دراسات إسلاميه

إعداد:  د. طه عبدالسلام خضير(*)

بسم الله الواحد الأحد، له الحمد والثناء كله، يفعل ما يشاء ويختار، وصلى الله على النبي محمد، سيد النبيين المصطفين الأخيار، أسرى به ربه ليلا فتجلَّت الأنوار.

       إن الحديث عن رحلة الإسراء والمعراج حديث شيق يحلو للنفوس ويحلو لها الإصغاء، ولذا فلقد أطنب في ذكره العلماء، وأبدع في نظمه ونثره البلغاء والشعراء.

       وفي آي الكتاب الكريم نتلو له قرآنًا تصدرت آياته بقوله سبحان، فقال عز من قائل: ﴿سُبْحٰنَ الَّذِيٓ أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَا الَّذِي بٰرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ اٰيٰتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء:١).

       يبدأ الله (عزوجل) الحديث عن معجزة الإســــراء وأحداثها باسم الفعل ﴿سُبْحٰنَ﴾ أي: تنزه وتقدس، وكأنه يقدِّم بين يدي حديثٍ عن أمر عظيم قد يظن السامع استبعاد وقوعه، فبدأ بالتنزيه لذاته وصفاته عن أن يصعب عليه أمر، أو أن يشق عليه عمل.

       وبشيء من التأمل في كلمة ﴿سُبْحٰنَ﴾ التي تصدرت الآية نلمح علم الله تعالى الأزلي بما سيقوله كفار مكة ومشركوها من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثهم بحديث الإسراء، فنبههم سبحانه بأبلغ مقال أنَّ فعل الإسراء لم يكن من جهة محمد فيشق عليه ذلك فيجوز لكم أن تستبعدوه، وإنما هو من فعل الله عز وجل الذي قال: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس:82).

       والإسراء هو: السير ليلًا.

       ﴿بِعَبْدِهِ﴾: أي الذي هو أشرف عباده وأحقهم بالإضافة إليه الذي لم يتعبد قط لسواه من صنم ولا غيره لأي سبب.

       ﴿لَيْلا﴾: وتتجلى قدرة الله (عز وجل) في حادثة الإسراء في كونها وقعت في جزء من الليل، حيث قال سبحانه: ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ بالتنكير للوقت، ولم يقل في الليل؛ لأن التنكير يفيد التقليل أو التبعيض، ودل بتنوين التحقير على أن الإسراء تم في جزء قليل من الليل، وعلى أنه – عليه الصلاة والسلام – لم يحتج – في الإسراء والعروج إلى سدرة المنتهى وسماع الكلام من العلي الأعلى – إلى رياضة بصيام ولا غيره؛ بل كان مهيئًا لذلك متأهلًا له، فأقامه تعالى من الفرش إلى العرش.

       وتهيئة النبي صلى الله عليه وسلم إن لم تكن برياضات بدنية؛ فإنها كانت بتصفية ربانية؛ فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: «بينا أنا في الحطيم – مضطجع إذ أتاني جبريل فشق ما بين هذه إلى هذه(1) فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم أعيد» (رواه البخاري ومسلم).

       ﴿مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: وهو الكعبة المشرفة بمكة المكرمة.

       ﴿إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصا﴾: ببيت المقدس، وسمى بالأقصى؛ لأنه لم يكن هناك مسجد أبعد منه في ذلك الزمان.

       ﴿الَّذِي بٰرَكْنَا حَوْلَهُ﴾: جعل الله عز وجل البركة منه سبحانه، فكانت البركة بوجود المياه والأشجار وبأن المسجد الأقصى مقر الأنبياء ومهبط الملائكة وموطن العبادات ومعدن الفواكه والأرزاق والبركات.

       وقال ﴿حَوْلَهُ﴾ ولم يقل: فيه لبيان عظمة بركته؛ لأنه إذا كان ما حول المسجد بهذه العظمة من البركة فالبركة في المسجد أعظم.

       ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ اٰيٰتِنَا﴾: هذه هي الغاية العظمى من رحلة الإسراء والمعراج؛ أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من دلائل قدرة ربه وعظمته، ما يطمئن قلبه، ويسكِّن نفسه ويعينه على مواصلة السير في دعوته؛ صابرًا محتسبًا، مستيقنًا بأن الله تعالى ناصره، وأن عمه أبا طالب وزوجه خديجة اللذين ماتا آنفا إنما كانا سببين هيّأهما الله تعالى لإعزاز نبيه، فإذا زالت الأسباب يا محمد فاعلم بما ستراه من آياتنا أن رب الأسباب دائم لا يحول ولا يزول.

       ولكن ما وسيلة انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من حرم إلى حرم بهذه السرعة المذهلة في ذاك الزمن الذي لم يعرف صاروخ فضاء ولا طائرة؟ وماذا رأى في طريقه؟

       فأما عن وسيلة الانتقال فقد روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – قال: «أُتيت بالبراق – وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل – يضع حافره عند منتهى طرفه قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس».

       وعند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: أُتي النبي – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – ليلة أسري به البراق مسرجًا، ملجمًا فاستصعب عليه، فقال له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه، قال: فارفض البراق عرقًا.

       وأما ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق من مكة إلى بيت المقدس بفلسطين فأمر بيانه يطول، ولا يتسع له هذا المقام، ولكني سآخذ طرفا منه، فكان مما رآه صلى الله عليه وسلم ما يحكيه هو نفسه فيقول صلى الله عليه وسلم «لما كانت الليلة التي أسرى بي فيها وجدت رائحة طيبة، فقلت: ما هذه الراحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، قلت: ما شأنها؟ قال: بينا هي تمشط بنت فرعون، إذ سقط المشط من يدها، فقالت: بسم الله، قالت بنت فرعون: أبي؟ فقالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك؛ الله، قالت: وإن لك ربّا غير أبي؟ قالت: نعم فأعلمته بذلك، فدعا بها فقال: يا فلانة ألَكِ رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله الذي في السماء، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت، ثم أخذ أولادها يلقون فيها واحدًا واحدًا، فقالت: إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد فتدفنا جميعًا، قال: ذلك لك بما لك علينا من الحق، فلم يزل أولادها يلقون في البقرة حتى انتهى إلى ابن لها رضيع، فكأنها تقاعست من أجله، فقال لها: يا أمه اقتحمي. فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم ألقيت مع ولدها، فكان هذا من الأربعة الذين تكلموا وهم صبيان»(2).

       ومما رآه صلى الله عليه وسلم ما رواه البيهقي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عليه وسلم قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: «أتيت ليلة أسرى بي على قوم تقرض شفاهم. بمقاريض من نار، كلما قرضت وُفَّت، فقلت يا جبريل: «من هؤلاء»؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به».

       ولما وصل موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى وجد في انتظار تشريفه لفيف الأنبياء والمرسلين، كلهم يريدون النظر إليه ويسعون إلى شرف أئتمامهم به صلى الله عليه وسلم واصطفوا جميعا للصلاة خلفه، معلنين بلسان حالهم تسليم الراية الإيمانية له، فلا إيمان لمن خرج عن لواء محمد صلى الله عليه وسلم وكأن الكون كله يردد في هذه اللحظة قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ﴾ (آل عمران:19)، وقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخـٰسِرِينَ﴾ (آل عمران:٨٥).

       وراح جبريل الأمين يأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم يقدمه للإمامة فتقدم وصلى إمامًا وكل الأنبياء خلفه مأموم، فكان آخرهم بعثًا وأولهم وفدًا وأرفعهم شأنًا وأعلاهم قدرًا.

       ولله در القائل:

أسرَى بك اللهُ ليلًا، إذ ملائكُه

والرُّسْلُ في المسجد الأَقصى على قدَمِ

لما خطرتَ به التفُّوا بسيدِهم

كالشُّهْبِ بالبَدرِ، أَو كالجُند بالعَلمِ

صلى وراءَك منهم كلُّ ذي خطرٍ

ومن يفُـــــــــــــــز بحبيبِ الله يأْتممِ

       ثم يعود الموكب إلى المسير، ولكن هذه المرة يتجه بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى، وهذا هو المعراج، فيخترق الحجب؛ ليصل إلى السماوات العلا، حتى يصل إلى المحل الشريف، ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشٰى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغٰى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيٰتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ (النجم:14-18)

الله هيَّأَ من حظيرة قدسه

نزلا لذاتك لم يجزه علاء

العرش تحتك سدة وقوائم

ومناكب الروح الأمين وطاء

والرسل دون العرش لم يؤذن لهم

حاشا لغيرك موعد ولقاء

       وكان صلى الله عليه وسلم في صعوده يقام له حفل تكريم في كل سماء، يتقدمه بالتحية أهلها من الملائكة ثم من فيها من الأنبياء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «فحملت عليه – أي على البراق –، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت، فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فسلمت، فردا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، – وهكذا في كل سماء فكان في الثالثة يوسف وفي الرابعة إدريس وفي الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين –.

       وبعد هذا الاستقبال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم رُفِعتُ إلى سدرة المنتهى…، ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت، فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله لقد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك، فسله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت، فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت، فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت، فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك، فسله التخفيف لأمتك قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي» (متفق عليه).

سريت من حرمٍ ليلًا إلى حرمٍ

كماسرى البدر في داجٍ من الظلم

وبت ترقى إلى أن نلت منزلةً

من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم

أيها المسلم الكريم:

       إن الحديث عن الإسراء والمعراج جم الفوائد، عظيم الدروس والعبر.

       ومن فوائده أن تعرف قدر نبيك محمد صلى الله عليه وسلم عند ربه.

       ومن فوائده أن تعلم أن الإسلام خاتم الأديان إلى قيام الساعة، وأن كل الأنبياء قد سلموا لمحمد الراية فلا دين إلا دينه ولا طريق إلى الجنة إلا طريقه صلى الله عليه وسلم.

       ومن الفوائد ما رجع به النبي صلى الله عليه وسلم من هدية ربه إلينا وهي فريضة الصلاة، فلا تردوا على الله هديته.

       ومن الدروس أن تعلم أن المسجد الأقصى شرفه الله وطهره تابع لولاية المسلمين، وحرمته ضمن حرمات المسلمين، ونصرته واجبة عليهم.

       ومن الدروس أيضًا: أن تعلم أن الله تعالى لا يعجزه شيء فإذا علمت هذا فاجعل حاجتك إليه ولا تسأل أحدا سواه.

لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجة

وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله

وبُنيَّ آدم إن تسأله يغضب

*  *  *

الهوامش:

(1)        هذه إلى هذه: يعني من نحره الشريف صلى الله عليه وسلم بأعلى الصدر إلى آخر بطنه من أسفل.

(2)        الحديث عن ابن عباس، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط وأخرجه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه أحمد شاكر.

*  *  *

بيان الملكية

     اسم المطبوعـة      :        الـداعـي

     الدورة النشرية      :        شهريـة

     الطابع والناشر      :        (مولانا) أبوالقاسم النعماني

     الجنسيـــة            :        هنــدي

     العنـــوان             :        دارالعلوم ، ديوبند ، يوبي

     رئيس التحرير       :        نور عالم خليل الأميني

     مالك المطبوعة      :        دارالعلوم ديوبند

     أصادق على أن التفاصيل المـذكـورة أعلاه صحيحـة

     حسب علمي واطلاعي                ( توقيع )

                                        (مولانا) أبوالقاسم النعماني


(*)   أستاذ بجامعة الأزهر.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1439 هـ = مارس – أبريل 2018م ، العدد : 7 ، السنة : 42

Related Posts