دراسات إسلامية
بقلم : أ. د/ أحمد شلبى / جمهورية مصر العربية
في الحديث الماضي تكلّمنا عن ثلاثة من مشاهير المسلمين في علم الجغرافيا، وهم ابن خرداذبة والبلخي والاصطخري، ووضحنا جهودهم في هذا المجال، والخرائط الدقيقة التي رسمها كل منهم، ووصف البلدان التي تقع على هذه الخرائط، وما تشتهر به من حاصلات.
ونستمرّ اليوم في دراستنا عن الجغرافيين المسلمين، فنتحدث عن ابن حوقل والإدريسي وياقوت، وسنرى كيف لم يقنع ابن حوقل بدراسة المسالك والممالك في العالم الإسلامي، بل امتدّ جهده إلى بلاد غير المسلمين، ولذلك سُمِّيَ كتابه >صورة الأرض< .
وأما الإدريسي فقد جسّم خرائطَه وحفرها على قطعة من الفضة ، ووصل بذلك إلى مستوى رفيع لم يُسبق إليه وفيما يلي تفاصيل هذا النشاط:
ابن حوقل :
هو >أبو القاسم محمد بن حوقل<، وُلِدَ ونشأ في مدينة >الموصل< شمالي العراق، ثم رحل إلى بغداد حيث نال قسطاً من الثقافة، وبدأ رحلاته بالخروج من بغداد بقصد السياحة والتجارة، وكان ذلك سنة 331هـ، وطالتْ رحلاته وأسلمتْه أرض إلى أرض مدة تزيد عن ربع قرن، شملت رحلاته: بلاد العراق من الجنوب إلى الشمال، ثم بلاد فارس، ثم اتّجه إلى إفريقية وأوروبا، فزار دول الشمال الإفريقي والأندلس.
وعاصر من الجغرافيين الرحالة الاصطخري وتعرّف عليه، واطّلع على كتابه >المسالك والممالك<، فاتجه ابن حوقل لهذا النوع من الدراسة؛ ولكنه غامر وزار بلادًا كثيرةً، فيها شيء من الخطورة ولذلك أسمى كتابه >المسالك والممالك والمفاوز والمهالك<.
وقد طُبِعت أجزاء من هذا الكتاب المهم في >ليدن< بهولندا، وفي >بون> بألمانيا وكان ذلك سنة 1871م، وتُرجِمت أجزاء من هذا الكتاب إلى عدة لغات أوروبية. وكذلك إلى اللغة الفارسية، ولابن حوقل كتاب آخر عنوانه >صورة الأرض< وفيه يضع الخرائط لكثير من البلدان بالعالم، وتُوُفِّيَ ابن حوقل سنة 367هـ – 977م .
الإدريسي :
هو >أبو عبد الله محمد بن أحمد<، ويُلَقَّب بالشريف، إذ ينتهى نسبه إلى >الحسن بن علي< – رضي الله عنهما – .
وقد وُلِد في >سبتة< على المضيق الذي يفصل إفريقيــة عن أوروبا، وطاف بـلادًا كثيرة منها >أوروبا< و>آسيا الصغرى< وأراضي حوض البحر المتوسّط، ثم استقرّ في بلاد روجر الثاني في >بالرما< بصقلية، عندما كانت اللغــة العــربيـــة لاتـزال شائعة في هــذه البـلاد، وعندما كان بلاط الملك لايزال متأثرًا بالثقافة الإسلاميّة التي سيطرت على الجزيرة ردحًا من الزمن.
وفي >بالرما< اتّجه لرسم الخرائط ؛ ولكن على شكل جديد لم يُسبَق إليه ؛ فقد حفر خريطة للعالم على أسطوانة من الفضة الخالصة ، كما صنع كرة فلكية من الفضة أيضًا .
ثم صنّف كتابه الذي يشرح معالمَ هذه الكرة وتلك الخريطة وأسماه >نزهة المشتاق في اختراق الآفاق<، وهو وصف للأرض اعتمد فيه على مشاهداته الخاصّة ، وعلى تقرير نفر من الخبراء بعث بهم >روجر< إلى مناطق متعدّدة يصاحبهم الرسّامون ، وأخذ الإدريسي يتلقّى تقاريرهم ويسجّلها مما جعل كتابه السابق أهم الأعمال الجغرافيّة في عصره ؛ إذ كان نتاج جهده ونتاج جهد عدد من الخبراء المرموقين .
وقسَّم >الإدريسي< العالمَ في كتابه إلى سبعة أقاليم مناخية ، ثم قسّم كلاً منها عشرة أقسام من الغرب إلى الشرق ووضع لكل قسم خريطة ، بالإضافة إلى الخريطة العامة ، ومن هذه الخرائط استخرج >ميلر< خريطة >الإدريسي< ونشرها، وقد أعاد المجمع العلمي العراقي خريطة >الإدريسي< إلى أصلها العربي بعد تصحيح لما وقع في عمل >ميلر< من هانت ، ونشرها المجمع العلمي بطول مترين وعرض متر سنة 1951م .
وللإدريسي كتاب آخر في الصيدلة عنوانه >الجامع لصفات أشتات النبات< وقد ساعدته معارفه ورحلاته الجغرافية في جمع مادّته ، وأشار فيه إلى أنه استعان بكثير من الكتب التي سبقته في العقاقير .
ومن أبرع ما وصل إليه الإدريسي أنه رسم خريطة لنهر النيل ، أبرز عليها منابع النيل الأصلية التي اكتشفها الأوروبيون بعد قرون . وتُوُفِّي الإدريسي سنة 1166م .
ياقوت الحموي :
أديب ومؤلف موسوعات اشتهر بموسوعتيه :
معجم الأدباء – ومعجم البلدان .
وفي معجم الأدباء جمع أخبارَ الأدباء إلى أيامه ورتّبهم على حروف المعجم ، وأشار إلى ما اشتهر عنهم من أعمال أدبية كالكتابة أو الوراقة، أو النسخ، أو الخط أو الشعر .
وذكر >ياقوت< في مقدمة كتابه مجموعة المراجع والمصادر التي اعتمد عليها في تأليف هذا الكتاب . وهي تدل على مكانته في العلم والمعرفة والتاريخ .
أما كتابه الثاني >معجم البلدان< فهو أيضًا موسوعة ضخمة في مجال الجغرافيا ، تكلّم فيه عن أكثر بلاد العالم ورتّب مادَّته على حروف المعجم كما فعل في معجم الأدباء ، ويقولون عن معجم البلدان : إنه معجم غنى بالمعرفة وليس له نظير في سائر اللغات، وتُوُفِّي >ياقوت< سنة 1228م .
ولاتزال عندنا معلومات مهمة عن جهود المسلمين في مجال الجغرافيا ، وهذه المعلومات دوّنها Profeson Sharif كتابه Muslim Thanght: its Origin and Achivements ومنه نقتبس بعض الفقرات :
في مجال الدراسات الجغرافية برز المسلمون بروزًا واضحًا : ففي النصف الأول من القرن التاسع الميلادي إبَّان حكم المأمون رسم الخوارزمي وأعوانه – وكانوا تسعة وتسعين – خريطة للسماء والأرض . كما قام هؤلاء بمحاولة ناجحة لقياس محيط الأرض على أنها كرة ، وقد أُجرِيت هذه المحاولة على سهل (سنجار) وهو سهل إلى الشمال من الفرات ، وكذلك على مقربة من مدينة (تدمر)، وكانت نتيجة هذه المحاولة أن توصّل هؤلاء إلى أن طول الدرجة الزوالية 56 ميلاً . وتلك نتيجة رائعة إذ لم تزد عن الطول الحقيقي إلا بمقدار 959 ياردة ، وتوصل هؤلاء بعد معرفة طول الدرجة الزوالية إلى أن محيط الأرض يبلغ 20,000 ميل وأن نصف قطرها 6500 ميل ، وقد ظهرت هذه النتائج في الشرق حينما كان الأوروبيّون يعتقدون أن الأرض مسطحة .
وفي القرن التاسع الميلادي قام >المقديسي< برحلات طويلة استغرقت 20 عامًا زار خلالها أماكن مختلفة من العالم ، ثم دوّن ما يمكن أن يسمى >دائرة معارف< في الجغرافيا ، وصف فيها بدقة جميع الأماكن التي زارها .
وفي أواخر القرن التاسع ثم في أوائل العاشر دخل إلى اللغة العربية ترجمتان كاملتان مستقلتان لجغرافية بطليموس ، وقد قام بهذه الدراسة عالمان كبيران ، وتلا ذلك أن ظهر باللغة العربية عدد من الدراسات الجغرافية الممتازة اتجهت – مع دراسة الجغرافيا بالتاريخ أو بعلم تخطيط البلدان ومنها ما اتّجه إلى ما نسميه الآن الجغرافيا الاقتصادية أو إلى ما نسميه الجغرافيا السياسية ، ومنها ما فصّل القول عن نظام البريد في عهد الخلافة ونظام الضرائب في كل مقاطعة ، كما أن من هذه الدراسات ما اهتمّ بالمناخ والمناجم والمعادن .
وفي مطلع القرن الحادي عشر نشر >البيروني< كتابه عن جغرافية >روسيا< وشمال >أوروبا< وفي هذا القرن نفسِه استطاع >الزرقالي< >أبو إسحاق إبراهيم ابن يحيى< أن يقرّر أن طول البحر المتوسط هو 42 درجة ، وهو تقدير قريب جدًا من الحقيقة.
وفي سنة 1290م صنع >قطب الدين الجغرافي< خريطة للبحر الأبيض المتوسط ، وقدّمها إلى ملك >إيران< ، ووضع >أبو الفدا< أمير حماة كتاب >تقويم البلدان< الذي تُرجِم إلى اللاتينية في القرن الثامن عشر، وكان مرجع كثير من علماء الغرب .
وبالإضافة إلى ما أضافه العرب من معلومات جغرافية لاتزال معينًا للباحثين والدارسين ؛ فقد كان العرب معبّرًا انتقلت بواسطته إلى أوروبا أفكار اليونان الجغرافية والفكرة الهندية عن صورة الأرض، وعقيدة استدارة الكرة الأرضيّة ، والنظريّة الصائبة عن أسباب المدّ والجزر .
ومما يدل على براعة العرب في الجغرافيا ما نشرته مجلة (نيوزويك) الصادرة في العاشر من شهر إبريل 1991م : أن الدكتور (وى – لن – لي) الأستاذ بجامعة بنسلفانيا بأمريكا أورد بعض الدلائل على أن العرب اكتشفوا القارّة الأمريكية قبل (كريستوفر كولومبس) بأربعة قرون .
وقد أحدث المسلمون هذه الدراسات في الجغرافيا في وقت كانت الكنيسة تعتبر البحثَ في المظاهر الكونية خروجًا على الدين كما ذكرت >دائرة المعارف< .
الجغرافيا التاريخية :
بقي أن نقول : إن علم الجغرافيا شديد الاتصال بعلم التاريخ ، وقد نتج عن هذه الصلة أن ظهر علم يرتبط بالجغرافيا والتاريخ معًا ، هو: الجغرافيا التاريخية ، أي أن التحركات التاريخية بسبب الحروب والمعاهدات والتقلبات الكونية استلزمت تغييرًا في مسيرة الجغرافيا ، فعلى دارس التاريخ أن يكون شديد الارتباط بالخرائط الجغرافية ومايحدث فيها نتيجة لهذه العوامل .
وفي الدراسة الحديثة لعلم الجغرافيا ينقسم هذا العلم قسمين هما : الجغرافيا الطبيعية ، والجغرافيا البشرية ، وتعتمد الأولى على العلوم الطبيعية في دراسة مظاهر الأرض ، فهي تدرس التربة وأنواعها وتوزيعاتها ، وتتناول الحياة النباتية والحيوانية في مختلف الأقاليم ، أي أنها تدرس ظواهر وجدت على الأرض قبل الإنسان.
أما الجغرافيا البشرية فتُعنى بدراسة مظاهر خاصة بالإنسان .. كالسكان والمدن والإنتاج الاقتصادي .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1428هـ = فبـراير – مارس 2007م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 31.