دراسات إسلامية
بقلم : الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي رحمه الله
فتح الإسلام أبواب العلم على مصراعيها أمام المسلمين ، وبنى للعلم في منظومته مكانًا عاليًا ؛ فقد افتتح الوحي باقرأ ، وأقسم بالقلم وكرّم العلماء وقرّر أن العلم مفهوم جامع لكل من علوم الدين وعلوم الدنيا. وكان بذلك منهجًا مختلفًا كل الاختلاف عما عرف عن بعض الأديان من معارضته للعلم أو صراع معه .
ولكنه أقام تحفظات أساسية في النظرة الإسلامية إلى العلم ، سواء فيما يُسَمَّى بعلوم القدماء (اليونان والفرس والهنود) أو العلوم الغربية المعاصرة التي بدأت نتيجةً لامتلاك الأوربيين للمنهج التجريبي الإسلامي والتي تحوّلت إلى مفاهيم قائمة على الأسس الوثنية التي عرفها اليونان والرومان ؛ حيث اختلف في الوجهة والغاية مع مفهوم العلم الإسلامي .
ولقد فرّق الإسلام بين العلم وبين الفلسفة من ناحية، كما فرّق بين العلم وبين ما يسمى العلوم الإنسانية والاجتماعية من ناحية أخرى ، وقرر أن الفلسفة هي تصورات بشرية مصدرها العقول والأهواء يمكن أن تخطيء وتصيب ؛ ولكنها ليست علمًا بمفهوم العلم التجريبي الذي تقرّر نتائجه في المعامل وعن طريق الأنابيب .
كذلك فإن ما يُسَمَّى بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ليس إلا تجارب عقول بشرية صدرت عن بيئاتها الخاصة ، وهي محدودة وليست عالمية ، وهي مرتبطة بالعصر والثقافات والأوضاع الاجتماعية ، فهي بذلك ليست علومًا عالمية تصلح للمجتمعات المختلفة أو العصور المتباينة ، وهي في أغلب الأمر تتمثل في ردود أفعال لأفعال حادثة .
ومن هنا فإن الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية ليستا من العلوم الأساسية ذات الطابع العالمي الصالح لكل المجتمعات ، وبالأحرى فهي ليست صالحة للتطبيق في المجتمعات الإسلامية التي تقوم على ثقافات وعقائد ومفاهيم وقيم تختلف عن مفاهيم بيئات الغرب التي نشأت فيها هذه الفلسفات وتشكّلت .
ذلك أن المسلمين قد أغناهم ميراثـُهم (القرآن الكريم والسنة المطهرة) بأن قدّم لهم تصورًا كاملاً لعالم الغيب (الميتافيزيق) لم يعودوا بعده في حاجة إلى التصوّرات الفلسفية التي وَضَعَها بعضُ الفلاسفة لعوالم الغيب المحجوبة والعالم الآخر، والتي جاءت الفلسفة المادية في مرحلة أخيرة لها فانقضّت عليها ودمّرتها تمامًا .
كذلك فإن العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية إنما صدرت أساسًا من تصوّر مادّي للإنسان قوامه (نظرية دارون) وتفسيرات علماء الاجتماع لها (أمثال هربرت سبنسر) حيث أصبح التطور البيلوجي تطورًا مطلقًا لكل الكائنات والأوضاع ، وما يتصل بذلك من نظريات فرويد ودور كايم. وكلها تحاول أن تقدم الإنسان بصورة (حيوان ناطق) منطلق وراء شهواته ؛ حيث تكون الجريمة فطرة والزواج ليس من الفطرة ، كما تقول نظرية العلوم الاجتماعية .
ولاشك أن الفكر الغربي يستمدّ هذا المفهومَ للإنسان من الفلسفات اليونانية والرومانية القديمة وبعض التصورات الخاطئة التي نسبت إلى الديانتين اليهودية والمسيحية فضلاً عن مقهوم الوثنية والباطنية والفكر الأفلاطوني والغنوصي جميعًا ..
كذلك فإن الإسلام لا يقرُّ تطبيق مفهوم العلوم التجريبية على العلوم الإنسانية والاجتماعية ؛ لأنها تتصل بالإنسان الذي لا يخضع خضوع المادة لعملية التجريب .
* * *
أما الفكر الإسلامي المستمد من القرآن والسنة والذي تشكَّل في ضوء التوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنًا ، فإنه قدّم للإنسان تصورًا مختلفًا عن هذا التصور المادي والوثني والغربي .
فالإنسان في مفهوم الإسلام أكرمُ مخلوقاتِ الله تبارك وتعالى، وهو المستخلف في الأرض، والمكلف بالعقل، والمعد لعمارة الأرض والسعي فيها، من خلال المسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي .
وفي حدود تصرّفه وعمله يكون حسابه وجزاؤه فليست هناك خطيئة أصليّة ولاتزر وازرة وزر أخرى ، فضلاً عن إيمانه بالغيب والبعث والجزاء واليقين بالله تبارك وتعالى خالقًا ورازقًا وبالنبوة والوحي .
وهو مفهوم مختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الإنسان في الفكر الغربي بما يؤكد عجز العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية الوافدة عن العطاء الصحيح ؛ لأنها وضعت من خلال تصور ناقص يعتبر الإنسان كيانًا ماديًا منفصلاً عن كيانه الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب .
فإذا انتقلنا من دائرة الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية إلى دائرة العلم التجريبي نفسه كان للإسلام موقف واضح مختلف ؛ فليس صحيحًا ما يذيعه بعض العلمانيين من أن المسلمين يقبلون (بالعلم الغربي) المعاصر قبولاً كاملاً، بحجة أنه بعيد عن الفلسفات والمفاهيم المادية والوثنية ، أو أنه علم تجريبي مجرد .
ليس هذا صحيحًا على إطلاقه ، وإنما نرى أن للإسلام موقفاً واضحًا من العلم التجريبي الغربي ؛ حيث أن له على منطلقه تحفظات وضوابط خاصة فيما يتعلق بالوجهة والتطبيق .
فالعلم الغربي يصدر عن استعلاء كاذب مضلل ؛ حيث ينكر صانع الحياة والعلم والكون كله ، ويضع كلمة (الطبيعة) بديلاً عن الألوهية وهذه أكبر أخطائه .
ثم إنه ينطلق من مفهوم المادة ، فينكر كل الجوانب الروحية والمعنوية للإنسان والحياة ، وبذلك يتجاهل جانبًا هامًا هو الصلة بين الإنسان وعلومه وبين الله تبارك وتعالى وخالق العلوم أساسًا وخالق الطبيعة وفاتح آفاق العقل الإنساني لكشفها واستيعابها ، فالعلوم التي تدرس للشباب المسلم في جامعاتنا تنقل من الغرب وتتجاهل صلة هذه العلوم مع النفس المسلمة بالله تبارك وتعالى ولا تشير إلى ذلك أيَّ إشارة .
وللمسلمين في منهجهم المستمد من القرآن والسنة عقائدُ أساسيّة حول طبيعة هذا العالم وعلاقته بخالقه تبارك وتعالى .
ولما كان العلم الغربي قد تجاهل الحقائقَ التي قدّمها الدين الحقّ فقد تصوّر فروضًا ، منها الصدفة والجبرية ونظرية الانفجار الهائل وغيرها من مفاهيم مغلوطة ؛ حيث إن الكون في مفهوم الإسلام لم يبدأ بالانفجار ولم يتطور بالصدقة ولا يقر التطور المطلق.
* * *
ولقد كان لعجز العلم الحديث عن النظر إلى مفهوم الدين الحق الإسلام واستعلائه على الدين جملة مصدرًا لهذه الفروض المضللة التي كشفت التجارب عن فسادها وعجزها عن تقديم الرأي الصائب الذي يكسب ثقة النفس الإنسانية .
وأخطرُ هذه الفروض : ما سُمِّيَ (الحلقة المفقودة) في نظرية دارون ، إذ كيف يمكن لنظرية ناقصة بها حلقة مفقودة أن تتصدّر مجالَ العلم وتظل مسيطرة أكثر من مائة عام ، لولا وجود الملاحدة والصهيونية من ورائها والذين كانوا يبحثون عن سناد لبروتوكولات صهيون من أجل تدمير الإنسان (الجويم) غير اليهودي .
ومن هذه النظريات نظرية خلق الكون ونظرية الوراثة ونظرية حيوانية الإنسان ونظرية الجنس التي قدّمها فرويد واعتبرها منطلق حياة الإنسان .
هذه الفروض التي قدّمها العلم الحديث حول نشأة العالم ليست أقلّ خطأ من الفروض التي تصوّرها الذين كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا : إنه من عند الله .
وفي مواجهة هذه المقولات تُقَرِّر آي القرآن في حسم :
﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمـٰـوٰتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ . سورة الكهف ، آية 51 .
فليست هناك نظريةُ الانفجار العظيم ، ولا نظرية توالد الإنسان من الحيوان .
ومفهوم الإسلام أن هذا العالم خُلِقَ بعد أن لم يكن؛ فليس أزليًا ولا أبديًا بأي شكل من الأشكال، وقد ابتدأ من العدم ، وسوف ينتهي لقيام الساعة وتبدل الأرض غير الأرض والسموات .
ولقد كانت أخطر مغالاة رجال الدين هي رفع الإنسان من بيئة البشرية إلى مرتبة الألوهية ، كما فعلت المذاهب الوضعية فيما قبل التاريخ ، أمثال البوذيين والكرستين (كرشتا) الهنود الذين رفعوا كرشنا وبوذا إلى مصافّ الآلهة . وكانت هذه المغالاة سببًا لانتشار فكرة التطور المادية وهي فكرةٌ أبي أصحابُها الاعترافَ بمبدأ الخالقية ومايترتب عليه ؛ فهي بمثابة ردّ فعل لوضع الإنسان في درجة الحيوان.
وقد مضى علماءُ الغرب في الطريق الصعب، وحاولوا فهم الأمور من منطلق الأسطورة وتراث الأنتربولوجيا فأخفقت مُعْطَيَاتُهم جميعًا
أخفقت في نظرية الطمطومية ونظرية القانونية الطبيعي وفي نظرية خلق الإنسان (التطور).
لقد كانت كل هذه الفروض والتصورات الخادعة توضع موضع العلوم ، ولاتزال تنتقل إلى البيئات الإسلامية على أنها حقائق وعلوم . والهدف هو فرض مفاهيم الفلسفة المادية التي تتصدّر الآن الفكرَ الغربي كلّه ، وترمي إلى محاولة هدم الغيب والنبوة والألوهية أساسًا .
يقول الدكتور ضياء الدين سردار في كتابه (استكشافات في العلوم الإسلامية) لقد ثبت أن العلوم الغربية تُشَكِّل تهديدًا خطيرًا للهوية الإسلامية؛ لأنها تعكس القيمَ الغربيةَ ، وليس تلك الإسلامية ويقول : إن علم الغرب لا يهدد العالم الإسلامي فحسب ؛ بل ينسحب تهديدُه على العالم بأسره ؛ لأن الأبحاث والطبيعيات العلمية الغربية مجردة من كل حدود الأخلاق وكل المسؤوليات الاجتماعية .
ويقول أحد الباحثين في العلوم التجريبية : إن هناك فارقًا بين العلوم التجريبية ونتائجها الثابتة وبين الفلسفات والمذاهب الاقتصادية والاجتماعية ؛ فقد حاولت هذه المذاهب أن تعتبر نفسها علمًا للمجتمع على مستوى دقة علوم الطبيعة (التي ساد الاعتقاد بأنها توصّلت إلى الحقائق النهائية) عن تظاهر الطبيعة والمادة في الكون ؛ ولكنها فشلت . وقد قدم طه حسين مفاهيم «دور كايم» في العلوم الاجتماعية على أنها قوانين علمية ، وفشل في إثبات ذلك .
وقد اتّضح في الحقيقة أنها مقولات جزئية ومؤقتة وليست مطلقة ولا نهائية . ويؤكد بعض الباحثين أن علماء الإنسان في الغرب عمدوا إلى تصفية ما تبقّي من الجوانب الروحية للإنسان وتعريته ما أمكن ونسبته إلى المخلوقات الحيوانية تبعًا لنظرية دارون حول النشوء والارتقاء . وذلك بالتركيز على جانب الغرائز التي تربطه بالحيوانية . كما أقام فرويد نظريته في علم النفس على حيوانية أصل الإنسان التي قال بها دارون .
وبنيةُ الصراع هي إحدى البنيات المُشَكِّلة للفكر الأوروبي والقائمة على ثنائية الروح والجسد وثنائية العقل والعاطفة .
أما الإسلام فإن فكره يقوم على أساس التوازن والتكامل ؛ فالإنسان روح وجسد وعقل ووجدان ؛ والإسلام دين ودنيا وعقيدة وشريعة ؛ والإيمان علم ظاهر وباطن. وقد تميّز الإسلام بالوسطية في مقابل الجدلية التي طبعت الفكرَ الأوروبيَّ .
وقد جمع الإسلام في إهاب واحد بين منهج العلم ومنهج الوحي، وجمع بين النظرية والتطبيق ، كما أقام الإنسان على قاعدة المسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي والإيمان بالبعث والجزاء . فالعلم الإسلامي يتكامل مع بنيات الفكر الإسلامي كلّها، ولا ينفصل عنها ، ويقوم على أساس الأخلاق والارتباط بالوحي والغيب ، ويقرر أن مصادر العلم من عطاء الله تبارك وتعالى ، وأن نتاج العلوم هو للإنسانية كلها، وليس لطائفة معينة أو دولة معينة. ويطالب الإسلام البشرية بالعدل والرحمة، ويقرر نظام الزكاة، ويرفض استعلاء الإنسان على الإنسان أو أمة على الأمم .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1426هـ = ديسمبر 2005م ، العـدد : 11 ، السنـة : 29.