الأدب الإسلامي
بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
كتبت من قبل عن الاحتيال ، وقلت من منا لا يحتال ؟ وجئت بأمثلة تدل على أن جزءاً كبيرًا من عمل اليوم عندنا احتيال: احتيال على طلب الرزق واصطياده ، واحتيال على التغلب على الصعوبات ، واحتيال على دفع الأذى ، واحتيال على جلب المنفعة . وجئت بأمثلة من التراث ، فيها صور من الاحتيال بأنواعه المختلفة ، منها المؤلم المبكي ، ومنها المفرح المطرب ، ومنها الغريب المدهش ، ومنها المعتاد ؛ ولكنه حظي بالتدوين .
وأمثلة الاحتيال بأنواعه ، وقصصه المدونة لا تنتهي ، فأنت لا تكاد تقرأ كتابًا من كتب الأولين من آبائنا وأجدادنا إلا وتطل عليك حيلة من الحيل الملفتة للنظر، ولا يستطيع المرء مقاومة الوقوف عندها ، وتمليّ جوانبها وطبيعتها ، والغوص على ما في نفسِ مَنْ احتال ، أو احتيل عليه ، ثم لا يفتأ المرء أن يجد فائدة نقلها وتسجيلها ، ثم لا يجد أن له الحق أن يتفرد بالمتعة فيها ؛ ولكنه يشعر بشعور مُلِحّ في إشراك غيره فيما أعجبه .
وقد تجمع لديّ منذ أن كتبت المقالة السابقة عدد من هذه الحيل ، التي تمثل جوانب متعددة من الحياة ، وتكشف عن أمور نفسية تدخلت في تكوين الصورة التي تمت بها الحيلة .
وكل واحدة من هذه القصص تمثل جانبًا مستقلاً قد لا يشاركها في طبيعته إلا القليل من الحيل، وسبب ذلك أن الحيل يمليها الظرف والحال، وإن كان بعضها يخطط له ؛ ولكنه حتى عند التخطيط يخضع لقواعد الحيلة وطبيعتها .
والحيلة غالبًا ما تأتي عن ذكاء ، وعن عقل يستطيع أن يسير في خطواتها بما يوصل إلى النتيجة المطلوبة ، وقد يكون من سيقت عليه الحيلة ذكيًا، فيكشف الحيلة منذ بدء صاحبها في بيعها عليه ؛ ولكن طرافتها أحيانًا تشفع في التغاضي ، والإيهام بأن من احتيل عليه لم يكتشف أنها حيلة ، فيتغابى وليس غبيًا ، ويتسامح كرمًا وجودًا .
ولم يكتف الأدباء القدامى في تسجيل حيل الناس بل أحيانًا جاؤوا بحيل الحيوانات ، ومنها ما هو مقبول ؛ لأنه يتماشى مع الغريزة التي وضعها الله في الحيوان ، ضمانًا لتكاثره وبقائه ، وبعضها متخيلاً، ويكون قابلاً للتصديق أو التكذيب ، أو يتأرجح بينهما مائلاً إلى إحدى الصفتين .
ومن الحيل الطريفة حيلة لجأ إليها صحابيّ جليل، أراد بها أن يصل إلى ما لم يصل إليه بالقول المباشر، والوعظ المواجه ، وكانت الحيلة منه إلى زوجته ، وكان يبدي وجهة نظره في ذهابها إلى المسجد ، وكان يريدها أن تكتفي بالصلاة في البيت، وهذا هو الأوفى لها وهي امرأة ؛ ولكنها لم تقتنع بما قاله ، واستمرت في ذهابها إلى المسجد ، فأجرى حيلته مجراها ، فآتت أكلها ، وأوقفت زوجته الذهاب إلى المسجد ، مقتنعة بأن ذلك هو الأفضل ، والقصة كالآتي مأخوذة من حديث طويل عن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ، التي كانت زوجة لعبدالله بن أبي بكر، فلما مات تزوجها الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فلما مات تزوجها الزبير بن العوام :
«ثم تزوجها الزبير بعد عمر، وقد خلا سنها، (كبرت) فكانت تخرج بالليل إلى المسجد ، ولها عجيزة ضخمة ؛
فقال لها الزبير : لا تخرجي .
فقالت : لا أزال أخرج أو تمنعني .
وكان يكره أن يمنعها لقول النبي ﷺ «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» .
فقعد لها الزبير متنكرًا في ظلمة الليل ، فلما مرت به قرص عجيزتها ، فكانت لاتخرج بعد ذلك.
فقال لها : ما لك لاتخرجين ؟
فقالت : كنت أخرج والناس ناس ، وقد فسد الناس ، فَبَيتي أوسع لي» (1).
لقد أجاد الزبير – رحمه الله – الحيلة ، وأقام أركانها على ما ظهر له من عفة زوجته ، وعلى تغير مجتمع المدينة ، وهو ما كان سببًا وراء إجفاله من ذهابها إلى المسجد ، وعلى مدخل الأذى الذي يتصوره . وكان الزبير بارعًا في إنفاذ هذه التمثيلية، إخراجًا وتمثيلاً ، واختار وقت العتمة مسرحًا للعبته هذه ؛ فخرج منها مملوء اليدين بالنتيجة التي أرادها، والهدف الذي سعى إليه .
وما دمنا في مجال الحيل على النساء ، فهناك حيلة سيقت أيضًا إلى امرأة في وقت متأخر عن زمن الزبير وعاتكة ، وتمت مع عاتكة أخرى ، وزوجة للخليفة عبد الملك بن مروان ؛ وإذا كان للقصة الأولى هدف رأينا القصد فيه ، وأسلوب رأينا السير فيه ، فالهدف في القصة الآتية مختلف ، والمسرح مختلف ، وعدد الأشخاص عليه زاد عن اثنين :
«تغيظت عاتكة بنت يزيد بن معاوية على عبد الملك ، وكانت امرأته ، وكان من أشد الناس حبًا لها ، فحجبته ، وأغلقت بابها عليه ؛ فشق ذلك عليه ، وشكاه إلى خاصته ، وأعيته الحيل فيها ، وفي رضاها عنه .
فقال له عمرو بن هلال ، وكان خصيصًا بيزيد ومعاوية : ما لي عندك إن رَضِيَت ؟
قال : حكمك .
فأتى بابها ، فخرجت إليه مولياتها ونساؤها، فقال :
قد عَرَفت الحُرَّة مكاني من أمير المؤمنين ، وقد وقع لي ما لابد من أن أفزع إليها فيه : قتل أحد ابني الآخر، وأراد الخليفة قتل الآخر به ، وأنا الولي، وقد عفوت ، وهو لا يسمع قولي ؛ وقد رجوت أن يحيي الله ابني على يديها .
فقالت : فما أصنع مع غضبي عليه ؟
فلم يزلن بها حتى خرجت إليه ، وأخذت برجله فقبلتها .
فقال : هو لك . ولم يبرحا حتىاصطلحا .
وقال لعمرو : حكمك ؟
قال : مزرعة بعبيدها وما فيها ، وألف دينار، وفرائض لولدي ، وأهل بيتي .
فقال : ذلك لك» (2).
لقد نجح عمرو في حيلته ، ووصل إلى مقصوده ، بنصب فخ أحسن وضعه ، اعتمد له العاطفة أساسًا ، ونشد له الشفقة والرحمة سياجًا ، وكانت الفكرة مأخوذة من غور بعيد القاع ، لايتصور أن تصل عاتكة إلى كشف مُخَبَّئِه ، أو كشف مستوره ، ولقد كان بالإِمكان أن يرجح تأبيّ عاتكة في أن تهدم جدار الجفوة الذي أقامته بينها وبين الخليفة ، لولا أن عمرًا تابع ترقيق قلبها، وشحذ حنانها وعطفها، بتأثيره على من حولها من رصيفات ووصيفات ، وقد نجح لأنه تابع الأمر، وأجاد التمثيل ، فأوصد أي باب للشك فيما أتى به، أو الريبة في الهدف .
وتتعقد الحيلة ، وتأخذ مجرى طريفًا ، يلجأ إليه رجل لم يبق له من الحيلة إلا ذهنه ، فيحتال به ليصل إلى إشباع هوايته ، وعدم قطع عادة أراد من حوله أن يقطعوها ؛ والقصة عن ابن جدعان ، الكريم المشهور، وهي كالآتي :
«لما كبر عبد الله بن جدعان أخذ بنو تيم على يده ، ومنعوه أن يعطي ماله ، فإذا أتاه السائل قال: ادن مني ، فيلطم وجهه ، ثم يقول : إذهب فاطلب لطمتك ، أو ترضى منها .
فيطالبه الرجل بلطمته ، فترضيه بنو تيم من ماله .
وذلك عنى ابن قيس الرقيات بقوله في قصيدة يذكر فيها سادات قريش :
والذي إن أشار نحوك لطما
تبـــــع اللطم نائـــل وعطاء(3)
وهواية ابن جدعان في الكرم يبدو أنها كبرت معه ، مما جعل من حوله يخشى أن تأتي على ماله، فاتخذوا ما اتخذوا رحمة به ، وإبقاء على ماله ؛ ولكنه لم يَرَ لهم ذلك ، وأوصله تفكيره المنطلق من حبه للكرم ، أن يقدم على هذه الحيلة المبتدعة ؛ ومما يدل على قوتها ، وتوفيقه في اللجوء إليها أنها آتت ثمرتها ، وأوصلته إلى غايته ، وأفردته بذكر لم يصل إليه غيره من قبل ولا من بعد ، والفكرة تأتي من ذهن صاف ، مرتكنة على عاطفة قوية ، وعادة متمكنة ، عاشها المرء سنين وسنين ، مآلها النجاح، وزكاء الثمرة .
والجوع وألمه ، والرغبة في الشبع ، مما يغري أحيانًا بالاحتيال ، وهو أمر مقدر، يعذر فيه صاحبه؛ لأن الجوع كما يقال كافر، فهو لا يرحم، ولهذا فلا بد من مقابلته بالحرب ، والحرب خدعة، والخدعة قد تأتي بصورة حيلة .
هناك قصة تُروى في إحدى مدن القصيم في نجد ،وهي أن رجلاً اتفق مع آخر على أن يقوم هو ومن يرى مساعدته بإنجاز عمل حدّده ، مما قد يأخذ يومين أو ثلاثة ؛ وكانت العادة أن صاحب العمل يقوم بتقديم وجبة رئيسة لهم ، ماداموا يعملون عنده من شروق الشمس إلى غروبها . وكان العاملون اثنين ، فأرسلت الزوجة التي عليها إعداد الطعام طفلها تسألهم عن عددهم ، فقال أحدهم : أنا ومحمد ، وأخي وعلي ، فمجموعنا أربعة ، ولم يَصْدق ولم يَكْذِب ، فاسمه هو محمد واسم أخيه عليّ ، وهكذا حَظِي بعشاء أربعة !!
وهناك قصة في التراث لاتبعد في هدفها عن هذه ، وتقترب منها في مجراها كثيرًا ، وكان فكر المنفذ يجري في مجرى واحد مع صاحب القصة الأولى :
«تُوُفي رجلٌ من بني عجل ، فبُني على قبره بناء، وكان يضاف عند قبره الأضياف ، فإذا جاء الليل جاء رجل من أهل العجلي ، فنظر كم ثـَمَّ من ضيف ، فجاءهم من النزل على قدر ذلك .
فمر رجل من بني ذهل ، فجاء الرجل المُوَكَّل بالأضياف ، وقد جاء الليل ، فلما رآه الذهلي نزع قلنسوته ، فوضعها على ركبته وقال :
قم يا عمروا !
فذهب الرجل فيجاء بنزل رجلين ، فقال فيهم الشاعر :
إذا أنفذ الذهليّ ما في جرابه
تلَفّت هل يلقى برابية قبــــرا
فإن قيل قبـــــر من لجيم ببلـدة
أناخ وسمَّى رأس ركبته عمرا(4)
وتستمر الحيل تتوالَى بتوالي أنواعها ، وتتلون بلون ظروفها ، وتصور عقول من يحبكها ويحيكها، فتأتي متقنة مجدية .
وتأتي الحيلة أحيانًا من باب الاضطرار ، ويجبر الإِنسان عليها ليحمي عقيدته ، أو ليبقي رأسه على كتفيه ، ولا مناص له إلا أن يُعمِل عقله بحيلة يخرج منها من المأزق بسلام ، وهذا هو وقت الاستفادة من العقل ، أكثر من أي وقت آخر؛ لأن العقيدة غالية ، والحياة مثلها لا يرخصها من يستطيع صيانتها ، والإبقاء عليها . وفي القصة الآتية حيلة تمثل هذا القول ، وهي على بساطتها بارعة متقنة ، نفذت بعبقرية متناهية :
يقول صاحب أخبار الظراف :
«بلغنا أن رجلين سعيا بمؤمن إلى فرعون ليقتله، فأحضرهم فرعون ، فقال للساعين :
من ربكما ؟
قالا : أنت .
فقال : من ربك ؟
فقال : ربي ربهما .
فقال لهما فرعون : سعيتما برجل على ديني لأقتله ، فقتلهما(5).
وسواء أصحت هذه القصة ، أو لم تصح عند من يرى أن اللغة العربية قد تسمح بهذا ؛ ولكن اللغة الفرعونية قد لا تسمح ، ومدخل الطعن أن زمن فرعون بعيد على مثل هذه القصة أن تخترق الزمن ؛ والرطلان يستبعد أن يستسلما بهذه السهولة ، دون أن يوضحا ويناكفا .
على أي حال هي قصة لحيلة طريفة تستحق أن يوقف عندها ، وأن تُعطى من الوقت ما استحقته .
ويلاحظ أن الأمر كله يرتكز على ترتيب الجمل في الجدل ؛ ولكن النتيجة التي جاءت من ذلك كبيرة ، فيها إدانة ، وفيها براءة .
ويستعمل شخص عقله في أن يستفيد من عمل مبرور ، اعتمادًا على قول مأثور ، ويقدمه أمام غرضه حيلة ينجح فيها بسهولة ، لأن هدفه نبيل، وقصده شريف، فيه خير له ، وخير لمن أجريت عليه الحيلة ، والقصة تجري في كتب التراث هكذا.
«قال عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي من أعلام الحديث ، وهو شيخ البخاري :
«كنا عند سفيان بن عيينة ، فحدّث بحديث زمزم : أنه لما شُرِب له ، فقام رجل من المجلس ، ثم عاد ، فقال له : يا أبا محمد ، أليس الذي حدثتنا في زمزم صحيحًا ؟
فقال : نعم .
قال : فإني قد شربت الآن دلوًا من زمزم على أنك تحدثني بمئة حديث .
فقال سفيان : اقعد ؛ فحدثه بمئة حديث» (6).
فهذا مدخل على سفيان احتال في أن يلجه هذا الرجل ، ودار على الحديث دورة مغايرة لما يفهم عادة من الحديث ، وهو أن ماء زمزم ، يشفي، بإذن الله ، مما قد يكون هناك من داء، إلا أن كلمات الحديث لا تخرج عما رمى إليه الرجل، ولهذا ، إن صح الخبر، فسفيان استجاب .
والحيلة على عالم مثل سفيان ، في الحصول على برّ أمر مقبول ، وتنسى الوسيلة ، وما قد تحتوي عليه ؛ ولكن حيلة أخرى أُجريت على عالم جليل ، لم تأت ينفع ، غير مقبولة ؛ والغريب فيها أن الخدعة جاءت من امرأة مجهولة ، وسلطت على الإِمام أبي حنيفة ، والذي يرويها هو أبو حنيفة نفسه:
«قال أبو حنيفة :
خدعتني امرأة أشارت إلى كيس مطروح في الطريق ، فتوهمت أنه لها ، فحملته إليها ، فقالت: احتفظ به حتى يجيء صاحبه».(7)
والقصة التالية فيها شبه حيلة ؛ لأن يونس بن عبيد ، كما يبدو، كان حريصًا على أن يستقبله ابن سيرين ؛ ولكنه يعرف أن ابن سيرين ليس حريصًا على ذلك ، فاستعد بما يجعل ابن سيرين يستقبله ؛ ولكنه أراد أن يتأكد من سوء ظنه به ، وقد ثبت ما ظنه فيه ، وهذه هي القصة :
«قال يونس بن عبيد :
أتيت ابن سيرين يومًا ، ومعي خبيص ، فقلت:
قولوا له : يونس بالباب .
فقال ، وأنا اسمع : قولوا له قد نام .
فقلت : إن معي خبيصًا .
قال : كما أنت ، حتى أخرج إليك» (8).
* * *
الهوامش :
- عيون الأخبار : 4/112 .
- ربيع الأبرار : 1/802 .
- ربيع الأبرار: 1/528، عيون الأخبار: 1/458 .
- من اسمه عمرو: 62 .
- أخبار الظراف : 93 .
- أخبار الظراف : 142 .
- أخبار الظراف : 174 .
- بهجة المجالس : 1/282 ، عيون الأخبار: 3/48 .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1427هـ = يناير 2007م ، العـدد : 12 ، السنـة : 30.