دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور عبد الرحمن الحوراني
البحر الأبيض المتوسط قلب العالم قديمه وجديده ، وتأريخ ضفتيه الشرقية والغربية ومحيطها هو تأريخ البشرية نسبيًا .
لقد تميزت طبيعة الشطر الشرقي منه باعتدال المناخ وجودة وسعة السهول ، وصلاحية المرتفعات للزراعة وسعة وعمق الصحراء خلفه .. جميعها كانت مناسبة للتجمعات السكانية البدائية ، ثم الحضارية في السهول وعلى ضفاف الأنهار ومصابها . هذا علاوة على ثروات وأساطير الشرق الأقصى خلفه .
ولقد شاءت العناية الإلهية أن تكون فيها البقاع المقدسة التي نزلت فيها النبوات والرسالات السماوية .
أما الشطر الغربي الذي نشأت فيه الحضارات هو وجزره جبلي في طبيعة سهول سواحله ضيقة ماعدا ما يُعْرَف بجنوب فرنسا اليوم مناخه في الغالب شديد البرودة ، وخلف شواطئه سلاسل جبلية وعرة تفصل بينه وبين قبائل آرية وجرمانية وحشية الطباع كثيرًا ما كانت تهاجم سواحله .
ولذلك ومن مطلع التاريخ كان الشطر الغربي عدواني التصرف على الشطر الشرقي بسبب ثرواته الزراعية والتجارية وتراثه الديني والفلسفي والحضاري . وتزايدت روحه العدوانية في عصرنا الحاضر بسبب ما حوى الشطر الشرقي من ثروات معدنية وبترولية واستراتيجية .
لايذكر التأريخ مرة واحدة أن سكان الشرق توجهوا إلى الغرب غزاة ؛ بل على العكس كان يزود الغرب في الماضي السحيق بأنواع الحضارات الدينية والفكرية والمادية عبر الاتصالات التجارية منذ أيام السومريين والكلدانيين والفينيقيين والفراعنة، والمرة التي دخلوا فيها ديار الغرب فاتحين كانت إلى أسبانيا بناء على إلحاح أهلها لتخليصهم من جور وزندقة حكام القوط . ولقد كان ذلك الفتح فتحًا كبيرًا مشرفًا على جميع أوروبا التي كانت تعج تخلفًا وظلمًا وظلامًا .
ويذكر التأريخ مرارًا وتكرارًا أن الشطر الغربي جاء غازيًا منذ أيام اليونان والرومان والحروب الصليبية والاستعمار الأوروبي بدعوى الحضارة ، ثم الاستعمار الأمريكي بدعوى الحرية والديمقراطية اليوم.
وما من مرة جاء الغرب إلا محطمًا ومستلبًا ومدنسًا للمقدسات والأغراض والأخلاقيات ، وما من مرة عبر رجال الشرق إلى الغرب إلا بتجارة مرغوبة أو تبشير لشريعة سماوية وأخلاقيات إنسانية ولا يشهد التأريخ أنهم دمروا حضارة .
كما أن هناك سمة مميزة للشطرين ، فكما غلبت على الشطر الغربي المادية والحسية الجسدية والأفكار الأرضية ، فقد غلبت على الشرقي الروحانية والزهد والتصوف والشرائع السماوية .
أثر العامل الديني :
كما نقلت حضارات الرافدين والشام ، والنيل آثار شرائع السماء وأنواعًا من القوانين وجوانبًا من العلوم والفلسفة الشرقية ، فقد نقلت أيضًا أساطير الآلهة الشرقية . ومن هذا الخليط تشكلت نواة الفكر الأيوني الذي توارثته أوروبا عبر الحضارَتين الاغريقية والرومانية .
ولذلك – فإننا نجد أن الاغريق ومن تلاهم أو قلدهم في أوروبا كانت عندهم طبقة الحكام ورجال المعابد وجمهور الشعب يتلهون بالأساطير الدينية والحربية في الصراعات القائمة بين ما كانوا يعبدونهم والبشر ، كما نجد أن صفوة المجتمع كانت تتحدث أو ينشغل الكثير منها في فلسفات أخلاقية ذات قيم دينية ومبادئ إنسانية ورثوها من الشرق .
ودخلت المسيحية إلى الحلبة ، وتحولت غالبية أوروبا إليها بعد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية . ولكن مبادئ المسيحية لم تسلم من مؤثرات الثقافات الهلينية (اليونانية) والرومانية وقام الصراع الفكري المسيحي بين خط القسطنطينية – روما ، وخط الشام – الإسكندرية . وجاء الإسلام وشعوب الشرق والغرب تئن تحت وطأة الجور الروماني والفارسي ، فاستطاع الإسلام ببضع آلاف من الجنود أن ينقذ هذه المنطقة الشاسعة الواسعة وشعوبها من ظلم حكامهم وصراعهم الفكري الديني المتباين .
ولايزال المؤرخون من غير المسلمين إلى يومنا هذا يعجبون من سرعة انهيار العروش الفارسية والرومانية وعظم الاستجابة للدين الجديد في زمن خيالي وبإعداد من الجيش لاتُصَدق .
ولا أظن ذلك إلا بسبب عدم تمييزهم بين عامل دين ودين . فلقد كانت المجوسية تخدم عرش كسرى ، وكانت المسيحية تخدم أباطرة الروم في حين أن قادة الإسلام وجيوشه كانوا يخدمون البشرية جميعها ، كانوا ينشرون دين الله في أرضه لا لغرض ولا لسلطان .
وكانت طبقة الكهنوت المسيحية قد تمكنت من أحكام قبضتها على الإمبراطور حتى أن التأريخ يروي أن هرقل لم يستطع الانفكاك منها وللتأكد من ذلك يمكن الرجوع إلى الحوار الذي دار بين هرقل (الذي جاءه كتاب رسول محمد ﷺ) وبين أبي سفيان زعيم قريش والذي كان في عنفوان عدائه في مكة المكرمة والمدينة المنورة لدعوة رسول الإسلام محمد ﷺ .
لقد كان ذلك الحوار في (ايلياء) القدس حيث أُحْضِرَ أبوسفيان لمقابلة هرقل بخصوص دعوة الإسلام التي ظهرت في الجزيرة العربية ، ولم يستطع أبوسفيان الذي كتب له الله الهداية إلى الإسلام فيما بعد – أن يكذب في المقابلة مع هرقل بسبب ذكاء هرقل ووضعه رفاق أبي سفيان خلفه ، وطلبه منهم أن يكذبوا أبا سفيان إذا كذب . فالقائد المسيحي صادق يريد الحقيقة ، والزعيم العربي المشرك الذي دخل الإسلام فيما بعد مُجْبَر على قول الصدق .. ثم يستعرض هرقل الروم إجابات أبي سفيان معلقًا عليها كالتالي :
هرقل (للترجمان) :
– قل له إني سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه ذو نسب .. وكذلك الرسل تُبْعَثُ في نسب قومها .
– وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله..
فزعمتَ أن لا ، فقلت لو أحد منكم قال هذا القول قبله قلت رجل يأتم بقول قد قيل قبله .
– وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ماقال .. فزعمتَ أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله .
– وسألتك هل كان من آبائه من ملك ..
فزعمت أن لا ، فقلت لو كان من آبائه ملك قلت يطلب ملك آبائه .
– وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم.
فزعمتَ أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.
– وسألتك هل يزيدون أو ينقصون.
– فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم .
– سألتك هل يرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه ..
فزعمت أن لا فكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد .
– وسألتك هل يغدر ..
فزعمت أن لا ، وكذلك الرسل لا يغدرون .
– وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم ..
فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه تكون دولاً ويدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى وكذلك الرسل تُبْتَلى وتكون لها العاقبة .
أن قد فعل وأن حربكم وحربه تكون دولاً ويدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى وكذلك الرسل تبتلي وتكون لها العاقبة .
لم يستطع أبوسفي – وسألتك بماذا يأمركم ..
فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة .
قال: وهذه صفة النبي قد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه منكم وإن يك ماقلت حقًا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيّه ولو كنت عنده لغسلت قدميه.
– قال أبو سفيان : فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم فلا أدري ماذا قالوا وأمر بنا فأُخْرِجْنا .
(صحيح البخاري) حديث6، ص 62، مجلد211.
لقد كانت تلك البادرة من إمبراطور روماني وبادرة صفرنيوس بطريرك القدس عند تسليمها للمسلمين أول إقرار حقيقي عن العلاقة البشائرية المتصلة بين الشرائع السماوية ، وأنها في ذاتها دين واحد متصل .
ولقد شجع ذلك دخول سكان الشام عربًا وروما أفواجًا في دين الإسلام . ومن لم يشرح الله صدره للإسلام أمّن الإسلام على نفسه وأهله وأرضه وصار جزءًا من دولته .
لكن انتصارات الفتح الإسلامي المتوالية في بلاد العرب من الخليج إلى الأطلسي ثم تجاوزه إلى داخل آسيا الشرقية وتلبيته لنجدة بلاد الأسبان في الغرب ، جعلت حكام وكهنوت أوروبا في داخلها يخشون على سلطتهم ومكانتهم .
وحتى نكون أقرب إلى الصحة التاريخية والحيدة الدينية نترك للموسوعة العربية الميسرة التي كان لنصارى الشرق الباعُ الطويلُ في تأليفها وإنجازها نقتبس منها هذه الفقرات عن الحروب الصليبية (ص 709) الجزء الثاني :
«..وقد كان دافع الحروب الصليبية المباشر هو الموعظة التي ألقاها الباب أربان ، في مجمع كلرمونت 1095، وحث فيها العالم المسيحي على الحرب لتخليص القبر المقدس من المسلمين ووعد المحاربين بأن تكون رحلتهم إلى الشرق بمثابة غفران كامل لذنوبهم ، كما وعدهم بهدنة عامة تحمي بيوتهم خلال غيبتهم ، وقد أخذ الصليبيون اِسمهم من الصلبان التي وُزِّعت عليهم خلال الاجتماع . وعلى الرغم من أن الحافز الديني للحروب الصليبية كان قويًا، فقد كانت هناك حوافز أخرى دنيوية .. فقد استهدف النبلاء المغانم وتأسيس الأمارات ، وكانت للنورمان أهداف توسعية على حساب البيزنطيين والمسلمين على السواء وكانت المدن الإيطالية تهدف إلى توسيع نطاق تجارتها مع الشرق، واجتذب هؤلاء كلهم أيضًا حب المغامرة والأسفار.. » .
إن هذه السطور القصيرة ترسم لنا كيف استغلت زعامات أوروبا الدين في إذكاء حروب بلغت ثماني حملات فيما بين القرن 11-14م سببت دمارًا للشرق وزرعت أحقادًا في قلوب الأجيال على مدى القرون الماضية والتالية .
ولقد عادت الآن في عنفوان قمتها في استغلال الدين لا من أجل المسيح؛ ولكن من أجل المطامع الأوروبية والأمريكية .. ولقد أدركت البشرية جميعها بمن فيها عقلاء أوروبا وأمريكا أن محاولات التنصير ليست من أجل المسيح عليه السلام .. وأن مساعدات الغرب للشعوب التي سلبها استقلالها وكيانها وثرواتها فصارت عاجزة . هي أيضًا ليست للمشاعر الإنسانية والخيرية ، بل استغلال للدين والأخلاق .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم – صفر 1427هـ = فبراير – مارس 2006م ، العـدد : 1–2 ، السنـة : 30.