دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور محمود محمد بابللي
من هذا المبدأ العظيم – مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – وجُد في الدولة الإسلامية ولاية عُرِفَت باسم (ولاية الحسبة)، والقائم عليها يُسمَّى والي الحسبة، وهي المستند التطبيقي لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
1- تعريف الحسبة :
الحسبة تعني أن يحتسب الإنسان أجره عند الله فيما يقوم به من عمل الخير، أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر، أي يدّخر أجره عند الله، فلا يقبل على عمله أجرًا ويُسمَّى فاعلها محتسبًا. أو هي: (رقابة إدارية تقوم بها الدولة عن طريق موظفين خاصين، على نشاط الأفراد في مجال الأخلاق والدين والاقتصاد، أي في المجال الاجتماعي بوجه عام، تحقيقًا للعدل والفضيلة وفقًا للمبادئ المقرَّرة في الشرع الإسلامي وللأعراف المألوفة في كل بيئة وزمن)(2)
2- مسوّغات وجود هذه الولاية :
إن الحسبة بمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرضها الله على عباده في كتابه الكريم، فأمر بها وحضّ عليها بأساليب مختلفة، وكان اختلاف الأساليب وتعددها دليل ظهور فرضيتها. وإنها في المكانة في مصافّ الفروض التي قام الأسلام عليها .
(ومن موجبات هذه الولاية أنه إذا تُرك كل شخص على هواه فأتى بالأفعال كما يشاء وما يريد، وقصد إلى ما يشتهي دون حدود وقيود، أو تُرك الظالمون ؛ فلم يؤخذ على أيديهم، ولم يُقمَع المعتدون، ولم يقُضَ على الدجالين، ولم يكن للخير داع، ولا للمنكر رادع، ولا للشر جزاء وزاجر؛ عمّت الفوضى وساءت الحال، واضطرب الأمر واستشرى الفساد، وعمّت الضلالة .. وكل ذلك يؤدي في النتيجة إلى خراب البلاد وهلاك العباد .
وإن لمثل هذه المسوّغات شرعت الديانات وقامت النبوّات، وظهرت الرسالات آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر؛ ليكون الأمن والسلام، والاستقرار والنظام، وصلاح العباد والنجاة، من العذاب .
قال الله تبارك وتعالى:(3) ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَاذُكِّرُوا بِه أَنْجَينَا الَّذِيْنَ يَنْهَونَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِيْنَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَّئِيسٍ﴾.
ومن هذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل النبيين والمرسلين، وطريق المرشدين الصادقين، ومنهاج الهادين الصالحين، وكان أمرًا واجبًا، وشريعة مُلزَمة ومذهبًا واجبًا، سواء في ذلك أُسمِّيت بهذا الاسم أم سُميّت باسم آخر، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(4)
ولما كانت الحسبة أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر – أي تدخل من السلطة في الأمور التي تقتضي التوازن – فاقتضت أن يكون لصاحبها ولاية، أي سلطة؛ ذلك ؛ لأن كلاً من الأمر والنهي لايصدر إلا عن ولاية، وإلا ما استوجب سمعًا ولاطاعة .
3- المستند الشرعي لولاية الحسبة :
لقد شُرِعت الحسبة طريقًا للإرشاد والهداية وتوجيه الأمور إلى ما فيه صلاح المتعاملين، وحين يصدر الأمر والنهي من غير ولاية لايؤبه له، ويكون لغوًا من القول، لايؤدي الغرض من الحسبة ولا الحكمة من إيجابها .
ويــدل على ثبوت هذه الولاية لمن طُلِبت منه الحسبة قوله ﷺ: >من رأى منكم منكرًا فلْيُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان<(5) وغالبًا مايكون صاحب اليد هو السلطان وصاحب اللسان هم العلماء .
ويقول عليه الصلاة والسلام : >والذي نفسي بيده لتأمرّن بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابًا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم<(6) وهذا توجيه أيضًا لولاة الأمر وللعلماء كل حسب اختصاصه .
وعنــه عليــه الصلاة والسـلام أنه قال: >إيّاكـم والجلـوس بالطــرقات ، فقالوا : يارسول الله مالنا من مجــالسنا بـدّ نتحــدّث فيها، فقال : إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقِّه. قالوا: وماحق الطريق يارسول الله؟ قال: غضّ البصر وكفّ الأذى وردّ السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر<(7)
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (يا أيها الناس أنكم تقرأون هذه الآية – ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا عَلَيكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيتُمْ﴾(8). وإني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: >إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه<(9).
وإن الآيات القرآنيّة بهذا الصدد عديدة، وجميعها تشير إلى اتّصاف المؤمنين والمؤمنات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأبرزها الواردة في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الْخَيرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُؤلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(10).
فإذا تعيّن المحتسب من قبل وليّ الأمر كان ذلك تكليفًا له ، ووجبت طاعته فيما تولاه؛ لأن طاعته إضافة إلى أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مستمدة من وليّ الإمر، صاحب الكلمة المطاعة في الرعية، وهو بحكم ولايته العامّة له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مباشرة دون تخصيص؛ لأنه وليّ أمر الأمة في جميع شؤونها، وهذا من أولى واجباته .
4- مجال ولاية الحسبة :
إن مجال ولاية الحسبة يشمل كل أمر ظهر خلافًا لما يأمر به الشرع مالم يدخل تحت ولاية القضاء، أو ولاية المظالم ومن هذا الإطلاق نستطيع أن نتبين مجالات الحسبة وأنها تتعلق بالنهي:
- عن بخس الناس أشياءهم .
- وعن التطفيف بالكيل والميزان .
- وعن الغبن أو التدليس أو الغشّ أو الغرر أو النجش ..
- أو عن مطل الغني، وماشابه ذلك من الأمور التي يستطيع المحتسب مباشرتها بنفسه دون حاجة إلى استشهاد أو مجلس قضاء؛ لأنها تتعلق بمنكر قد انكشف له أمره واتضح .
وكذلك في مجالات العبادة، فله حق أمر الناس:
- بحضور صلاة الجماعة في مواقيتها .
- وبتعاهد الأئمة والمؤذنين بأن لايجري منهم أي تفريط أو تأخير لما هم مؤتمنون عليه .
- وأن يأمرهم بالجمعة والعيدين .
- وأن يستمع إلى الوعّاظ وإلى مايقولونه، وهل هم أهل لذلك .
- وأن ينهي الناس عن مواطن الشبهات .
- أو الإشراف على منازل الآخرين .
- أو التعرّض للنساء في الطرقات والأسواق.
- أو الإساءة إلى الحيوانات بمختلف أنواع الإيذاء .
- أو رمي الأذى في طريق المسلمين .. أو رمي الأقذار من النوافذ على الطرقات وعلى المارة .
- أو امتهان مهنة ليس من أربابها .
- أو الإساءة في تربية الأولاد.. إلى آخر ذلك مما توسعت بسرده كتب الحسبة.
وقد صدرت كتب عديدة مستقلة في موضوع الحسبة، كما ورد بحثها في كتب الأحكام السلطانية، وفي كتب الفقه بصورة عامة، لأهمية موضوعها، وعلاقته بوجوب تدخل الدولة في إعادة التوازن إلى المصالح الفردية عند تضارب بعضها ببعض، أو تحقيق المصلحة عند وجوبها.. إلى آخر ماسيرد معنا عند البحث في الموضوع المخصَّص لذلك .
5- نظرية ابن تيمية في تدخل الدولة في الفعاليات الاقتصادية
استخلص الاستاذ محمد المبارك في دراسته عن (الدولة عند ابن تيمية)، أن ابن تيمية استطاع أن يكون المجلي في الإجابة عن مسألة تدخل الدولة في الفعالية الاقتصادية في نظر الإسلام حتى بالنسبة لمن كتبوا في هذا الموضوع من أبناء هذا العصر، فقد عالج المسألة في صميمها :
هل للدولة أن تحدّ من حرية الفرد الاقتصادية في التملك والعمل؟
ما هي حدود مابين الفرد والجماعة في النشاط الاقتصادي ؟
ماهو مدى التدخل إذا كان جائزًا ومفيدًا في نظر الإسلام؟
ولئن كانت هذه القضية معروفة في الفقه الإسلامي قبل ابن تيمية بقرون، فإن ابن تيمية استطاع أن يُكوّن من جزئيات هذه الأحكام نظرية عامّة، وأن يستنتج منها اتجاه الإسلام العام في هذه القضية الهامة التي تثير اليوم اهتمام العالم، حكوماته وهيئاته العلمية وأفراده .
وإليكم نظرية الإسلام كما يراها ابن تيمية :
أولاً : للأعمال جميعها قيمة اجتماعية تكافلية ، ولذلك كان لوليّ الأمر أي للدولة، أن تجبر عليها إذا كانت ضرورية للمجتمع. إذ هي في هذه الحالة فرض كفاية، ووليّ الأمر هو الذي يحدّد من تقع عليه مسؤوليةُ القيام بها، وهو الذي يــوزّع الأعمال ويخصّص بهـا أناسًا مُعيَّنين يقومون بها.
قال ابن تيمية في كتابه الحسبة :
(إن هذه الأعمال هي فرض على الكفاية مالم يقم بها غير إنسان صارت فرض عين عليه؛ لاسيما إن كان غيره عاجزًا عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبًا يجبرهم وليّ الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل)(11).
وقال أيضًا: (والإمام لو عيّن أهل الجهاد للجهاد تعيّن عليهم)(12).
فالأصل في نظر ابن تيمية في هذه الأعمال الحرية، مادامت الحاجة مؤمَّنة، وإلا وجب تدخل الدولة في الأمر لتأمين الحاجة بالإجبار والتخصيص.
والأعمال التي يقصدها ابن تيمية مطلقة غير محدودة، كما يُفهَم من الأمثلة التي أوردها من تحضير النسيج والطعام والمساكن، والقيام بالجهاد والعلم، والقيام بالولايات كلها، أي بوظائف الدولة، حتى غسل الموتى وتكفينهم)(13).
(وبذل منافع البدن عند الحاجة، كما يجب تعليم العلم وإفتاء الناس وأداء الشهادة والحكم بينهم)(14).
ثانيًا : يجب إعداد من يصلحون لهذه الأعمال ويقومون بها إذا لم يوجدوا .
وقال في كتاب (السياسة الشرعية) : ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس مالابد لهم منه، من أمور الولايات والإمارات ونحوها .. كم يجب على المعسر السعي في وفاء دينه .. بخلاف الاستطاعة في الحج فإنه لايجب تحصيلها ؛ لأن الوجوب هناك لايتم إلا بها)(15).
ثالثًا : القيمة الاقتصادية الناشئة للأشياء والأعمال ذات حكم واحد، تترك للحرية الفردية مادام العدل قائمًا، بأن تكون الأشياء الضرورية موجودة ومبيعة بسعر عادل، والأعمال قائمة ومقدّمة كذلك بأجور عادلة بالنسبة للطرفين، فإذا حدث جور وجب تدخل وليّ الأمر في تحديد أسعار الأشياء وأجور العمال، إذا لم يحصل المقصود بذلك يجبر البائع بالثمن المحدَّد والإنسان على العمل بالأجرة العادلة، فإن لم يكن ذلك تصادر الأشياء وتباع بثمن المثل، ويُجبر على العمل ويُدفع له العوض العادل..)(16).
ثم يستشهد الأستــاذ المبــارك بما قــالـه الإمام ابن تيمية بهذه الموضوعات ويشير إلى أماكنها في كتاب الحسبة، مما يجعل من هذه الاستشهادات مُرتكزًا لمن أراد الكتابة فيها، والتوسع بمضمونها، ثم أخرج الأستاذ المبارك كتابًا مستقلاً بعنوان: (الدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية) بتاريخ 1967م، أي بعد سبع سنوات من كتابة بحثه الذي ألقاه في (أسبوع الفقه الإسلامي ومهرجان ابن تيمية) في جامعة دمشق عام 1960م .
وقد توسع الأستاذ المبارك في كتابه المذكور في وظائف المحتسب واختصاصاته، وفي نظرات ابن تيمية الاقتصادية المبتكرة حول السعر، وآثار التدخل في الأسعار، وفي تحديد الأجور والنظرة الاجتماعية للعمل، وفي مبدأ العمل .
مما يجعل من كتابة المذكور متممًا لبحثه الذي سبق به كل من كتب – في تدخل الدولة في الأمور الاقتصادية – حسب اطلاعنا .
* * *
الهوامش :
- الولاية : بمعنى السلطة وهي تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، يتولاها من يسوس أمور الناس بالعدل وينفذ عليهم العقوبات . أما ولاية الحسبة، فهي سلطة خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومها العام .
- من كتاب (الدولة والحسبة) عند ابن تيمية للأستاذ محمد المبارك ص 73.
- سورة الأعراف الآية 165 .
- من كتاب (أسبوع الفقه الإسلامي ومهرجان ابن تيمية) بحث للأستاذ الشيخ الخفيف ص 555 .
- أخرجهما الإمام الترمذي .
- أخرجهما الإمام الترمذي .
- أخرجه الإمام البخاري .
- سورة المائدة 105 .
- أخرجه الإمام الترمذي .
- سورة آل عمران الآية 104 .
- ص 19 .
- ص 23 .
- ص 17 و 18 .
- ص 32 .
- ص 105 .
- ص 870 من كتاب (أسبوع الفقه الإسلامي ومهرجان ابن تيمية) .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1428هـ = أبريل 2007م ، العـدد : 3 ، السنـة : 31.