الفكر الإسلامي
بقلم : الدكتور حسن محمد باجودة
وقوله تعالى : ﴿اَوْنِسَائِهِنَّ﴾ يعني المسلمات(55) والشريفات وذوات العفة والحياء من غير المسلمات لا جرم أنهن يدخلن في حكم ﴿نٍسَائِهِنَّ﴾ من الآية المذكورة(56).
وقوله تعالى : ﴿أَوْ التَّابِعِيْنَ غَيْرِ أُوْلِيْ الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ﴾ أولي الحاجة . والإربة الحاجة (57) وغير أولي الإربة من الرجال : غير أصحاب الحاجة من الرجال إلى النساء(58).
وقوله تعالى : ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِيْ لَمْ يَظْهَرُوْا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ أو الأطفال الذين لم يطلعوا بالوطء، أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهم(59).
وقوله تعالى : ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِيْنَ مِنْ زِيْنَتِهِنَّ﴾ أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها. فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد . والغرض التستّر(60).
ولما كانت أمهات المؤمنين – رضوان الله تعالى عليهن أجمعين – الأسوة الحسنة للمؤمنات فإن الدروس القرآنية الموجَّهَة إليهن يُقْصَدُ بها النساء المؤمنات عمومًا . ومن هذه الدروس القرآنية مايكمل به الطهر والعفاف . ومما جاء في ذلك قول الحق – جل و علا – في سورة الأحزاب(61): ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ . إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِيْ فِيْ قَلْبِه مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوْفًا . وَقَرْنَ فِيْ بُيُوْتِكُنَّ وَلاَ تَبَرُّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأوْلـٰـى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِيْنَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُوْلَه . إِنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكَُاةَ وَأمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْرًا . وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلـٰـى فِيْ بُيُوْتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ . إِنَّ الله كَانَ لَطِيْفًا خَبِيْرًا﴾ .
إن نساء المصطفى ﷺ ينادين ويوصفن بأنهن لسن كأحد من النساء. والمعنى: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء. أي إذا تُقُصِّيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة . ومثله قوله تعالى: ﴿وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوْا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين(62) وإن من مظاهر تقوى النساء أنهن حينما تضطر الواحدة منهن لمخاطبة الرجال الأجانب لا تخضع بالقول ولا تلين فيه ؛ فيطمع الذي في قبله مرض النفاق فيها ؛ بل على المرأة المسلمة أن يكون قولها أقرب إلى الصرامة والجد والاستقامة مقصورًا على الضروري منه وتلك الصفات من مقومات القول المعروف شرعًا وعقلاً .
وبعد ذكر ما له علاقة بالقول من الصفات الحسنة يأتي دور الفعل ، إن أمهات المؤمنين – رضوان الله تعالى عليهن – الأسوة الحسنة للمؤمنات، مأمورات بأن يبقين في بيوتهن وألا يخرجن منها إلا لضرورة ملحة . إن في البقاء في المنزل القرار والوقار. وإن من ألطف مايحسن الإشارة إليه أن ثمة قراءتين بشأن جملة : «قرن» تتعلق إحداهما بالقرار وتتعلق أخراهما بالوقار. يقول على سبيل المثال الطبري(64): «واختلف القراء في قراءة قوله: وقرن في بيوتكن . فقرأته عامة قراء المدينة وبعض الكوفين: وقرن ، بفتح القاف بمعنى واقررن في بيوتكن . وكأن من قرأ كذلك حذف الراء الأولى من: اقررن وهي مفتوحة، ثم نقلها إلى القاف . كما قيل: فظلتم تفكهون ، وهو يريد : فظللتم . فأُسْقِطَتْ اللامُ الأولى وهي مكسورة ثم نُقِلَتْ كسرتها إلى الظاء . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة: «وقِرْنَ ، بكسر القاف ، بمعنى كن أهل وقار وسكينة في بيوتكن» (65).
وبما أن أمر النساء بالقرار في البيوت دليل الوقار، فقد نُهِين أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، والتبرج هو إظهار الزينة وإبراز المرأة محاسنها للرجال(66) والتبرج ذو علاقة بالبروج بمعنى القصور ، الواحد برج ، وبه سُمِّى بروج السماء لمنازلها المختصة بها، ومن متعلقات البروج الظهور والحسن ومن هنا قيل: تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها(67) وبعد التخلية فلا خضوع بالقول ولا خروج من البيوت ولا تبرج تأتي التخلية فيُؤُمرن – صلوات الله تعالى وسلامه عليهن – بإقام الصلاة عماد العبادات البدنية، وبإيتاء الزكاة عماد العبادات المادية، وبطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة ، وبذكر مايتلى في بيوتهن – صلوات الله وسلامه عليهن أجمعين – من آيات الله تعالى البينات ومن سنة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الموحىٰ بها والمبينة للقرآن الكريم . ويكون الذكر من زاوية التذكّر وعدم النسيان والغفلة ، ومن زاوية الذكر باللسان في مجال الدعوة إلى الله تعالى والتبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن زاوية ترجمة التذكّر وعدم النسيان إلى عمل(68) وينص السياق على الغاية الحميدة من كل هذه الدروس القرآنية السامية: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» «والرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص . فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت» (69) وإن هذه الصفات المرغوب عنها والتي أذهبها الله تعالى عن أمهات المؤمنين الأسوة الحسنة للمؤمنات من أهم مقومات الطهر والعفاف في المرأة المسلمة .
وما الذي يجب على المرأة المسلمة الطاهرة الذيل العفيفة حينما تضطر للخروج من منزلها؟ الجواب في الآية الكريمة التالية من سورة الأحزاب(70) قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِيْنَ يُدْنِيْنَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيْبِهِنَّ. ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْن . وَكَانَ اللهُ غَفُوْرًا رَحِيْمًا﴾ ونحن حينما نقف على ما فسّر به العلماء الجلباب كسرداب وسنمار والجمع الجلاليب(71) فإنا نستطيع أن نتبين موجز ماقالوا في قول «أبي حيان» (72): قيل : والجلاليب الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل. وقال «ابن جبير»: المقانع. وقيل : الملاحف . وقيل : الجلباب كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل: كل ماتستتر به من كساء أوغيره، قال أبوزيد:
تجلبت من سواد الليل جلبابًا
وقيل : الجلباب أكبر من الخمار .
وحينما نعلم أن الخمار من المرأة كالعمامة من الرجل، تغطِّي به المرأة رأسَها وترسله على نحرها وصدرها كيلا يبين شيء منهما ، مما يمكن ظهوره من جوب القميص والثوب ، أي من قطع القميص والثوب والمكان الذي تدخل المرأة منه رأسها في القميص أو الثوب ، نتبين أن الجلباب نوع من الثياب غير الخمار وغير القميص أو الدرع وأن من سماته أنه يستر كامل الجسم وأنه ثوب واسع فضفاض . وأن ستر كامل الجسم يفهم من القول:
تجلبت من سواد الليل جلبابًا
لأن سواد الليل ساتر كل شيء وكل جسم .
وتنص الآية الكريمة على الحكمة من إدناء الجلابيب وإرسالها سابغة كي تغطى كامل الجسم: «ذٰلِكَ أَدْنـٰـى أَنْ يَّعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْن» والمعنى أن هذا الزى الإسلامي المحتشم يَعْرِف منه مرضى النفوس والقلوب أن صواحبه عفيفات شريفات طاهرات .
ويتصل بأمر الله تعالى المؤمنات بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن في سورة النور وبأن يدنين عليهن من جلابيبهن في سورة الأحزاب في آية الحجاب . قال تعالى(73): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَتَدْخُلُوْا بُيُوْتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِيْنَ إِنَاه وَلـٰـكِنْ إِذَا دُعِيْتُمْ فَادْخُلُوْا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوْا وَلاَ مُسْتَانِسِيْنَ لِحَدِيْثٍ إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ يُوْذِيْ النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِيْ مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِيْ مِنَ الحَقِّ . وَإِذَا سَأَلْتُمُوْهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوْهُنَّ مِنْ وَّرَاكْ حِجَابْ . ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوْبِكُمْ وَقُلُوْبِهِنَّ . وَمَا كَانَ َرُ لِقُلُوْبِكُمْ وَقُلُوْبِهِنَّ . َّ مِنْ وَّرَاكْ حِجَابْ . ْيِيْ مِنَ الحَقِّ . ِلَى طَعَارة الأحزاب آية الحجابلَكُمْ أَنْ تُؤْذُوْا رَسُوْلَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوْا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أَبَدًا . إِنّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيْمًا﴾ ويتضح معنى الآية الكريمة من معرفة سبب نزولها . قال «أنس بن مالك» : أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب(74) يقول «أنس» – رضي الله عنه – : بني على النبي ﷺ بزينب بنت جحش بخبز ولحم بأرسلت على الطعام داعيًا، فيجئ قوم فيأكلون ويخرجون ثم يجئ قوم فيأكلون ويخرجون. فدعوت حتى ما أجد أحدًا أدعو فقلت : يانبي الله ما أجد أحدًا أدعوه فقال : فارفعوا طعامكم . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . فخرج النبي ﷺ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله . فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، وكيف وجدت أهلك بارك الله لك . فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، و يقلن له كما قالت عائشة . ثم رجع النبي ﷺ فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون ، وكان النبي ﷺ شديد الحياء، فخرج مطلقًا نحو حجرة عائشة ، فما أدري أخبرته أو أخبر أن القوم خرجوا . فرجع حتى وضع رجله في أسكفة الباب داخلة وأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب» (75) قوله : فتقرى ، بفتح القاف وتشديد الراء بصيغة الفعل الماضي ، أي تتبع الحجرات واحدة واحدة(76) قوله : فما أدري أخبرته أو أخبر: مبني للمجهول أي أخبر بالوحي(77) والأسكفة: عتبة الباب التي يُوْطأ عليها(78) .
تنادي الآية الكريمة الذين آمنوا؛ لأنهم هم المستفيدون من آداب القرآن الكريم وتوجيهاته، وتنهاهم عن دخول بيوت النبي ﷺ دون دعوة وربما دون إذن ، متحينين الوقت الملائم للدخول لتناول الطعام ، منتظرين دون ملل نضجه. وإذا انتهى الطعام آنس بعضهم بعضاً بالحديث. إن الآية الكريمة تسمح لهم بالدخول لتناول الطعام حينما يدعون لذلك، وحينما يؤذن لهم بالدخول وفي الوقت المناسب وليس قبل الوقت المناسب، بأن ينتظروا إنى الطعام بمعنى نضجه وإدراكه وبلوغه(79) إنهم إذا دعوادخلوا. فإذا أكلوا انصرفوا غير مستأنسين لحديث من بعضهم لبعض. إن ذلكم المكث كان يؤذي النبي ﷺ فيستحيي منكم أن يخرجكم والله تعالى لا يستحيي من الحق أن يبينه لكم . وإذا سألتم أزواج النبي ﷺ متاعًا فأسألوهن من وراء حجاب ومن خلف ستر. إن ذلكم أطهر لقلوبكم من الخواطر المريبة وقلوبهن . وما كان لكم ولا صح أن تؤذوا رسول الله ﷺ بشيء ولا أن تنكحوا أزواجه من بعد وفاته أبدًا . إن الأذي والزواج كان عند الله تعالى ذنبًا عظيمًا وإثمًا(80) ويقول «ابن كثير» (81): «ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من تُوُفِّيَ عنها رسول الله ﷺ من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين – كما تقدم – واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله: ﴿مِنْ بَعْدِه﴾ أم لا. أما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فما نعلم في حلها لغيره والحالة هذه نزاعًا. والله أعلم» .
ومن البين علاقة الآية الكريمة بالاستئذان إضافة إلى الحجاب . والمعروف أن الشارع الحكيم قد أذن للقواعد من النساء عن الحيض والولد لكبرهن اللاتي لا يرجون نكاحًا بسبب ذلك أن يضعن ثيابهن من الجلباب والرداء والقناع فوق الخمار شريطة ألا يتبرجن بزينة. والأفضل من ذلك أن يستعففن بألا يضعن ثيابهن. قال تعالى(82): ﴿وَالقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِيْ لاَ يَرْجُوْنَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَّضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِيْنَةٍ. وَأَنْ يَّسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ﴾ .
(ج) الاستئذان :
لقد جاء بشأن الاستئذان لدخول غير بيوتنا وبشأن دخول البيوت غير المسكونة التي فيها متاع لنا قول الحق جل وعلا(83): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَدْخُلُوْا بُيُوْتًا غَيْرَ بُيُوْتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوْا وَتُسَلِّمُوْا عَلـٰـى أَهْلِهَا. ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوْا فِيْهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوْهَا حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ. وَإِنْ قِيْلَ لَكُمْ ارْجِعُوْا فَارْجِعُوْا هُو اَزْكـٰـى لَكُمْ. وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ عَلِيْمٌ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوْا بُيُوْتًا غَيْرَ مَسْكُوْنَةٍ فِيْهَا مَتَاعُ لَّكُمْ. وَاللهُ يَعْلَمْ مَاتُبْدُوْنَ وَمَا تَكْتُمُوْنَ﴾ إنّ رب العزة ينهى الذين آمنوا أن يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا ويسلموا على أهلها. والمراد بالاستئناس الاستئذان بتنحنح ونحوه عند الجمهور(84) وأخرج «الطبري» من طريق «قتادة» قال: الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا، بالأولى ليسمع، والثانية ليتأهبوا له، والثالثة إن شاءوا أذنوا له وإن شاءوا ردوا، والاستئناس في اللغة طلب الإيناس، وهو من الأنس بالضم ضد الوحشة(85) وقال رسول الله – ﷺ– : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يُؤْذَن له فليرجع(86). ولم يكتف الشارع الحكيم بالاستئذان، بل أردف ذلك بإلقاء السلام بمعنى الأمن والطمأنينة. إن الاستئناس وإلقاء السلام خير لنا لعلنا نتعظ. فإن لم نجد أحدًا فليس من حقنا أن ندخل حتى يُؤْذَن لنا. وإن قيل لنا ارجعوا فعلينا الرجوع، هو أزكى لنا وأطهر. والله تعالى عليم بما نعمل. وبشأن البيوت غير المسكونة التي لنا فيها متاع ليس علينا جناح ولا إثم أن ندخلها وعلينا جميعًا أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم مانبدي ومانكتم : ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوْتًا فَسَلِّمُوْا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾(87).
وإن الحديث النبوي الشريف التالي يبين أهمية الاستئذان من أجل البصر. عن «أنس بن مالك» أن رجلاً اطّلع من بعض حجر النبي ﷺ فقام إليه النبي ﷺ بمشقص – أو بمشاقص – فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه(88). المِشْقَص بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه: نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض(89) ويختل بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر المثناة: أي يطعنه وهو غافل(90) إن النبي ﷺ همّ بأن يطعن بالمشقص عين الذي نظر من ثقب حائط حجرة من حجر النبي – ﷺ – . وقد جاء في الحديث الآخر بشأن الحادثة ذاتها قول النبي – ﷺ– للرجل : (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك. إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)(91) ومن حديث «عبد الله بن بسر»: كان رسول الله – ﷺ – إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه؛ ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر(92) وإذا بلغ الأطفالُ الحلمَ وهو زمان البلوغ(93) عليهم أن يستأذنوا في كل الأوقات. قال تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوْا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِه. وَاللهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ﴾ أما قبل أن يبلغ الأطفال الحلم وكذلك المماليك ، فإن عليهم أن يستأذنوا في ثلاثة أوقات يكون فيها عادة التخفف من الثياب ، وفيما عدا هذه الأوقات الثلاثة لا يستأذنون؛ لأنهم طوافون بالخدمة على أهل المنزل. قال تعالى(94): ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِيْنَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِيْنَ لَمْ يَبْلُغُوْا الحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، مِنْ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ وَحِيْنَ تَضَعُوْنَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيْرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ العِشَاءِ . ثـَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌم بَعْدَهُنَّ طَوَّافُوْنَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ. كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الآيَاتِ. وَاللهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ﴾.
* * *
الهوامش :
- تفسير القرطبي 4625.
- الحجاب 287 .
- تفسير القرطبي 4626 .
- الجلالين .
- تفسير القرطبي 4628 وفي الأصل: لصغرهن .
- تفسير القرطبي 4629 .
- الآيات 32-34 .
- الكشاف 2/537 .
- البحر المحيط 7/228 .
- تفسير الطبري 22/3 .
- أنظر تفصيل هذا الكلام في تفسير القرطبي 5260. طبعة الشعب القاهرة .
- تفسير الطبري 22/4 .
- أنظر مفردات الراغب الأصفهاني: «برج» 41 ومعجم مقاييس اللغة «برج» 1/238 .
- بينا هذا المعنى بالتفصيل في: تأملات في سورة الأحزاب 292-294.
- البحر المحيط 7/231 .
- الآية 59 .
- أنظر مثلا القاموس المحيط ولسان العرب: «حلب» .
- البحر المحيط 7/250 .
- سورة الأحزاب 53 .
- فتح الباري 8/527 حديث رقم 4792 .
- فتح الباري 8/527 حديث رقم 4793 .
- المراجع السابق 8/530 .
- المرجع السابق 8/530 .
- لسان العرب : «سكف» .
- لسان العرب : «أنى» .
- أنظر مثلا تفسير الطبري 22/30 وتفسير القرطبي 5312، طبعة الشعب القاهرة.
- تفسير ابن كثير 3/506 .
- سورة النور 60 .
- سورة النور 27-29 .
- فتح الباري 11/8 .
- المرجع السابق 11/8 .
- المرجع السابق 11/27 حديث 6245 .
- سورة النور 61 .
- فتح الباري 11/24 حديث رقم 6242 .
- فتح الباري 11/25 .
- المرجع السابق 11/25 .
- المرجع السابق 11/24 حديث 6241 .
- المرجع السابق 11/25 .
- مفردات الراغب الأصفهاني : «حلم» 129 .
- سورة النور 58 .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1427هـ = ديسمبر 2006م ، العـدد : 11 ، السنـة : 30.