دراسات إسلامية

بقلم : أ. د / أحمد عمر هاشم

       العلوم التي  صاحبت تدوين السنة في هذا القرن :

       كان القرن الثالث الهجري أزهى وأسعد عصور السنة النبوية ، في كثرة المحدثين ومصنفاتهم النفيسة الخالدة ، وقد تمخضت بحوث الأئمة وتدوينهم للسنة إلى علوم كانت قمة ما وصل إليه الفكر البشري السوي وأصح ما عرف في التاريخ من القواعد العلمية السليمة للرواية والأخبار، ليس بعدها مجال للتثبت والتوثيق ، وقد نسج على منوال علماء الحديث كثيرون من علماء السلف في سائر مجالاتهم العلمية الأخرى كالتاريخ ، والفقه ، والتفسير والأدب وغير ذلك .

       وهذه العلوم هي ما تسمى : «بعلم أصول الحديث» أو علم الحديث «دراية» ذلك علم الحديث ينقسم إلى قسمين :

       الأول : علم الحديث رواية ، وهو علم يعرف به ما أضيف إلى النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة ، ونقل ما أضيف من ذلك إلى الصحابة والتابعين على الرأي المختار .

       الثاني : علم الحديث دراية وهو علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن ، كما قال الشيخ عز الدين بن جماعة : وقال شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر ، أولى التعاريف له أن يقال : «معرفة القواعد المعرفة بحال الراوي والمروي» (1) والتعريفان يتفقان في البحث عن الراوي والمروي من حيث القبول أو الرد .

       وقد نشأت أصول هذا العلم مع نشأة الحديث، إذ كانوا يطلبون من الراوي التثبت وينقدون المرويات ، وقد ازداد الحرص على هذا منذ وقوع الفتن ، فكانوا يقولون : سموا لنا رجالكم ، كما زاد الطلب أيضا عندما قام ابن شهاب الزهري بجمع الحديث من حامليه في الدفاتر والصحف ، ثم بعد ذلك كتب الإمام الشافعي بعض المسائل في كتابيه : «الرسالة» ، و «الأم»، وكان أول من ألف في بعض بحوث هذا العلم هو الإمام علي بن المديني ، كما تكلم في مسائله البخاري ومسلم والترمذي من علماء القرن الثالث، وقام الترمذي فأشاع مسائل هذا العلم وجمع بعضها في خاتمة جامعة .

       فتدوين علوم الحديث إذاً ابتدأ في أبواب ، وفي بعض أنواع منه أثناء المائة الثالثة ، وكانت مؤلفات علماء القرن الثالث في هذا العلم غير جامعة لكل أنواعه في كتب خاصة ، ولا مستقلة قائمة بذاتها ، وإنما تعرضوا لبحث هذه العلوم أثناء تأليفهم وجمعهم للمرويات ، فمنهم من جعلها مقدمة لمؤلفه كما فعل الإمام مسلم ، ومنهم من جعلها خاتمة تبين مراده من المصطلحات كما صنع الترمذي في آخر جامعه ، وعنى الإمام البخاري فألف كتبه في التواريخ الثلاثة ، الكبير والأوسط والصغير، كما ألف أيضًا في تواريخ الرواة الإمام محمد بن سعد (كتاب الطبقات الكبرى) ، وخصص البعض مؤلفات في الضعفاء والعلل ككتاب الضعفاء للبخاري ، وكتاب الضعفاء للنسائي ، ورأى بعض العلماء أن هذه الكتب قد تضمنت اصطلاحات خاصة بأهل الحديث وقواعد كثيرة لهم ، يعرف بها المقبول والمردود ، ففكروا في تخليصها في هذه الكتب وجمعها في علم خاص وتدوينها في كتب مستقلة ، وكان ذلك في القرن الرابع . حيث نضجت العلوم واستقر الاصطلاح ، فألف القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي المتوفى سنة 360هـ كتاب «المحدث الفاصل بين الراوي والواعي»، فجمع كثيرًا من أنواع هذا العلم ، وكان أول من وضع كتاباً مستقلاً في علوم الحديث ، ولكنه لم يستوعب جميع بحوثه ، ثم صنف الحاكم أبو عبد الله النيسابوري المتوفى سنة 405هـ كتابه : «معرفة علوم الحديث»، ولكنه لم يهذب ولم يرتب ، ثم ألف الحافظ الخطيب أبو بكر البغدادي المتوفى سنة 463هـ كتابا في أصول الحديث سماه (الجامع لآداب الشيخ والسامع) ، ثم كثر التصنيف بعد ذلك وتتابع .

       وقد تنوعت الدراسة في هذا الفن إلى علوم كثيرة من أهمها :

       1- علم الجرح والتعديل : وقد أدى حرص العلماء على معرفة أحوال الرواة لتمييز الصحيح من غيره إلى نشأة علم الجرح والتعديل ، أو علم ميزان الرجال ، وهو علم يبحث عن الرواة من حيث ما ورد في شأنهم من تعديل يزينهم ، أو تجريح يشينهم، وتكلم في هذا العلم كثيرون من عهد الصحابة إلى المتأخرين من العلماء ، فمن الصحابة: ابن عباس 68هـ ، وعبادة بن الصامت 34هـ ، ومن التابعين سعيد بن المسيب 63هـ ، والشعبي 104هـ .

       أما ابتداء التصنيف ووضع الكتب في الجرح والتعديل ، فلم يكن إلا في القرن الثالث ، وكان من أوائل الذين ألفوا في هذا العلم : يحيى بن معين 233هـ ، وأحمد بن حنبل 241هـ ، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي ، والبخاري ومسلم وأبو داود السجستاني والنسائي ، ثم تتابع التأليف بعد ذلك .. وألف كذلك أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن سعد بن البرقي الزهري مولاهم المصري الحافظ المتوفى سنة تسع وأربعين ومائتين.

       وممن كتب في الثقات والضعفاء : أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني المتوفى سنة تسع وخمسين ومائتين ، ومن نماذج التأليف في هذا النوع كتاب الضعفاء للإمام البخاري .

كتاب الضعفاء الصغير للإمام البخاري

       وقد نهج البخاري في كتابه على ترتيب الأسماء حسب حروف الهجاء مبتدئًا بحرف الألف حتى إذا ما استوعب من اسمه إبراهيم ، جاء بباب من اسمه إسماعيل ثم بباب من اسمه إسحاق ، ثم أيوب ، حتى إذا ما انتهى من حرف الألف ، جاء بباب «الباء» وهكذا إلى باب الياء مثال ذلك قوله:

       «إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن جارية الأنصاري» يروى عنه وهو كثير الوهم يروى عن الزهري وعمروبن دينار يكتب حديثه .

       إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة المدني الأنصاري الأشهلي عن داؤد بن الحصين – منكر الحديث – وهكذا إلى أن انتهى من الأسماء جاء في آخر الكتاب بالكنى من الضعفاء مثال ذلك :

       أبو الرجال : سمع النضر بن النضر عن أنس عن أبيه عن النبي ﷺ «منكر الحديث عنده عجائب».

       أبو ماجد الحنفي عن ابن مسعود ، ويقال العجلي ، قال الحميدي عن ابن عيينة عن يحيى هو منكر الحديث .

       أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة المدني ، وكان في غالب الأحيان يراعي الترتيب في أسماء الآباء .

       وقد جعل لكل حرف بابا ، وتحت كل باب أبواب فرعية كل منها خاص باسم ومعنون به، لكنه لم يلتزم بترتيب أبواب الأسماء على حروف المعجم فقدم من اسمه إسماعيل على من اسمه إسحاق ، وطبع الكتاب بالهند سنة 1325هـ .

كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي

       رتب النسائي هذا الكتاب على حروف المعجم ، وقسمه إلى أبواب جاعلاً كل حرف من الحروف الهجائية بابًا ، فبدأ بالألف فالباء .. إلخ .

       مثل : باب «إبراهيم» وذكر قائلاً :

       «إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ضعيف مدني»، «إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ضعيف مدني»، «وإبراهيم بن عطية متروك الحديث واسطى»، «إبراهيم بن الفضل متروك الحديث مدني» ، فإذا ما انتهى ممن اسمه إبراهيم انتقل إلى باب من اسمه «أبان» . ثم إلى باب من اسمه «أبى» . فقال : «أبى بن العباس بن سهل بن سعد الساعدي ليس بالقوي ثم باب من اسمه «أيوب» ثم باب إسماعيل ثم باب إسحاق ، ثم باب أسامة وغيره ، ثم تتبع الحروف «بابا» «بابا» حسب ترتيبها الهجائي وهكذا .

       وبعد حرف الياء وهو الحرف الأخير أتى بباب الكنى فقال : «أبو مطيع الخراساني ضعيف».. وفي آخر الكتاب ذكر اسم أم الأسود يروى عنها أحمد ابن يونس غير ثقة . فالإمام النسائي حين يقدم في هذا الكتاب الضعفاء والمتروكين لا يقدمهم أسماء مجردة وإنما يردفها بالرواة الذين أخذوا عنهم حتى يقف الباحث على مصدر الأخذ أثقة هو أم لا ؟ أمنكر هو؟ أمتروك ؟ وهكذا فيبين من روى عنه ويذكر حكمه عليه بالنكارة أو عدم الثقة وهكذا .. ويلاحظ أنه في ترتيب الأسماء رتبها حسب الحرف الأول منها فقط دون نظر إلى بقية الحروف وجعل لكل اسم بابًا كصنيع البخاري . ولم يراع في الترتيب أسماء الآباء إلا قليلاً . ومع ذلك فإن الباحث لا يلقى صعوبة في الكشف فيه ، لأن اسم الراوي يذكر بخط كبير أول السطر ثم يتبعه ببيان حاله كما في الطبعة الهندية سنة 1325هـ .

       2- معرفة الصحابة : وهو من العلوم التي تناولها علماء القرن الثالث الهجري بالدراسة والتصنيف ، وتعتبر معرفة الصحابة «فنا هاما من أجلِّ فنون علوم الحديث» .

       وقد عنى به العلماء ، في القديم والحديث ، ولهذا العلم ثمرته العظيمة وهي : معرفة الحديث المتصل والمرسل .

       قال الحاكم(2): ومن تبحر في معرفة الصحابة فهو حافظ كامل الحفظ فقد رأيت جماعة من مشايخنا يروون الحديث المرسل عن تابعي عن رسول الله ﷺ يتوهمونه صحابيا . وربما رووا المسند عن صحابي يتوهمونه تابعيًا .

       وقد ألفت في معرفة الصحابة كتب ، مرتبة على الحروف أو على القبائل وغير ذلك منها :

       1- كتاب أبي بكر أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن سعيد بن البرقي الحافظ الثقة المتوفى سنة سبعين ومائتين .

       2- «كتاب المعرفة» لأبي محمد عبد الله بن محمد بن عيسى المروزي الشافعي الحافظ المعروف بعبدان المتوفى سنة ثلاث وتسعين ومائتين .

       3- معرفة الصحابة لأبي بكر أحمد بن عبد الله ابن عبد الرحيم بن سعيد بن البرقي الحافظ المتوفى سنة سبعين ومائتين .

       4- كما ألف في معرفة الصحابة أبو منصور محمد بن سعيد الباروذي المتوفى سنة إحدى وثلاثمائة .

       ومن أشهر الكتب في معرفة الصحابة (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لابن عبد البر و (أسد الغابة) لابن الأثير و (الإصابة) لابن حجر.

       3- «علم الرواة» وهو علم يعرف به تاريخ رواة الحديث ورحلاتهم ومواطنهم وموالديهم ووفياتهم وكثير من أحوالهم مما له أثر في توهينهم أو تقويتهم ، وأول من عرف عنه الاشتغال بذلك الإمام البخاري ، وابن سعد في طبقاته(3)، ومن ألف في هذا : أبو الوليد أحمد بن محمد بن الوليد بن عتبة ابن الأزرق بن عمرو بن الحارث الأزرقي المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وقيل سنة سبع عشرة ومائتين ونقدم هنا كتاب : «التاريخ الكبير» للإمام البخاري كنموذج حى ، ومثال صحيح للتصنيف في هذا القرن بالنسبة لعلم الرواة .

التاريخ الكبير

       حاول الإمام البخاري في هذا الكتاب أن يقدم ما استطاع أن يستوعبه من رواة – الصحابة رضي الله تعالى عنهم – ومن بعدهم إلى طبقة شيوخه ، وقام بترتيب هذا الكتاب على حروف المعجم مبتدئا الكتاب بمن اسمه «محمد» تيمنًا وتكريمًا للنبي – عليه الصلاة والسلام – وأعد البخاري في هذا الكتاب لكل اسم بابًا ، ورتب أسماء كل باب على حروف المعجم ، كما لاحظ هذا الترتيب كذلك في الحرف الأول من أسماء الآباء ، ولكنه لم يراع ترتيب أبواب الأسماء على حسب حروف المعجم فنذكر باب إبراهيم ، ثم باب إسماعيل ، ثم باب إسحاق ، ثم باب أيوب ، ثم باب أشعث وهكذا .

       وقد ألف البخاري هذا الكتاب في فجر شبابه ومستهل حياته العلمية ، وكان ذلك قبل أن يؤلف الجامع الصحيح ، يقول البخاري فلما طعنت في ثماني عشرة سنة صنفت قضايا الصحابة والتابعين ثم صنفت التاريخ الكبير في المدينة عند قبر النبي ﷺ في الليالي المقمرة ، وقل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت أن يطول .

       وكان تأليفه لهذا الكتاب حول مقام الرسول ﷺ ، مما يزيده يمنا ويمده بالروحانية ، ولهذا فإن الكتاب قد حظى بثقة كاملة من شيوخه وبتقدير عظيم ، ويدل تصنيفه هذا الكتاب على سعة علمه ونلاحظ على هذا الكتاب أن الإمام البخاري كان يذكر اسم من يترجم له وبعض من روى عنهم وبعض الذين رووا عنه ، وقد يذكر حديثًا لأحدهم إلا أنه قلما يذكر جرحاً وتعديلاً ، وأرى أن هذا راجع إلى أنه استغنى عن ذلك بما ذكره في كتابه الضعفاء .

       وكان لهذا الكتاب أثره فيما ألف بعده من كتب ، فكان البخاري بحق باعث نهضة القرن الثالث في تدوين السنة وفي تاريخ الرجال .

ورواة التاريخ الكبير هم :

       1- أبو الحسن محمد بن سهل بن كردي البصري عنه .

       2- أبو أحمد عبد الوهاب بن محمد بن موسى الغندجاني عنه .

       3- ورواية الشيخ الجليل أبي الحسين عبد الحميد بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر ابن محمد بن يوسف عنه(4).

كتاب التاريخ الصغير

       وأما كتاب التاريخ الصغير للإمام البخاري فقد اختصر فيه تاريخ النبي ﷺ والمهاجرين والأنصار، وطبقات التابعين ومن بعدهم ووفاتهم وبعض نسبهم ، وكناهم ومن رغب في حديثه ، والجز الأول تحدث فيه عن أخبار مهاجري الحبشة وفي آخره تحدث عن المهاجرين والأنصار الذين حدثوا عن الرسول ﷺ ، وتوفوا في عهده . كما تحدث على من توفوا في عهد أبي بكر الصديق – رضوان الله تعالى عليه – ومن بعده من الخلفاء .

       وأما الجزء الثاني من هذا الكتاب فابتدأه بذكر من مات في عهد عثمان بن عفان – رضي الله تعالىعنه – ثم من بعده إلى أن انتهى من الجزء السادبذكر من مات في عهد عثمان بن عفان – رضي م ومن رغب في حديثه ، والجز الأول تحدث فيه عن أخبار مهاس حيث ذكر الذين ماتوا في سنة ست وخمسين ومائتين .

       وقد جاء هذا الكتاب من رواية أبي ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الهروي قال أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي بها قراءة عليه سنة 389 تسع وثمانية وثلاثمائة . قال : أخبرنا أبو محمد بن محمد النيسابوري قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري .

علم معرفة الأسماء والكنى والألقاب

       وهو علم يبحث في معرفة أسماء من اشتهر بكنيته ، وكنى من اشتهر باسمه ، أو يكون قد اشتهر بلقبه دون اسمه أو العكس ، ومعرفته ضرورية للمشتغل بالحديث ، حتى إذا ذكر الراوي مرة باسمه، ومرة بكنيته ، لايظنهما من لا معرفة له أنهما رجلان، وربما ذكر بهما معا فقد يتوهمهما رجلين.

       وممن كتب في ذلك ابن المديني ومسلم والنسائي ، والإمام أحمد بن حنبل كتاب «الأسماء والكنى» ، وكتاب أبي بشر محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري المتوفى سنة عشر وثلاثمائة ، وللإمام البخاري كتاب الكنى .

كتاب الكنى

       ذكر الإمام البخاري في هذا الكتاب كنى من غلبت كنيته على اسمه ، ومن لم يعرف إلا بكنيته، وابتدأ بحسب ترتيب حروف الهجاء بعد لفظ أب أو أم ، وقد ذكر الإمام البخاري فيه أول ما ذكر باب أبو أميمة بن الأخنس قال قبيصة عن أبي سلمة بن شفيق المخزومي عن أبي أميمة بن الأخنس عن عمر في الموضحة ، قال : إنا لا نتعاقل المضغ بيننا ، ثم ذكر بعد ذلك أبا أميمة المخزومي وهكذا إذا ما انتهى من ذكر حرف الألف انتقل إلى حرف الباء إلى آخر ما ذكر، وقد يذكر اسم صاحب الكنية بعد كنيته كأن يقول : أبو ريحانة : اسمه عبد الله ، وذكر في آخره الكنى من النساء واسم أم هانئ بنت أبي طالب «هند»، وقال البعض : اسمها فاختة «واسم أم حبيبة رملة» ، ويلاحظ أنه في آخر هذا الكتاب قال «هذا آخر كتاب التاريخ الكبير، وعلى ذلك فهو جزء منه».

علم تأويل مشكل الحديث

       ويسمى مختلف الحديث ، وهو التوفيق بين ما ظاهره التعارض من الأحاديث وأول من تكلم في هذا العلم هو الإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ، صنف فيه كتابه المعروف باختلاف الحديث ولم يقصد استيفاءه ، وإنما ذكر جملة منه ينبه بها على طريقة الجمع بين ما ظاهره التناقض ، ثم صنف فيه من علماء القرن الثالث ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276هـ وسمى كتابه «تأويل مختلف الحديث» وقد سبق الحديث عنه في الباب الأول .

       وصنف فيه أيضا ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ ، وأبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي المتوفى سنة 307هـ .

علم معرفة غريب الحديث

       وهو علم يعنى ببيان معاني بعض الكلمات الغامضة ، فقد كان – صلوات الله وسلامه عليه – أفصح الناس كان يخاطب الوفود على مختلف ألسنتهم بما يفهمونه ، فلما كانت الفتوحات ، ودخل في الإسلام كثير من العجم ونشأ جيل تشوب العجمة لسانهم خيف على الحديث النبوي أن يستغلق فهمه على بعض الناس فانبرى جماعة من أتباع التابعين ، فتكلموا في غريب الحديث أمثال: مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، وأول من صنف في غريب الحديث أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي المتوفى سنة 210هـ ، وألف فيه من علماء القرن الثالث أيضا أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ كتاباً كان عمدة في هذا الفن جمعه في أربعين سنة ، ثم جاء ابن قتيبة الدينوري ، فنهج منهج أبي عبيد ، وصنف كتابه المشهور . وممن صنف فيه أيضا الإمام إبراهيم الحربي المتوفى سنة 285هـ ، ويقال إن أول من ألف فيه : أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي الحافظ كتابه «غريب الحديث والآثار» ولعل من ذهب إلى ذلك يقصد أول من ألف في غريب الحديث مع الاستقصاء في الجملة ، وإلا فأول من ألف فيه على الصحيح النضر بن شميل المازني ، وكتاب أبي عبيد هذا هو القدوة في هذا الشأن ، وقد أفنى فيه عمره حتى لقد قال فيما يروى عنه : جمعت كتابي هذا في أربعين سنة ، وألف في غريب الحديث كذلك أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري وأبوعمر شمر بن حمدويه ، قيل فيه إنه قدر كتاب أبي عبيد مرارا توفى سنة ست وخمسين ومائتين ، وكتاب ذيل كتاب ابن قتيبة لأبي محمد قاسم بن ثابت بن حزم العوفي السرقسطي الأندلسي واسم كتابه «الدلائل في شرح ما أغفله أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث» وفيه قال أبو علي القالي : ما أعلم أنه وضع بالأندلس مثل كتاب الدلائل ، قال ابن القرضى : ولو قال : ما وضع مثله بالمشرق ما أبعده، مات ولم يكمله فأتمه أبوه أبوالقاسم ، وتوفي أبو محمد سنة اثنتين وثلاثمائة .

كتاب غريب الحديث لابن قتيبة

       وكتاب «غريب الحديث» لابن قتيبة ، حذا فيه حذو أبي عبيد ، ولم يدون فيه شيئا من الأحاديث المودعة في كتاب أبي عبيد إلا ما دعت إليه حاجة من زيادة أو شرح بيان ، ولهذا كان كتاب ابن قتيبة مثل كتاب أبي عبيد أو أكبر منه .

       ويعتبر هذا الكتاب من أوائل ما ألف ابن قتيبة، وأنه قد ألفه قبل تأليف كتاب تأويل مختلف الحديث وقبل كتاب «الأشربة» و «الشعر والشعراء»، وقبل «أدب الكاتب» و «عيون الأخبار» وذلك لأننا نراه في هذه الكتب يشير إلى كتاب «غريب الحديث» .

       ويعتبر هذا الكتاب من الكتب النفيسة المفقودة التي لم تقع في أيدينا . وقد ذكر ابن الأثير أن ابن قتيبة قال في مقدمة كتابه : «وقد كنت زمانا أرى أن كتاب أبي عبيد قد جمع غريب الحديث ، وأن الناظر فيه مستغن به ، ثم تعقبت ذلك بالنظر والتفتيش والمذاكرة فوجدت ما ترك نحوا مما ذكر فتتبعت ما أغفل وفسرته على نحو ما فسره(5)أ.هـ.

علم معرفة علل الحديث

       والعلة عبارة عن سبب غامض قادح في الحديث مع أن الظاهر السلامة منه ، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهرًا .

       وقد تطلق العلة على غير مقتضاها ككذب الراوي ، وغفلته ، وسوء حفظه ونحوها من أسباب ضعف الحــديث وقــد يطلقها بعضـهم على مخالفة لا تقــدح كإرسال ما وصله الثقة الضابط حتى قال: «من الصحيح صحيح معلل كما قيل منه صحيح شاذ» (6).

       أما كيفية إدراك العلة ومعرفتها فهو : تفرد الراوي ومخالفة غيره له مع قرائن تضم إلى ذلك ، تنبه العارف بهذا الشأن على وهم وقع بإرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو غير ذلك بحيث يغلب على ظنه فيحكم بعدم الصحة أو يتردد فيتوقف فيه ، والطريق إلى معرفته : جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم ، والتصنيف على العلل هو جمع الأحاديث المعلة وتدوينها مرتبة ترتيبًا موضوعيًا مبينًا فيها مع كل حديث علته ، وقد يلحق بعض المصنفين هذه الطريقة بطريقة المسانيد فيصنف مسنده معلا وممن صنف في العلل «الإمام علي بن المديني ، والإمام أحمد بن حنبل ، والإمام البخاري ، والإمام مسلم ، وأبو يحيى بن زكريا بن يحيى الضبى المتوفى سنة 307هـ ، والإمام الترمذي ونقدم هنا نموذجًا للتأليف على العلل .

العلل الكبير للإمام الترمذي

       سار الإمام الترمذي في تصنيف العلل على درب الإمام البخاري واعتمد عليه وعلى علمه وكتابه ، وكان يروى فيه كثيرًا عن البخاري مما يدل على تأثره به وانتفاعه بعلمه ، وقد أتقن الإمام الترمذي هذا الفن وحذقه كما هو الشأن في كتابه «الجامع» وغيره حتى قال فيه الحافظ الإدريسي : صنف الجامع ، والتواريخ والعلل ، تصنيف رجل عالم متقن كان يضرب به المثل في الحفظ .

       وللترمذي كتابان في العلل :

       أحدهما : العلل الصغير . «وهو الكتاب الذي ألحقه بجامعه ، وجعله خاتمة له» .

       والثاني هو العلل الكبير . وهذا هو الكتاب المقصود بقول المحدثين رواه الترمذي في العلل . ولكن مما يؤسف له ، أن هذا الكتاب غير موجود بأيدينا ، فهو من الكتب المفقودة . ولعله يكون مخطوطا ضمن مخطوطات خزانات الكتب الأجنبية، أو اندثر ضمن ما اندثر من تراثنا الغزير تحت غبار السنين والقرون .

       وهذا هو ما دعا البعض أن يقول : إنهما كتاب واحد .

       وأرى أن كتاب العلل الكبير . غير كتاب العلل الصغير ، لما روى من الأحاديث عن (العلل الكبير) وهي غير موجودة في العلل الصغير .

       ومثال ذلك ما رواه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة قالت : قال رسول الله ﷺ : «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» ، وقد أعل الترمذي وأحمد والنسائي هذا الحديث لمخالفة عبد الله بن أبي بكر ابن عمر بن حزم الذي تفرد به من هم أكبر منه قدرا كابن عيينة ، ويونس الأيلى وغيرهما ممن رووه موقوفا على حفصة ، ولما رواه نافع في رواية مالك موقوفا علي ابن عمر ، كما ظهرت بعض القرائن في ذلك وهي كثيرة الاختلاف في سند الحديث حتى رجحوا رواية الوقف على رواية عبد الله بن أبي بكر، قال الترمذي في العلل : (وهو خطأ ، وهو حديث فيه اضطراب ، والصحيح عن ابن عمر موقوفا) .

الطبقات

       ومن الأنواع التي صنفت في القرن الثالث كذلك «كتب المشيخات» وهي التي تشتمل على ذكر الشيوخ الذين لقيهم المؤلف وأخذ عنهم ، وأجازوه وإن لم يلقهم كمشيخة الحافظ أبي يعلى الخليلي ، ومشيخة أبي يوسف يعقوب بن سفيان بن حيان ، المتوفى سنة سبع وسبعين ومائتين ومشيخته في ستة أجزاء مرتبة على البلاد .

المشيخات

       ومن الأنواع التي صنفت في هذا القرن أيضا «كتب الطبقات» وهي التي تشتمل على ذكر الشيوخ وأحوالهم ، ورواياتهم طبقة بعد طبقة ، وعصرًا بعد عصر إلى زمن المؤلف ، وتقدم الحديث عن طبقات ابن سعد الكبرى ، وممن ألف كذلك في هذا القرن الثالث أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني العصفري البصري الحافظ أحد شيوخ البخاري ألف «طبقات الرواة» وتوفي سنة ثلاثين وقيل : سنة أربعين أو ست وأربعين ومائتين.

رواية الأكابر عن الأصاغر والآباء عن الأبناء

       وهو من أهم الأنواع ، ومن فوائده ألا يتوهم أن المروي عنه أفضل وأكبر من الراوي لكونه الأغلب في ذلك ، ومنها ألا يظن أن في السند انقلاباً . وهو أقسام :

       1- أن يكون الراوي أكبر سنًا ، وأقدم طبقة من المروي عنه كالزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري في روايتهما عن مالك بن أنس .

       2- أن يكون الراوي أكبر قدرًا لا سنًا كمالك في روايته عن عبد الله بن دينار ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه في روايتهما عن عبيد الله بن موسى العبسي .

       3- أن يكون الراوي أكبر من المروي عنه من الوجهين معا كعبد الغني في روايته عن الخطيب ، وكالخطيب في روايته عن ابن ماكولا(8).

       ومن الكتب المصنفة في هذا النوع في القرن الثالث : كتاب «ما رواه الكبار عن الصغار والآباء عن الأبناء» تأليف الحافظ أبي يعقوب بن إبراهيم بن يونس بن المنجنيقي البغدادي الوراق نزيل مصر المتوفى سنة أربع وثلاثمائة(9).

       والحق أن أنواع علوم الحديث كثيرة لا تعد، وكما قال الحازمي : علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تبلغ مائة ، كل نوع منها علم مستقل، لو أنفق الطالب فيه عمره لما أدرك نهايته .

*  *  *

الهوامش

  • تدريب الراوي ص 5.
  • علو الحديث (25) .
  • تدريب الراوي ص 450 ، علوم الحديث ومصطلحه ص 610 .
  • التاريخ الكبير للبخاري ، طبع بمطبعة حيدر آباد الدكن بالهند سنة 1361هـ .
  • مقدمة النهاية لابن الأثير ص 4 .
  • تدريب الراوي ص 161 .
  • رواه أبو داود ج2 ص 329 ، والنسائي ج1 ص 320، والترمذي ج1 ص 141 ، وابن ماجه ج1 ص 520.
  • تدريب الراوي ص 42 .
  • الرسالة المستطرفة .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.

Related Posts