دراسات إسلامية
بقلم : د. محمود حافظ عبد الرب ميرزا
جامعة (جواهرلال نهرو) دهلي الجديدة
عندما بدأت نيران ثورة التحرير الهندية عام 1857م تلتهب في مدينة دهلي فإن العلماء الذين قاموا فيما بعد بتأسيس دارالعلوم ديوبند، كانوا ينتظرون فرصة للقيام بدور عام في سبيل الحصول على الاستقلال من براثن الاستعمار الأجنبي الغاشم، فانتهزوا هذه الفرصة الثمينة وبدأوا الخوض في غمارها .
اجتمع هؤلاء العلماء ومنهم «الحافظ ضامن»، و«الحاج إمداد الله»، و«مولانا محمد» وغيرهم وبحثوا سبل قيامهم بثورة مباغتة ضد الإنجليز؛ ولكن بعض العلماء كانوا لا يؤيدون المشاركة في هذه الثورة لعدم وجود أسلحة تعادل ما في حوزة القوات الإنجليزية، ونظرًا لذلك تم استدعاء «مولانا محمد قاسم النانوتوي»، و«مولانا رشيد أحمد الغنغوهي» اللذين حاولا حل هذه القضية متبعين ومقتدين بأسوة رسول الله الكريم، فاستعدا للخوض في ميادين الحرب ضد الإنجليز، وتجمع المجاهدون حولهما من كل ناحية وجمعوا كل الأسلحة الموجودة لديهم .
وبدأت عملياتهم الحربية والقتالية من مدينة «تانه بون» التابعة لمظفرنغر القريبة من ديوبند، وبفضله تعالى استطاعوا الاستيلاء عليها من أيدي البريطانيين، وأقاموا فيها الحكم الإسلامي. وانتشرت هذه الأنباء في جميع بقاء الهند فتحركت القوات الإنجليزية التي كانت في مدينة «سهارنبور» إلى مدينة «شاملي»، وعلم العلماء ذلك ففكروا كثيرًا في طريقة مقاومة هؤلاء الجنود التي تمتلك أحدث أنواع الأسلحة والمدافع، وليس في حوزتهم سوى المدافع والبنادق القديمة. وخطرت على بال «مولانا رشيد أحمد الغنغوهي» فكرة رهيبة حاول أن يغامر بها، فقام هو وأتباعه الذين لم يكن يزيد عددهم على أكثر من أربعين مجاهدًا بالاختفاء وراء الأشجار في انتظار مرور هذه القوة البريطانية الزاحفة فانقضوا عليهم وأطلقوا عليهم الرصاص، ففر الإنجليز تاركين مدافعهم وأسلحتهم ليستولي عليها «مولانا رشيد أحمد» وجنوده وحملها إلى «الحاج إمداد الله»، فأثار هذا العمل الجريء شعلة الحماس في نفوس المجاهدين .
فتقدم المجاهدون نحو مدينة شاملي وقاموا بفتحها بعد معركة حامية الوطيس جرت بينهم وبين القوات الإنجليزية، فرفرفت رأية الإسلام في بقاع شاملي أيضًا. واستُشْهِدَ في هذه المعركة قائدُ المسيرة «الحافظ محمد ضامن». ورغم ذلك فإن أنباء الانتصارات قد شدت من أزر الناس فاجتمعوا حول هؤلاء المجاهدون بصورة جماعية . ولكن أنباء سيطرة الإنجليز على مدينة دهلي لعبت دورًا هامًا في إحباط روح المجاهدين فقل عددهم، ولم يجدوا حلا غير إلقاء السلاح أمام أعداءهم، الذين كانوا يبحثون عنهم ويطاردونهم للانتقام منهم، فهاجر «مولانا إمداد الله» إلى مكة المكرمة، وألقي القبض على «مولانا رشيد أحمد الغنغوهي» فظل في السجن فترة تزيد على ستة أشهر وأختفى «مولانا محمد قاسم النانوتوي» حتى صدر قانون العفو العام .
وبعد أن استطاعت الحكومة البريطانية أن تسيطر على حركة التحرير الهندية عام 1857م بدأ العلماء يفكرون وبكل جدية عن أفضل حل لهذه الأزمة فاتفقوا على ضرورة العمل على إنقاذ أبناء المسلمين من الانحلال في الثقافة الغربية والتأثر بحضارتهم وعملياتهم التبشيرية، وأدركوا ضرورة اللجوء إلى تربيتهم تربية إسلامية بفتح مراكز دينية خاصة لهم كبديل للخوض مباشرة في الحروب ضد البريطانيين، فقامت جماعة نحو «الحاجّ إمداد الله» بالهجرة إلى مكة المكرمة وقامت جماعة أخرى بقيادة «مولانا محمد قاسم النانوتوي»، و«مولانا رشيد أحمد الغنغوهي»، وبعض العلماء الآخرين باللجوء إلى ديوبند عام 1862م والقيام بفتح مدرسة دينية باسم «دارالعلوم / ديوبند» للحفاظ على المبادئ الإسلامية السمحة .
لقد شهد مسلمو الهند بعد انتهاء حكومتهم التي امتدت قرابة 800 سنة، ونتائج ثورة التحرير الهندية عام 1857م المؤلمة تأخرهم في جميع مراحل الحياة، علمًا بأن هذه النتائج الوخيمة التي شهدها المسلمون في الهند كانت نتيجة لابتعادهم عن الإسلام وتعاليمه السمحة تدريجيًا حيث أن البريطانيين قد نزعوا الحكومة الهندية من المسلمين، لذا كانوا يعتبرونهم أعداءهم الأصليين، ونتيجة لذلك كانوا يتخذون جميع تلك السياسات التي كانت تضيف العار والذل والهوان إلى سمعة مسلمي الهند ، واعتبروهم قوادًا وزعماء لثورة التحرير الهندية عام 1857م حيث حاولوا ما في وسعهم أن يقضوا على هذا الدين العريق في هذه البلاد بكل طرق ووسائل، فبدأوا يتدخلون في شؤونهم الدينية أيضا ويقومون بفتح مدارس على نمط المدارس الغربية . يقول هنتر :
«لم يكن في مناهج تعليمنا أية مساحة لتعليم الدين الإسلامي، فقد كنا نخالف جميع مصالح المسلمين» (1).
وتم مصادرة جميع الأوقاف الإسلامية التي كانت تقوم بتولي مهمة رعاية المدارس الإسلامية في الهند منذ القدم. حيث كانت الحكومة الإنجليزية تحاول نشر المسيحية في أبناء البلاد بشتى الطرق حتى تسلم من ظهور أية اعتراضات على حكومتها من الناحية الدينية واتبعت خطة تعليمية سهلت مهمة التنصير حيث استخدمت الكنيسة والمدارس وسيلة للتنصير الجماعي. ولكن رغم جميع تلك التيارات المعادية للإسلام في الهند، إلا أن الله تعالى كان يريد أن يبقى نور الإسلام في الهند ساطعًا، فأحس بعض علماء المسلمين بانهيار القيم الأخلاقية وابتعاد مسلمي الهند التدريجي عن تعاليم الدين، فرفعوا لواء الإصلاح والحركة الإسلامية في الهند ووصلوا إلى النتيجة بضرورة بناء المدارس الإسلامية لصيانة مسلمي البلاد من جميع أنواع الاجتياح الغربي المتمثل في نشر تعاليم المسيحية ، والبدء بالأعمال التبشيرية في أرجاء البلاد المعمورة. كما أن خوف المسلمين وقلقهم على دينهم من الحكومة البريطانية بعد فشل حركة التحرير الهندية عام 1857م لأنها بدأت تقوم بفتح مدارس حديثة غربية وتقوم بتشجيع المبشرين لإبادة الدين الحنيف ومصادرة جميع الأوقاف التي كانت تعتمد عليها المدارس الإسلامية، بدأ يشعرهم بضرورة فتح مدارس تعتمد على عامة الشعب، فخاض بعض العلماء الذين اشتركوا في حركة التحرير الهندية عام 1857م في هذا الميدان العملي لتربية أبناء المسلمين والاحتفاظ عليهم من الانحلال في الحضارة الغربية.
وفي هذه الحالة تم اتباع طريقة خاصة للسير بموجبها متمثلة في إيقاظ المشاعر الدينية في أبناء البلاد، والقيام بفتح مدرسة دينية حتى يتم الحفاظ على الدين الإسلامي من الانتشار والضياع، ومن أبرز الذين قاموا بتأييد هذه الفكرة هم «مولانا محمد قاسم النانوتوي» ورفقاؤه وخاصة «مولانا ذوالفقار علي»، و«مولانا فضل الرحمن»، و«الحاج السيد محمد عابد حسين» وتوصّلوا إلى ضرورة فتح مدرسة دينية في قرية ديوبند بدلاً من مدينة دهلي.(2)
ونظرًا للجهود المتواصلة التي بذلها هؤلاء العلماء تم افتتاح جامعة دارالعلوم عام 1867م بدون أي رسميات أو احتفاليات، وبدأت الدراسة في مسجد صغير يُعْرَف بمسجد «تشته» بطالب واحد اسمه «محمود الحسن» وأستاذ واحد هو «ملا قاري محمود» تحت شجرة رمان في فناء المسجد عام 1867م تحت إشراف العارف بالله «مولانا رشيد أحمد الغنغوهي» (3). وبدأت هذه المدرسة تتخطى مراحل التقدم والازدهار بشكل تدريجي حتى أصبحت تُعرَف بأزهر الهند في جميع أنحاء العالم. يقول العلامة أبوالحسن الندوي:
«إن جامعة ديوبند ليست جامعة دينية فقط، جاز تسميتها بأزهر الهند من كل وجه بل هي تفوق الجامع الأزهر بمصر من بعض الوجوه والنواحي» (4).
علماً بأنه قبل استيلاء الاستعمار الإنجليزي على البلاد كانت المدارس الإسلامية في الهند تعتمد بشكل كلي على ما كان يوقف لها من قبل الأمراء والملوك والحكام المسلمين أو الإقطاعيين الكبار؛ حيث كانوا يتولون جميع نفقات تلك المدارس وميزانياتها السنوية إلا أنه بعد أن سيطرت الحكومة الإنجليزية على زمام البلاد قامت بمصادرة هذه الأوقاف والأراضي بهدف تجفيف منابع الفكر الإسلامي والتعليم الديني للمسلمين في البلاد. فاعتمدت هذه الجامعة بشكل كلي على جمع التبرعات من جميع شعوب البلاد وأهاليها. وبذلك كانوا على اتصال دائم مع جميع قطاعات المسلمين في هذه البلاد. وقد اعترف قادة الإنجليز في الهند بأن استيلاءهم على الأوقاف الإسلامية حرم المسلمين معاهــدهم التعليميــة التي تم إنشاؤها بجانب المساجد .
وأصبحت هذه الجامعة بمثابة منبع يتجه إليه الطلاب من جميع أرجاء البلاد وكذلك بعض الطلاب من خارجها لينالوا قسطهم من التعليم. وبما أن هذه الجامعة كانت بعيدة عن المجال السياسي في بداية أمرها إلا أنه عندما بدأ «السر سيد أحمد خان» يقوم بمناشدة المسلمين بعدم الانضمام إلى حزب المؤتمر القومي الهندي الذي كان يعارض الحكم الاستعماري ، فإن العلماء قاموا بإصدار الفتاوى التي تم التوقيع عليها من قبل أكثر من مائة عالم تتضمن حث المسلمين على ضرورة تأييدهم لإخوانهم الهندوس والاشتراك معهم في حركة تحرير البلاد، وكان «مولانا رشيد أحمد الغنغوهي»، و«مولانا محمود حسن رئيس دارالعلوم» ديوبند، و«مولانا عبد العزيز لدهيانوي»، و«مولانا محمد لدهيانوي»، و«مولانا لطف الله على كرهي» وغيرهم من المؤيدين والموقعين على هذه الفتاوى(5).
كما أن المدارس الدينية التي أنشأها العلماء بعد فشل حركة التحرير الهندية عام 1857م تعتبر بمثابة إشعاع لفكرة الجهاد وإشعالها في قلوب المسلمين حتى بدأ الإنجليز يشعرون بالخوف والرعب من تلك المراكز ويرتعدون من اعتناق المسلمين لفكرة الجهاد ؛ فيبذلون قصارى جهدهم للقضاء عليها ، إلا أن الشعب المسلم بدأ يحتضن تلك المدارس لتظل قائمة تقوم بتأدية رسالتها على أحسن وجه .
كما أن الأساس الذي قامت عليه هذه الجامعة يُعتبرُ أساسًا فكريًا خالصًا يتمثل في كون هذه الجامعة تنزل منزلة دعوة تاريخية لإصلاح العقائد، ونشر الكتاب والسنة، وحركة لصيانة الثروة الإسلامية، والاحتفاظ بالثقافة الإسلامية، والمسلمين في هذه البلاد. وتم اختيار هذه الدعوة والحركة كصورة مدرسة بخصوص ظروف البلاد وأحوال المسلمين في الهند آنذاك ؛ حيث ورث مؤسس هذه المدرسة هذه الصورة للدعوة الإسلامية والحركة الإصلاحية من الشيخ «الشاه ولي الله الدهلوي» وأسرته.
يقول العلامة الندوي:
«ومن سمات العلماء المتخرجين في هذه المدارس الدينية البارزة أنهم كانوا طليعة المناضلين لتحرير البلاد وإجلاء المستعمرين من مركز القيادة في هذه الحركة الشعبية القوية، ومنهم انبثقت فكرة النضال ضد الاحتلال في الحقيقة . وقد قاد كثير منهم حركة المقاومة الفعالة والثورات المسلحة بمقدرة وشجاعة ، فمنهم من قُتِل شهيدًا ومنهم من شنق ومنهم من نفي إلى جزائر «أندمان» وإلى منفى جزيرة «مالطا»، ومنهم من قضى شطرًا من حياته في السجون والمعتقلات في داخل البلاد . وتاريخ حركة التحرير والاستقلال مقترن بتاريخ العلماء والشخصيات الدينية في الهند ، متداخل فيه بحيث لايمكن فصل أحدهما عن الآخر» (6).
وقد قال الدكتور أكبر رحماني في كتابة «من عليكره إلى ديوبند» عن جامعة دارالعلوم / ديوبند:
«إن ديوبند تعتبر قرية مشهورة واقعة في مديرية «سهارنبور» وهي مركز هام للدين والأدب ومن أهم شهرتها هي جامعة دار العلوم ديوبند ؛ حيث أن طلاب هذه المدرسة منتشرون في جميع بقاع العالم . وهي جامعة قديمة تأسست في أيام الحكومة البريطانية لتكون درعاً محافظاً للإسلام والحضارة الإسلامية من الانحطاط في أيدي المستعمرين، وقد قدم هؤلاء العلماء تضحيات كبيرة لتحرير البلاد من أيديهم ؛ فنالوا نصيبهم من الأذى والتعذيب وذاقوا ويلات السجن والنفي؛ فهي ليست جامعة بل هي حركة دينية وسياسية تهتم بأمور الدين والإسلام وما يتعلق بالأمور السياسية» (7).
يعرف بأن دارالعلوم / ديوبند كانت في بداية أمرها لا تهتم إلا بالتدريس ونشاطات البحث والمناظرة فقط ، ولم تبدأ بالاهتمام بالأمور السياسية إلا في القرن العشرين ؛ ولكن يجب علينا أن نعرف بأن الجيش يجب أن يتلقى جميع فنون الحرب ومبادئه وأسسه ؛ لكي يتقن أساليب الحرب ويصبح مستعدًا للخوض في غماره ؛ حيث لايجب إرسال جيش بدون تجهيزه وتمرينه فمثل ما ظهرت حركة «الشاه ولي الله الدهلوي» و«عبد العزيز الدهلوي» التي قامت بتجهيز وإعداد حركة «سيد أحمد الشهيد» للخوض في الحرب ضد المستعمرين بكل قوة ونشاط ظهر أثر حركة «محمد قاسم النانوتوي» و«رشيد أحمد الغنغوهي» في بداية القرن العشرين على شكل حركة الكتاتيب الحريرية بقيادة «شيخ الهند محمود الحسن» وجمعية علماء الهند .
فكما يعلم الجميع بأن جامعة «دارالعلوم/ ديوبند» هي أقدم مؤسسة تعليمية إسلامية في الهند، وهي معروفة بإسهامها في حركة تحرير البلاد من براثن الاستعمار الإنجليزي الغاشم مساهمة فعالة، وكان لها دور بارز ومتميز في إثارة حركة التحرير، وإثارة الحقد والكراهية في نفوس الشعب الهندي ضد الإنجليز. ولاتزال هذه الجامعة تؤدي خدمات جليلة لخلق جو الانسجام والوئام فيما بين سكان البلاد، وإصلاح المجتمع الهندي بشكل عام والمجتمع المسلم بشكل خاص عن مظاهر الفساد والدمار وفشو الرشوة والمنكرات، والسعي لتبادر المودة والألفة فيما بين المواطنين من المسلمين والهندوس سواء بسواء. كما أن لها فضلاً كبيرًا في نشر العلوم الإسلامية والتوعية الإسلامية وإعداد الدعاة الصالحين والاحتفاظ بالتراث الإسلامي والعلوم الدينية والعقائد الإسلامية والشعائر الدينية السمحة ومتابعة المسيرة الإصلاحية في أحسن تقويم ، لتعد حقًا بمثابة نهضة حضارية عظيمة للمسلمين . وكان أبناء هذه الجامعة يدركون حقًا مسؤوليتهم تجاه الأمة ؛ فقاموا بدور مثالي في قيادة الحركات الإسلامية وإنقاذ الشعب المسلم من الجاهلية والشرك.
* * *
الهوامش :
- سيد محبوب رضوي، تاريخ دارالعلوم ديوبند الجزء الأول ص 139.
- سيد محبوب رضوي ، تاريخ العلوم ديوبند ، الجزء الأول ص 119.
- عبد المنعم النمر ، كفاح المسلمين في تحرير الهند ص 38.
- محمد عبيد الله الأسعدي القاسمي، دارالعلوم ديوبند ص89.
- د. محمد هاشم قدواي، جديد هندوستان كى سياسي أور سماجي أفكار ص 386.
- محمد عبيد الله الأسعدي القاسمي، دارالعلوم ديوبند ص65.
- د. أكبر رحماني، عليكره سى ديوبند تك تعليمي سفر نامه ص 112.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1427هـ = يونيو 2006م ، العـدد : 5 ، السنـة : 30.