليف لاتعود عليه سبحانه بمنفعة ولا تدفع عنه ضرًا، سبحانه وتعالى، هو الغني قبل خلق الخلق وبعده، فمن يستقرئ تكاليف الشرع يجد أنها إنما شُرِعَتْ تحقيقًا لمصالح العباد في العاجل والآجل، فضلاً من الله ونعمة؛ لأن الله تعالى لو أَمَرَنا أو نَهانا، أو كلَّفَنا بما لا يعود بمصلحة علينا، لكان واجبًا علينا الطاعة، بمقتضى أنه خالقنا ورازقنا ويُدبِّر أمرنا، فهو ربنا وإلهنا فلو عبدناه ليل نهار لما قمنا بشكره على نعمة من نعمه؛ ولكن الله سبحانه ذو الفضل العظيم، فجعل فيما كلفنا به مصالحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة، فأراد الله تعالى بإنزال الشريعة تحقيق مصالح خلقه، وهذه المصالح والمقاصد ثلاثة أقسام بحسب أولويتها ورتبتها:

       ضرورية حاجية تحسينية(1)

       وإليك بيان هذه الأقسام :

أولاً : المقاصد الضرورية ومُكَمِّلاتها :

       معناها: هي مالا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقِدَتْ لم تجْر مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين(2).

       مثالها: حفظ الدين بالعبادات المشروعة، كالإيمان بالله تعالى، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والجهاد، وقتل المرتدين، وغير ذلك .

       وحفظ النفس والعقل، بتناول المأكولات والمشروبات المباحة، والمسكن، وتحريم القتل بغير حق، والقصاص، والحدود. وغير ذلك.(3)

       عددها:

       الضروريات خمسة: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال . وهي مراعاة في كل شريعة.(4)

       كيفية حفظ الضروريات :

       حفظ الضروريات يكون بأمرين:

       أحدهما : مراعاتها في جانب الوجود، وذلك بأن جاءت الشريعة بما يقيم أركانها ويثبت قواعدها .

       فمثلاً: الإيمان بالله تعالى، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، كل ذلك وغيره يحفظ الدين في جانب الوجود .

       وتناول المأكولات والمشروبات المباحة، ولبس الملابس المباحة، والسكن في مساكن، وغير ذلك، حفظ للنفس في جانب الوجود .

       ثانيهما : مراعاتها من جانب العدم، وذلك بأن جاءت الشريعة بما يُدْرأ عنها الاختلالُ الواقع أو المتوقع فيها.(5)

       فتحريم الكفر، وحد الردة ، والجهاد ، وغير ذلك ، حفظ للدين من العدم .

       والقصاص، والديات، والتوعد بالنار على القتل العمد، وغير ذلك، حفظ للنفس من العدم.

       وحرمة شرب الخمر، والحدّ عليه، وكذا حرمة كل مسكر، حفظ للعقل من العدم.

       وحرمة السرقة، وحدّها بقطع يد السارق، حفظ للمال من العدم.

       وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى في الباب القادم .

مُكمِّلات وتتمات الضروريات :

       يلحق بالضروريات ما هو كالتتمة والتكملة لها، مما لو فُرض فقده لم يخل بحكمتها الأصلية؛ لكن وجودها مُتمِّم للحكمة والمصلحة منها.

       مثل: إظهار شعائر الدين، كصلاة الجماعة في الفرائض، وصلاة الجمعة، وهذا في جانب الوجود .

       ومثل: التماثل في القصاص، فإنه لا تدعو إليه ضرورة، ولا تظهر فيه شدة الحاجة؛ ولكنه تكميلي، أي مُكَمِّل لحكمة القصاص، فإن قتل الأعلى بالأدنى مؤدِّ إلى ثوران نفوس العصبة، فلا يكمل بدونه ثمرة القصاص من الزجر والحياة التي قصدها الشرع منه .

       ومثل تحريم قليل المسكر؛ لأنه بما فيه من لذة الطرب يدعو إلى الكثير المضيع للعقل، فتحريم القليل تكميل لحكمة تحريم الكثير.(6) وهذا في جانب العدم .

ثانيًا: المقاصد الحاجية ومُكَمِّلاتها :

       معناها: ما يُفْتَقر إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المُؤَدِّى في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراع دخل على المكلَّفين في الجملة الحرج والمشقة؛ لكنه لايبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة(7).

       فمعنى ذلك أن الحاجيات إن لم تراع لم تفسد حياة الناس، وعاشوا محقِّقين لمصالحهم؛ لكن يكون تحقيق المصالح بمشقة وضيق وحرج.

       وإنما قال: في الجملة؛ لأن هذا الضيق والحرج لايلحق كل المكلَّفين ؛ بل قد يلحق البعضَ دون البعض .

       مثالها: الرخص في المرض والسفر، إذ يمكن للمريض أوالمسافر أن يؤدي العبادات بدون الرخص؛ لكن يلحقه مشقة وحرج، وهذه المشقة والحرج في هذه الحالة لا تلحق كل المكلَّفين، وإنما تلحق المريض والمسافر فقط .

       ومثل : القراض والسلم، فيمكن للناس أن يعيشوا بدونهما؛ لكن يلحق المحتاج إليهما مشقة وحرج، وهذه المشقة في هذه الحالة لاتلحق كل المكلَّفين، وإنما تلحق من كان في حاجة إلى القراض أو السلم فقط، ولذا قال في تعريفها: دخل على المكلفين في الجملة .

مُكَمِّلات وتتمات الحاجية :

       يلحق بالمقاصد الحاجية ما هو كالتكملة والتتمة لها، بحيث لو فُقِد لم يخل بالمصلحة الحاصلة منها؛ لكن وجوده مُتمِّم للمصلحة المقصودة منها.

       مثل : الجمع بين الصلاتين في السفر. فهو متمم للتوسعة والتخفيف على المسافر.

       ومثل: اعتبار الكفاءة في النكاح ، فهو مُتمِّم للغرض المقصود منه؛ لكن لا تدعو إليه الحاجة كما تدعوا إلى أصل النكاح .

       ومثل: الإشهاد والرهن في البيع الذي ليس من الضروريات ، فهو من باب التكملة له.(8)

ثالثًا : المقاصد التحسينية ومُكمِّلاتها :

       معناها : الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات. ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.(9)

       هذا تعريف الشاطبي رحمه الله لها، وقد خصَّها بالعادات، مع أنه قال إنها جارية فيما تجري فيه الضروريات والحاجيات من العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. ولذا فتصحيح التعريف بما يوافق جريانها في ذلك كله يستدعي التمحل في توسعة معنى العادات حتى تشمل كل ذلك . وهذا بعيد .

       والأولى أن يقال: هي الأخذ بما شرعه الله تعالى من المحاسن في العبادات والمعاملات والعادات، سواء في جانب الفعل أو الترك .

       فتشمل بذلك العبادات وغيرها، إذا المعاملات تشمل الجنايات.

       ولا شك أن ما أتى به الشرع كله محاسن، والأخذ بما أمر به أو حث عليه قد يكون واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا، واجتناب ما نهى عنه قد يكون واجبًا فيكون الفعل حرامًا، أو مندوبًا فيكون الفعل مكروهًا.

       إذاً تجري في هذا القسم جميع الأحكام، لا كما يتوهم من اسمها أنها قاصرة على المستحبات. كما سيأتي في التنبيه .

       مثالها: الطهارات، وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات في العبادات .

       ومنع بيع النجاسات، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها، ومنع قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد، ومنع قتل الحر بالعبد، في المعاملات .

       وآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل والمشارب النجسة والمستخبثة في العادات.(10)

تنبيه :

       لا تعني المقاصد التحسينية أنها مما يَحْسُن فعله أو اجتنابه، كما قد يتبادر من اسمها، أو من ترتيبها ؛ بل فيها ما هو واجب، أو شرط صحة في عبادة ، كما سبق في الأمثلة من الطهارة وستر العورة، أو ما هو حرام كبيع النجاسات، أو أكل أو شرب ما هو نجس أو خبيث .

       ذلك أننا نتكلم عن المقاصد من الأحكام ، والمقصد الواحد يأتي من أحكام كثيرة : واجبة، ومندوبة ، ومحرمة ، ومكروهة ، بمعنى أن الشرع أتى بأحكام متنوعة تؤدى إلى تحسين الأخلاق والأحوال ، لا أننا – هنا – نتكلم عن الأحكام فنقول هذا مستحب أو مندوب . فليتنبه لهذا .

       مُكمِّلات التحسينية : وهي ما تؤدي إلى تتميم الحكمة والمصلحة المقصودة منها .

       مثل : آداب قضاء الحاجة، ومندوبات الطهارة، واختيار الأفضل في الضحايا والعقيقة والعتق.(11)

تنبيه :

       كل تكملة فلها – من حيث هي تكملة – شرط ، وهو :

       أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، فإذا كان اعتبار التكملة سيُفضي إلى رفض أصلها وإبطاله ، فلا يصح اشتراطها أو اعتبارها وسيأتي لذلك مزيد تفصيل وتمثيل في التعارض بين المقاصد الثلاثة وما الذي يقدم في هذه الحالة. إن شاء الله تعالى .

*  *  *

الهوامش :

  • انظر الموافقات 2/8 .
  • السابق .
  • انظر : الموافقات بتعليق الشيخ دراز 2/8 وما بعدها .
  • السابق 10، المستصفى بتحقيق د/ حمزة بن زهير 2/483.
  • الموافقات 2/8 .
  • الموافقات بتعليق الشيخ دراز 2/12 .
  • انظر : الموافقات 2/13 .
  • الموافقات 2/11 .
  • انظر الموافقات 2/11، 12.
  • السابق 2/13 .

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1428هـ = أبريل  2007م ، العـدد : 3 ، السنـة : 31.

Related Posts