الفكر الإسلامي
بقلم : سعادة الدكتور الشيخ محمد بن سعد الشويعر/ الرياض
التّكبرُ واحد من كبائر الذنوب التي قال الله فيها: ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئاَتِكم ونُدْخِلْكُم مُدْخَلاً كَرِيْمًا﴾ (النساء 31)، وقد عدّه «الذهبي» من أعظمها، والكبر: التعاظُمُ في النفس، والعجب بها، وقد فسّره العلماء: غمطُ الحق وظلم الناس، وهو أنواع عديدة: منها ما يتعلق بالفرد من أبناء المجتمع سواء كان ذكرًا أو أنثى. ومنها ما يكون في الجماعة على جماعة أخرى، ومنها ما يكون تعاظمًا وتعاليًا في الأمم..
وجَاءَ في ذمّه وعقاب المعجب بنفسه المتعالي على الآخر حديثٌ رواه مسلم عن «ابي هريرة» و «أبي سعيد»، أنّ رسولَ الله – ﷺ – قال: (قال الله سبحانه : الكبرياءُ ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما فذهبه في النار).. وقد يكون الله قد وهب إنسانًا جمالاً ومالاً؛ لكنه تواضع لله، ولم يتهال على غيره، فلا يكون بهذا متكبرًا، كما جاء في حديث «ابن مسعود»: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من كبر» فقال رجل: إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، فأجابه رسول الله: إن الله جميلٌ يُحبُّ الجمال، الكبرُ بطرُ الحق، وغَمْطُ النَّاس) .
وبَطر الحق: إنكاره وجحدانه، كما يأتي في بعض المجتمعات ، حيث يتعالى الأقوياء: ثراءً أو مكانةَ أو مركزًا، عن إعطاء الناس حقوقهم، والعاملين أجورهم؛ لأنّه ذوجاه وصاحبُ الحق لاجاه، فيغمطهم حقوقهم، أي يمنعهم حقهم وجهدهم في العمل الذي أدّوه، بغير حق، إلاّ التكبّر والتعالي، وقد يردّهم ردًا قبيحًا، فيجتمع الكبر مع أكل المال الحرام، والحديث جاء فيه: «أعملوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه» فهذه علامة ظاهرة في المتكبر يُعرَف بها.
وقد يكون في عمق الإنسان، ويعبر عنه بجرّ الإزار، من إطالة الثوب، أو العباءة، فقدَ روى «البخاري» و «مسلم» و «مالك» عن «أبي هريرة» – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا ينظر الله يوم القيامة، إلى من جرَّ إزاره بطرًا) ، وكان أبو هريرة يستخلف على المدينة فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيشقّ السوق وهو يقول: جاء الأمير جاء الأمير؛ ليشعر الناس بالتواضع، وعدم الكبر عندما تولّى الإمارة، والخلفاء الراشدين وغيرهم ضربوا النموذج في التواضع .
وعندما قال «أبوبكر» يا رسول الله : إن إزاري يرتخي؟ فقال: لست ممن يجرّه خيلاءَ، ولا بطرًا؛ لأن إزاره عليه فارتخى، مما يدلّ على أنّ الكبرَ موطنهُ القلب والعقيدة.. فإذن رأينا شبابًا يضايقون الناس بسيّاراتهم تخبطًا وتفحيطاً، وإزعاجاً وإيذاءً للناس، ونُهُوا ولم ينتهوا فهم في خطر إثم التكبر، وإذا رأيت غنيًا، أو ذا مركز اجتماعيّ، أو منصبًا إداريًا في شركة أو دائرة، يتعالى على الناس، ويحتقر الضعفاء والدهماء، ويهضمهم حقوقهم، ويمنعهم من مقابلته، ولا يستمع شكاواهم ، فإنه يُخْشىٰ عليه أن يكون من المتكبّرين الذين يعتبرون العمل ملكاً لهم، ويغلقون أبوابَهم عن أصحاب الحاجات الذين يتردّدون، وآلامُهم في حناجرهم، لايجدون من يسمع شكواهم، أو يستجيب لما يقولون، ويظهر أثر الكبر بالكلام، فكما كان الكبرُ موطنه القلب فقد يتعاظم في نفسه، حتى لو كان فقيرًا، ومن هنا جَاءَ الزجرُ، والوعيدُ الشديد للعائل المتكبر، والعائل هو الفقير، الذي يتكبّر على الآخرين، دون أن يكون من دواعي العظمة ما يدفعه إلى ذلك، من مال أو مركز أو جاه يقول سبحانه: ﴿كَلاّ إنّ الإنسانَ لَيَطْغَى أَنْ رآه اسْتَغْنى﴾ (العلق 6-7)، فالمالُ يدفع بعض النفوس الضعيفة إلى التكبّر.
والجزاءُ لهؤلاء قد يكون في الدنيا، لعلّه يفتتح لهم باب التوبة، فيجلسون معه؛ ليتطهّروا في الدنيا قبل عقاب الآخرة .
من فقر أو مرض، أو سلب النعمة التي تعاظم من أجلها ، فيأتي من العبر ما يحرّك الضمائر، فقد روى: أن رجلاً كان يسعى بين الصفا والمرة، راكبًا فرسًا، وبين يديه العبيد والغلمان، يوسّعون له الطريق ضربًا بالسياط .
فأثار ذلك غضبَ الناس، وحملقوا في وجهه، وكان فارعَ الطول، واسعَ العينين.
وبعد سنين رأه أحدًا الحجاج الذين زاملوه، وعرفوا مكانتــــه السابقـــة ، وتعاليه على الناس، فإذا هــــو قـــد بسط يديـــه على جسر دجلة ببغــــداد، يستجدي من شدَّة فقره، بعد أن ذهب عنـــه الجاه والمــال، فقال لــــه: ألستَ الـرجل الذي كنْت تحجّ في كلّ سنة، وقد رأيتُك في سنة كذا، وبين يديك العبيد والخدم يوسّعون لك الطريق ضربًا في ظهور الناس، وهم في عبادة غضبانون منك. قال: بلى.
قال: فما الذي صَيَّرك إلى ما أرى من الفقر والذّل، بعد ذهاب المال والعزّ، قال: لأنني تكبّرت في مكان يتواضع فيه العظماء، فأذلّني الله في مكان يتعالى فيه الأذلاء. وهذه حكاية لها نظائر كثيرة في تراث العرب، وقائع العبر عندهم تدعو كل من حاولتْ نفسه الأمارة بالسوء، جذبه إلى مسار الافتخار والتعالي إلى أن يكبح جماح هذه النفس، كما كان سلفنا يؤدّبون نفوسَهم، في الدنيا خوفًا من ذلّتها يوم المحشر، ويوطنونها على التواضع، بالسعي في مصالح الفقراء، والأرامل واليتامى، حتى تتأدّب وتبتهد عن المسارب التي تحرف النفوس إلى التكبر، أو مجالسة المتكبرين، حتى لا تتأثـّر بهم، سواء في هذا التأديب: بالمساكن أو المراكب، أو المأكل والمشارب، أو بالمجالسة والمخالطة وغير ذلك.
وعن خراب الديار، وهلاك الأمم بين الله – سبحانه – في القرآن ، نماذج من أمم كانت طاغيةً متكبرةً، فجاءهم عقاب الله ليلاً أو نهارًا؛ ليكونوا عبرة لمن اعتبر، كما في قصة «فرعون» الذي أهلكه الله وقومه بالغرق، و«قارون» خسف الله به الأرض وبماله، وقوم «صالح» أهلكهم الله بالصيحة، وغيرهم كثير: ﴿وَكَذَلكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ، إنْ أَخْذَه أَليمٌ شَدِيدٌ﴾ (هود/102) وقد كَانَ لِمَنْ قبلنا حضارات وبطش، وعمروا الأرض بما أعطاهم الله من علم، أكثر مما عمرها جبابرة اليوم الذين يريدون فرض سلطانهم على الآخرين، وسلبهم ما وهبهم الله، بقوة السلاح والأدوات المدمّرة، ظلماً وعُدْوانًا، متجاهلين قوة الله وعظمته، والحكمة تقول: إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس، فتذكر قدرة الله عليك بل ضاربين بذلك عرض الحائط وقبلهم من آلامهم: قوم «هود» قالوا: ﴿مَنْ اَشَدّ منَّا قُوَّةٌ﴾ (فصّلت/15) وكان الجواب من الله – سبحانه – بقـــولــه الكريم ﴿اَوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللهَ الَّذِي خَلْقَهُمْ هُوَ أشَدّ مِنْهُم قوة﴾ (15) سورة فصّلت. فقال لهم نبيهم «هــود» مخوِّفًا ومُنْذِرًا لتكبرهم: ﴿اَتَبْنُــونَ بِكُلِّ ريــع آيَــةٌ تَعْبَــثُوْن وتَتَّخِــذُونَ مَصَانِع لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإذَا بَطشْتُمْ بَطَشْتُمْ جبَّارِينَ فاتَّقُوا اللهَ واَطيعُون واتَّقُوا الذي أمدَّكم بِمَا تعْلَمُونَ أَمَدكُم بأنعامَ وبَنِينَ وجَنّاتٍ وعُيُون إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيمٍ﴾ (سورة الشعراء الآيات 128-135).
وقد أطال «سيد قطب» في «الظلال» في تفسيره، نجتزئ منه: والظاهر أنهم يبنون فوق المرتفعات بنيانًا يبدو للناظر من بُعد كأنّه علامة، وأن القصد من ذلك التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة، ومن ثم سمّاه الله عبثًا.. ويبدو أن «عادًا» قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغًا يُذْكَر، حتى لتتّخذ المصانع، لنحت الجبال، وبناء القصور، ومتوقّعين أن حضارتهم وقوتهم كافية لمنعهم من الموت والذلّ فهم عتاة يتكبرون حين يبطشون، بقسوة وظلم. (الظلال 19 ص 102-104).
إنها سنّة الله في خلقه، يمهل ولا يهمل، إذ أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وهذا عقاب المتكبر المتعالي بعظمته، ووعدُ الله حق، وأمرهُ سبحانه نافذ، ولا يظلم ربك أحدًا، فالله سبحانه يرسل العبر فهلْ من مدّكر.
حسن الختام
قال «ابن عربي» في كتابه «محاضرة الأبرار» قال «أبو الحسن بن شمعون» الواعظ: وصف لي رجل من العباد فسرت إليه فرأيت من فضله ما ملأ عيني، وسمعي وقلبي، فبتُّ متعجبًا من أمره، فرأيتُ في النوم كأنّ القيامة قد قامت، وكأنّ الناس يحاسبــون فيُــؤمَــر بقــوم إلى الجنة، وبقوم إلى النار.
فنُودي بصاحبي الشيخ العابد: فأمر به إلى النار، فرأيتُ ذلك ثلاثَ ليال متوالية، فعرفت الشيخ بذلك فقلت له: خفّف – يرحمك الله – من العبادة وتعبك ، واقصر من تعبّدك فنظر إليّ وقال لي مستغربًا: يا «ابن شمعون» هذا وأنت واعظاً للعاربين، تأمرني أن أخفّف من خدمة مولاي، لما رأيت أني من أهل النار.
إنما أنا عبد من جملة عبيده، إن شاء نعمني، وإن شاء عذّبني، أمرني فامتثلت، ونهاني فانتهيت، فأمري بعد ذلك مصروف إليه.
فانصرفت من عقده، وقد عظم تعجّبي من أمره، فلما كان الليل، رأيت المنام بعينه، فنُودي بالشيخ، وبين عينيه مكتوب بالنور: ﴿يَمْحُو اللهُ مَايَشَاء وَيُثْبِتُ وَعندَهُ أمُّ الكتاب﴾ (الرعد 39). ثم أُمِرَ به إلى الجنة فبكّرتُ إلى الشيخ مبشِّرًا له، فقال: يا «ابن شمعون»، إنما أديت بما رأيت؛ لتعلم أنّ لله عبدًا، لا يقطعهم عن خدمته سبحانه: عذاب ولانعيم .
وقال: روينا من حديث «الشعبي»، قال: قالت «أمّ البنين»، ابنة «عبد العزيز»، وهي أخت «عمر بن عبد العزيز» أمير المؤمنين – رضي الله عنه – ، وكانت تحت «الوليد بن عبد الملك» ؛ لو كان البخل قميصًا ما لبسته، أو طريقًا ما سلكته، وكانت تُعتقُ في كلّ يوم رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله، وكانت تقول: البخل كلّ البخل، من بخل على نفسه بالجنّة (2-284).
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1427هـ = أكتوبر – نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.