دراسات إسلامية
بقلم: الدكتور رشيد كهوس (*)
لقد مرت على القدس عصور كباقي المدن والقرى، وتناوبت على القدس أمم وأجناس، وتعرضت القدس إلى سنن الله الكونية سواء الحروب التي يسببها البشر، أو الظواهر الكونية البيئية كالزلازل وغيرها.
فالقدس لها ارتباط تاريخي بالعرب الذين أول مَنْ أسسوا قواعدها، فقد اتفق المؤرخون وعلماء الآثار أنّ العرب أسّسوا مدينة القدس قبل ظهور اليهوديّة بحوالي (3000 ق. م.)، وسمّوها «يبوس» و«أوروسالم» نسبةً للملك «سالم» ومنه جاء اسمها الحالي «جيروساليم». وجاء الاسم «أورشليم» الذي يطلقه اليهود على المدينة من الآراميّة (السريانيّة) وبالتالي فإنّ هذا الاسم كلمة عربيّة وليست عبريّة.
فاليبوسيون وهم: (من القبائل الكنعانية التي خرجت من الجزيرة العربية إلى فلسطين) – هم أول مَنْ أسس مدينة القدس في الألف الرابع قبل الميلاد؛ أي أن عمر عروبتها قبل الميلاد هو أربعة آلاف عام -40 قرنا- فإذا أضيف إليها عمر عروبتها بعد الميلاد – وهو ألفا عام – كان عمر عروبتها – اليوم – قد تجاوز ستين قرنا!.فقد تم اكتشاف قبور تعود إلى العصر البرونزي المبكر سنة 3200- 2000 قبل الميلاد، وسورها في العصر البرونزي المتأخر سنة 1550- 1000قبل الميلاد. وعليه فعروبة القدس تضرب في أعماق التاريخ ستين قرنا.
ومر على القدس عهود: فرعونية، وعبرانية، وآشورية، وبابلية، وفارسية، ويونانية، ورومانية، وبيزنطية.
ففي العصر البيزنطي: أصدر قسطنطين مرسومًا وحّد المذاهب المختلفة، وحرّم على اليهود: الإقامة أو العيش في القدس، مما يدل على أن القدس لم تكن يهودية في يوم من الأيام كما يدعي الصهاينة المعتدون.
ويؤكد عربيتها ما مر فيها من أحداث، وما فيها من معالم إسلامية عربية، فقد بنى الملك الأمويّ عبد الملك بن مروان مسجد الصخرة، ونقش اسمه على قبّة الصخرة المشرّفة مع تاريخ البناء سنة 72هـ.
وتعتبر قبّة الصخرة والمسجد الأقصى من أهمّ وأقدم المعالم العربيّة الإسلاميّة في المدينة. وتُعَدّ جزءًا أساسيًّا من التراث الإسلامي ومن أكثره قدسيّةً.
أقام الدمشقيّون قبّة الصخرة المثمّنة والمذهّبة، واستخدمت أموال سبع سنوات من خراج مصر لإقامتها. أمّا تخطيط المسجد الأقصى المبارك الذي نراه اليوم فهو هندسة عبّاسيّة بغداديّة. ورمّم الأيّوبيّون حيطان الحرم، وجهّز الأتراك الكسوة بالقاشاني الملوّن على أرضيّة زرقاء، وبنوا سور المدينة القديمة، مّما يجسّد بجلاء مساهمة الأمة الإسلاميّة في بناء المسجد الأقصى وقبّة الصخرة وساحة الحرم في القدس القديمة، والمحافظة على تاريخها الإسلاميّ العريق وطابعها الحضاريّ. فتأسيس القدس وتاريخها يثبت بجلاء أنّها مدينة عربيّة إسلاميّة، وازدهرت في العهود الإسلاميّة، فهي بحكم التأسيس والبناء والتاريخ والواقع والطابع الحضاريّ مدينة عربيّة إسلاميّة.
أما اليهود فطارئون على المدينة، استوطنوا خارجها. وتعتبر الآثار النصرانية ذات أهميّة بالغة، ولا مثيل لها في أيّ بقعةٍ من بقاع العالم، ومنها: كنيسة القيامة، وطريق الآلام وما شُيّدت فيه من كنائس. فالمدينة القديمة مليئة بالمساجد والكنائس والمدارس والزوايا والمقابر، وأسندت حراسة كنيسة القيامة – وهي أعظم المقدّسات النصرانية في العالم- إلى أُسرتيْن مسلمتيْن مقدسيّتيْن ومعهما مفاتيح الكنيسة، ويحجّ إليها النصارى في كلّ عام.
وكان رؤساء بلديّة القدس قبل احتلال اليهود لها عربًا حتّى إبّان الاستدمار البريطانيّ لفلسطين.
يقول مصطفى مراد الدباغ في مقدمة كتابه: «موسوعة بلادنا فلسطين» في الجزء الأول منها: «إن دعوى اليهود في حقهم التاريخي في فلسطين ليس له مبرر، وهي دعوى باطلة وفاسدة ليس لها مثيل في التاريخ، وافتراء واضح عليه، فإنهم لم يعرفوا فلسطين إلا في بعض عصورها القديمة، ولم يملكوا إلا جزءًا منها لمدة وجيزة، كانت سيادتهم فيها هزيلة متقطعة، امتلأت أخبارها بالفظائع. وبعد أن مزقهم الرومان شر ممزق في أوائل العهد النصراني، اختفت اليهودية من فلسطين اختفاء كاملًا، وخلت البلاد من اليهود خلوًا يكاد يكون تامًا حتى أواخرالقرن الماضي.
فاليهود دخلوا وطننا وخرجوا منه كما دخله وخرج منه غيرهم من الأمم الغابرة.
وأما صلة العرب بفلسطين وحقهم التاريخي فيها فخالد وصريح لا جدال فيه. فإنهم متصلون فيها، وسكنوها منذ فجر تاريخها ومن قبل أن يوجد يهود في العالم، ولم ينقطعوا عنها، واستمروا فيها إلى يومنا هذا. كما وأن صبغتهم وسيادتهم فيها كانت كاملة. فالعرب لا اليهود أصحاب تلك الصلة وأصحاب ذلك الحق.
فإرجاع اليهود إلى فلسطين وتمكينهم من إقامة دولة يهودية فيها أمر ينافي التاريخ، وبدعة لم تعرف الدنيا لها مثيلًا»اهـ.
* القدس في العهد العمري:
لعلّ مدينة القدس كانت من البواعث القوية التي جعلت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق –رضي الله عنه – يسرع في إرسال جنود الإسلام لفتح بلاد الشام، حيث المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ومعراجه، وهو المسجد الثاني بعد الكعبة الذي يقام في الأرض لعبادة الله تعالى وحده، ولذا جعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المساجدالثلاثة التي تُشَدّ إليها الرحال، ويضاعف فيها الأجر، وتواترت الأحاديث النبوية في فضل ديار الشام عامة، وفضل القدس خاصة.
إلا أن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه قضى نحبه قبل أن يتم فتح فلسطين، وشهدت خلافة عمر بن الخطاب أشد المراحل حسمًا في تقرير مصير فلسطين، فبعد سلسلة من الفتوحات في بلاد الشام توجه القائد أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه نحو مدينة القدس وحاصر الروم بداخلها لمدة أربعة أشهر قطع فيها كل سبل الحياة عليهم، وبعد ضيق شديد أصاب النصارى طلب البطريرك من المسلمين عبر الرسل أن يخبروه عن صفات أميرهم في المدينة، فأخبروه بصفات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فطابق الوصف ما كان موجودًا في كتبهم المقدسة، فطلب المفاوضات مع قائد جيش المسلمين أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فجاءه أبو عبيدة، فسأله البطريرك: لماذا تريدون فتح هذه البلدة المقدسة؟! إن من قصدها يوشك أن يغضب الله عليه ويهلكه! فقال له أبو عبيدة: إنها بلدة شريفة، وفيها عرج بنبينا إلى السماء فكان قاب قوسين أو أدنى، وهي معدن الأنبياء وقبورهم فيها، ونحن أحق منكم بها، ولا نزال عليها إلى أن يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرها. فقال البطريرك: فما الذي تريدون منا؟! فقال: واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما الجزية والصلح، وإما القتال. فوافق البطريق على الصلح، لكنه اشترط ألا يدخلها أحد قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر –رضي الله عنه- كتابا مع وفد من المسلمين ووفد من الروم ولما وصل المرسلون إلى المدينة وجدوا أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- زاهدا ليس له رغبة في الدنيا ولا بجميع الحظوظ والشهوات، فقد ألقى بنفسه حين أصابه الحر نائما على الأرض، فقالوا بهذا غلب الأمم، وأخذ كنوز كسرى وقيصر، وغلب فارس والروم، فقرأ عمر الكتاب على أهل الشورى واستشارهم فأشار ذو النورين عثمان -رضي الله عنه- بعدم ذهابه، وقال: إنهم ولله الحمد مقهورون على كل حال ومخذولون، وأشار علي المرتضى -رضي الله عنه- بذهابه وقال: يا أمير المؤمنين: إن في ذهابك نصرا وعزا للمؤمنين وفتحا، وصغارا وذلا على الكافرين، ولك فيه الأجر والثواب في مشقات ذلك السفر وأتعابه. فاختار عمر المسير، وقال: نادوا بالمؤمنين بالمسير، فعسكر خارج المدينة وجوه قريش والأنصار والعباس – عم المصطفى صلى الله عليه وسلم،- حتى تكامل الجيش فجعل على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسار وقت غداة وهو يقبل بوجهه على المسلمين ويقول: الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام وأكرمنا بالإيمان ورحمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة، وجمعنا به بعد الشتات، وألف بين قلوبنا، ونصرنا به على الأعداء، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا إخوانا متحابين، فاحمدوا الله – عباد الله- على هذه النعمة واسألوه المزيد منها والشكر عليها، وتمام ما أصبحتم متقلبين فيه منها، فإن الله يتم نعمته على الشاكرين.
فلما قاربوا بيت المقدس، فإذا الرايات والرماح والجنود قد أقبلت لاستقبال أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه، وأقبل المسلمون يصفون الخيل ويشرعون الرماح في طريق عمر رضي الله عنه، حتى طلع أبو عبيدة رضي الله عنه في عظيم الناس، فإذا بعمر رضي الله عنه عليه ثياب متواضعة مشققة الجوانب، متقلدا سيفه، يجر بعيره بغلامه، فلما نظر إلى عمر أناخ كل منهما راحلته، ولما أردا المصافحة أخذ أبو عبيدة يد عمر يقبلها، فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا عبيدة، وأهوى يقبل رجل أبي عبيدة، فتراجع أبو عبيدة وقال: يا أمير المؤمنين، فعندها تعانقا وسارا يتحدثان.. ثم قال الفاروق رضي الله عنه قولته المشهورة: «أنتم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم الله تبارك وتعالى بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله تعالى».
ولما قدم عمررضي الله عنه بيت المقدس نزل على الجبل الشرقي وهو الطور، وجاءه رسول بطريقها بالترحيب، وقال: إنا سنعطي بحضورك ما لم نكن نعطه لأحد دونك، وسأله أن يقبل منهم الصلح والجزية، وأن يعطيه الأمان على دمائهم وأموالهم وكنائسهم، فقبل عمر بذلك. وجاءه البطريق «صفرونيوس» الدمشقيّ، الذي هاله وأرعبه تواضع أمير المؤمنين، وعظم شأن الإسلام في عينيه، وقال لقومه: إن أحدا في هذه الدنيا لا يستطيع الوقوف في وجه هؤلاء القوم، فسلموا لهم تنجوا، وتم توقيع العهدة العمريّة، وضمنها شرطٌ بِناءً على طلب البطريرك وهو ألا يسكن اليهود فيها، وأعطاهم الأمن والأمان، وبذلك عرفت القدس الشريف أرحم فاتح في التاريخ من غير قتال، وطلب عمررضي الله عنه من البطريق أن يدله على مسجد داود – عليه السلام- فقال: نعم، فسار عمر متقلدا بسيفه في أربعة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم متقلدين سيوفهم حتى دخلوا المسجد الأقصى، ووجدوا على الصخرة شيئا كثيرا من روث الدواب ونحو ذلك، تلقيه الروم غيظا لليهود، وسأل عمر كعبا وتشاوره في مكان بناء المسجد، فأشار كعب ببنائه شمال الصخرة ليكون متوجها إلى القبلتين، فقال عمر: لقد ضاهيت اليهود وأمر ببنائه جنوب الصخرة، وجعل يرفع الروث عن الصخرة بعبائه ويساعده المسلمون في ذلك، ثم غادرها بعد عشرة أيام.
لقد فتح المسلمون القدس الشريف لأسبابٍ دينيّة واستراتيجية بعد انتصارهم على الرومان في معركة اليرموك، وتم هذا الفتح العظيم سنة 15هجرية.
حافظت القدس على طابعها العربيّ الإسلاميّ حتّى جاء احتلال الفرنجة لها إبّان الحروب الصليبيّة، الذي دام مئتيْ سنة، واستعادها صلاح الدين الأيّوبيّ منهم سنة 1187م.
وبدخول الإسلام والمسلمين مدينة بيت المقدس بدأ التغيير التلقائي والتدريجي للطابع الحضاري فيها: إذ انتشر الإسلام واللغة العربية، وذلك متناسب مع أصل المدينة العربي، وحل السلام والأمن والتعايش والتسامح بين سكانها، مسلمين ونصارى.
* صلاح الدين الأيوبي واسترجاع القدس من أيدي الفرنجة:
وصل الفرنجة إلى بيت المقدس في يوم الثلاثاء الموافق السابع من شهر حزيران (يونيه) عام 1099م/الخامس عشر من رجب سنة 492هـ، وشرعوا بحصار بيت المقدس التي كان سكانها على أهبة الاستعداد للدفاع عنها بكل قوة وشجاعة، وبعد حصارٍ استمر شهرًا ونصف الشهر، ورماية مكثفة من المنجنيق والرماح، تمكّن الفرنجة الصليبيون من الاستيلاء على المدينة في يوم الجمعة الموافق 15 من شهر يوليه (تموز) عام 1099م/ 23 شعبان عام 492هـ، بسبب خيانة الفاطميين الذين لم يقدموا يد العون لحاميتهم في القدس.
وقد اقترف الإفرنج مذبحة رهيبة مروعة ذهب ضحيتها سكان المدينة المقدسة، ومن حضر للدفاع عنها من المناطق المجاورة، ولم يراعِ الفرنجة الصليبيون حرمة الأماكن المقدسة، إذ قتلوا ما يزيد على سبعين ألفًا من المسلمين في المسجد الأقصى، كان من بينهم عدد من الأئمة والعلماء والزهاد والعُبّاد ممن جاور في ذلك الموضع الشريف، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء، وقد افتخر المؤرخ الصليبي «ريمون دوجلوس Raymoundd’Aguils» –الذي عاصر أحداث الحملة الفرنجية الصليبية الأولى- حتى موقعة عسقلان- بالأعمال الإجرامية الحاقدة التي نفّذها بنو جلدته ضدّ سكان بيت المقدس بقوله: «إنهم (الفرنجة) داسوا بالخيول جثث المسلمين المكدسة في الحرم الشريف حيث كانت الدماء تصل (حتى لجام الخيل)».
وفي الموضوع نفسه يقول المؤرخ الفرنجي المتعصب «فوشيه الشارتري Fulcher of Chartres» -الذي شارك بالحملة الفرنجية الصليبية الأولى وكان شاهد عيان لمعظم ما ذكره في كتابه، وإن كانت كتابته تتصف بالغرور والتعصّب لبني جلدته من الصليبيين الحاقدين-: «لو أنّك كنت موجودًا لغاصت قدماك حتى العقبين في دماء المذبوحين، ترى ماذا أقـول؟ إننا لـم نترك أحدًا منهم على قيد الحياة، ولم ينجُ حتى النساء والأطفال». ويضيف قائلا: «لم يبقوا على أحد حتى أولئك الذين كانوا يرجون الرحمة، سقط الجميع كما تسقط التفاحات العفنة من الأغصان المهزوزة، وكما تسقط جوزة البلوط من الأشجار المتمايلة»اهـ.
ويشير المؤرخ الفرنجي «وليم الصوري William of Tyre» إلى أنّ الفرنجة الصليبيين «راحوا يذرعون شوارع المدينة مشرعين سيوفهم فاتكين بكل ما يصادفونه من المسلمين، لا يراعون في ذلك عمرًا ولا وضعًا»..
ولم يكتفِ الفرنجة الصليبيون بذلك، بل إنهم قاموا بشقّ بطون الذين ذبحوهم، لكي يستخرجوا من بطونهم العملات الذهبية التي كان المسلمون قد ابتلعوها وهم أحياء.
ومنذ سنة 492هـ/1099م، ودماء العرب بمدينة القدس ارتوت بها الأرض بيد الحملة الإفرنجية التي ضمّت الشباب المجرم الذي أزعج أوروبا بالقتل والسلب والنهب حيث كانت تسودها الفوضى من مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية وفروق شاسعة بين الطبقات فأراد البابا «إربان الثاني» التخلّص من الشباب المجرم فأثار مشاعرهم بالوعد بالغفران لكلّ من يذهب لتحرير القبر المقدّس من يد المسلمين. فقاد الإمبراطور «ألكسيوس» البيزنطي حملة عسكرية وضمّ المجرمين معهم وتخلّصت أوروبا منهم فهزم الأتراك وزحفوا إلى مدينة القدس وهدموا الأسوار الخارجية وتسلقوا الأسوار الداخلية.
وهجموا على سكان المدينة وقتلوا جميع أهلها من مسلمين ونصارى وألقوا بجثثهم خارج القدس وأصبحت الشوارع والأزقة والحارات مليئة بالدماء. واستولوا على جميع المساكن وما تحويه، وتمّت هذه المجزرة في سنة 1099م. بعدما كان أهلها من المسلمين والنصارى يعيشون في محبة وإخاء منذ تسلّم مفاتيح القدس سيّدنا عمر بن الخطاب من البطريرك (صفرونيوس) بتاريخ (15هجرية وفق 637 م).
واتفق جميع المؤرخين من المسلمين والفرنجة على أنّ الجيش الإفرنجي الصليبي الحاقد ارتكب مذبحة رهيبة مروعة ضدّ سكان بيت المقدس.
وهكذا سقطت القدس، ونشأت «مملكة بيت المقدس النصرانية» بقيادة: «جوديفري» وفر الهاربون ممن استطاع الهرب إلى بغداد، ومن بين الذين هربوا القاضي «الهروي» – رحمه الله- مع نفر من العلماء، فوصلوا بغداد دار الملك وبدءوا يخطبون في المساجد يدعون الناس إلى الجهاد وإنقاذ فلسطين وإعادة القدس والأقصى، وزادت الخطب التي أشعلت حمية المسلمين، وبدأت المظاهرات تحاصر قصر السلطان الذي لم يتحرك، وبعد ضغط شديد خرج السلطان وأعلن الجهاد في سبيل الله، وأرسل إلى الولاة لتجميع الجيوش، ولكن رسله عادت بخفي حنين ولم يتحرك أحد من الولاة لنصرة القدس، فقد كان التمزق والتشتت والضياع وفساد الولاة كفيلا بإحباط الهمم وتذويب المشاعر.
وشاء الله تعالى أنْ يولد صلاح الدين بقلعة كريت في عام 530 هـ/1137م في وسطٍ عائليّ من المجاهدين، وفي صباه وجد كبار العائلة يرتدون العمائم السوداء حزنًا على استعمار الفرنجة لمدينة القدس وضياع كرامة العرب. فجنّد صلاح الدين نفسه لخدمة الوطن مع أقاربه. وشعوره بالوطنية مع مرّ أيام عمره تمّت وترعرعت ونية تحرير القدس في قلبه سكنت وانتظر اليوم الموعود لتحقيق رغبته.
مرت الأيام وتولى صلاح الدين قيادة الجيوش العربية في عهد المجاهد نور الدين محمود. فبداية أمانيه تحققت. وعندما توفي الملك المجاهد تولّى صلاح الدين سلطته عام (567 هـ).
وبعدما تمكّن من الحكم اتّخذ مصر عاصمةً لمملكته. واهتمّ بجميع النواحي الاجتماعية وتحصين مصر بالأسوار والسدود وإقامة القلعة وإنشاء أول مدرسة في مصر للتعليم. وبالرغم من كثرة الأعمال كان فكره مشغولًا بتحرير القدس.
فترك كرسي السلطة بتاريخ (11/مايو عام 1182م) وعهد بتكملة مشروعاته لرجالٍ من الصالحين، وانقطع للجهاد الأعظم في سبيل الله والوطن. وتهيئة العالم العربي للكفاح المقدس وإعداد ما استطاع من قوة ليرهِب عدوالله، وتحرير بيت المقدس وردها لأهلها وللعالم العربي. ظلّ يتنقّل بين أنحاء مملكته لاختيار رجالٍ من المدرّبين على القتال. وعندما اطمأن على القوة اللازمة، حارب ملوك أوروبا بعزيمة وقوة إيمان، وانتصر عليهم في حطين عام 583هـ/1187م، وقامت قواته بفتح المدن الفلسطينية، ثم توجّه بنفسه صوب مدينة القدس، وعندما وصلها في منتصف رجب سنة 583هـ/ العشرين من أيلول (سبتمبر) سنة 1187فحاصرها حصارًا محكمًا، الأمر الذي دفع الصليبيين الحاقدين إلى الاستسلام، وطلب الصلح فورًا، فأجابهم السلطان صلاح الدين إلى ذلك، على أنْ يدفع كلّ رجلٍ منهم عشرة دنانير والمرأة خمسة دنانير، والطفل دينارين، ومن عجز عن الدفع وقع أسيرًا بيد المسلمين، ثم دخلها وجنوده الأبطال مهلّلين مكبّرين مستبشرين شاكرين حامدين في يوم الجمعة ليلة السابع والعشرين من رجب الفرد ليلة الإسراء والمعراج عام 583 هجرية وفق 2/أكتوبر(تشرين الأول) 1187من تاريخ النصارى، وأقاموا صلاة شكرٍ لله بالمسجد الأقصى، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوار القدس، ودقّت أجراس الكنائس تعبيرًا عن المحبة والإخاء بين مكونات المدينة من مسلمين ونصارى.
وفي يوم الجمعة التالية الموافق الرابع من شعبان سنة 583 هـ /التاسع من أكتوبر 1187م صلى المسلمون صلاة الجمعة في بيت المقدس، وكان معهم صلاح الدين الأيوبي الذي صلى في قبة الصخرة.
وأعادالقائد المجاهد البطل صلاح الدين بحسه الوطني مدينة القدس بعد الاستيلاء عليها 93 سنة وردّ كرامة العرب ورفع رأسهم. وبدأ في تعمير المدينة وتمهيد طرقها وترميم مبانيها من مساجد وقبب وأديرة وكنائس، وحمل منبر نورالدين زنكي الذي بناه قبل 20 عامًا آملًا في أن ينقله للمسجد الأقصى.
لقد غنّت عصافير الحرية على أطلال المدينة المباركة التي أعادت للقدس هويتها الإسلامية بعد محاولة التنصير الفاشلة.
وحاول الفرنجة احتلال القدس من جديد إلا أنّهم فوجئوا بتمركز أعداد كبيرة من جند صلاح الدين فيها ففرّوا إلا أنّ حلم السيطرة بقي يراودهم.
وفي عام 1192م اعترف ريتشارد قلب الأسد بالقدس مدينة إسلامية لقاء بقاء مدن الساحل من صور إلى يافا بيده، وهذه الاتفاقية التي سمّيت بصلح الرملة وقّع عليها صلاح الدين مضطرًا من أجل لمّ الصفوف بعد سنوات من المعارك التي أثرت في أداء الجيش الإسلامي.
قال ابن الأثير بعد الحديث عمّا جدّده صلاح الدين بعد الفتح: «فعاد الإسلام هناك غضًا طريًا، وهذه المكرمة من فتح بيت المقدس، لم يفعلْها بعد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- غير صلاح الدين رحمه الله، وكفاه ذلك فخرًا وشرفًا»اهـ.
* سقوط القدس في أيدي الأعداء نتيجة الخيانات:
وبعد وفاة القائد البطل صلاح الدين الأيوبي سنة 589هـ 1193 ميلادية، انقسمت مملكته بين أبنائه إلى ثلاث ممالك، بين الكامل، والمعظم، والأشرف.
ثم في سنة 624هـ، وقع تنافر بين الملك الكامل صاحب مصر وأخيه الملك المعظم صاحب دمشق، فكتب الكامل للإمبراطور «فريديريك» الثاني ملك ألمانيا بأن يتقدم إلى عكا ووعده بتسليم القدس له، فسار الإمبراطور إلى عكا وبالاتفاق توفي المعظم ملك دمشق في تلك المدة وجلس محله ولده الملك الناصر صلاح الدين داود.
ثم وقع بين الملك الكامل والناصر تنافر كبير وقلاقل إلى أن سار الكامل بعسكره واستولى على كثير من ممالك الناصر واضطر إلى وساطة الإمبراطور فعندها نهض الإمبراطور وتسلم صيدا ثم عكا ثم سار إلى القدس وتسلمها باتفاق من الملك الكامل وتنازل منه سنة 627هـ/1229م، ولم يكن جيش «فريديريك» يتجاوز 500 فارس، ولكن الكامل يريد أن يأمن جانب النصارى ويتفرغ لقتال إخوانه، فكان بذلك خائنا عظيما لأمته ودينه ولدماء الشهداء، تم هذا وملوك بني أيوب قد وقعوا في محاربة بعضهم بعضا، وصاروا أحزابا وأعداء حين أن كانوا يدا واحدة، وجرت بينهم حروب ووقائع أضعفتهم وسلطت عليهم أعداءهم، ثم في سنة 625هـ استولى الملك الكامل ملك مصر على دمشق ثم لم يلبث أياما حتى مرض ومات في 6 من رجب من هذه السنة، وجلس محله ولده الملك العادل، ثم سنة 626هـ استولى الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمشق وأعمالها ثم اغتصبها من الصالح إسماعيل أمير بعلبك سنة 627هـ.
وفي عام 636هـ-1239م قصد الناصر صلاح الدين داود – وهو ابن أخي الكامل وكان يحكم الأردن- بيت المقدس وقد جمع جيشًا من الخوارزميين يقارب عددهم عشرة آلاف، وكان الإفرنج قد عمروا أسوارها بعد موت الملك الكامل الذي اشترط عليهم أن تبقى أسوارها خرابا، فحاصرها وهاجمها بقوة فاسترجعها من أيديهم عام 637هـ، وذلك بعد أن بقيت في يد الاستدمار الصليبي الإفرنجي عشر سنوات من تسليم الكامل لهم سنة 627هـ.
ثم في سنة 641هـ وقعت بين الناصر صلاح الدين حاكم القدس وابن عمه الصالح إسماعيل حاكم دمشق مع الصالح نجم الدين أيوب ملك مصر، منازعات أدت الأمر إلى أن تقوى الناصر والصالح إسماعيل بالنصارى واتفقا معهم على بني عمهما وتسلمهم القدس بما فيها من المزارات وطبرية وعسقلان مقابل ذلك… فسقطت القدس في يد الفرنجة مرة ثالثة، ودخلها الفرنجة دون مقاومةٍ تذكر وأقاموا حفلةً للخمور تحت قبة الصخرة في تحدٍّ واضح للمسلمين، فكان ذلك من أشد الأحداث السوداء في تاريخ أمة الإسلام، والذي تولى كبر هذه الخيانة العظيمة الملك الصالح إسماعيل حاكم دمشق.
فاشتد غضب الناس بدمشق على الملك الصالح إسماعيل، وقام سلطان العلماء العز بن عبد السلام بإعلان إلغاء البيعة له، وأمر خطباء المساجد بعدم الخطبة باسمه، وبدأ يزعزع أركان حكمه بعمله ذلك.
فما كان من الملك إسماعيل إلا أن ينفيه خارج الشام، فخرج منها إلى مصر، وقامت الثورات فسحقها بالقوة، وطرد العلماء…
ثم بعد ذلك يخرج الملك الصالح أيوب بجيشه من مصر ويلتقي بجيش تحالف النصارى مع جيش الأردن وجيش دمشق، والتقى الجيشان عند غزة وحدثت معركة عظيمة سميت «بحطين الثانية» عام 642هـ/1244م، بسبب عصيان أفراد من جيش الشام وانضمامهم إلى جيش مصر، مما قلب الموازين، فانتصر جيش مصر ومن انضم إليه من جيش الشام، وجرت مذبحة عظيمة للنصارى قتل منهم 30 ألفا، وفر من فر منهم، وأُخذ الباقون أسرى إلى مصر، ثم استرجع الملك الصالح أيوب الشام والأردن وفلسطين ودمشق مما وحد بذلك الدولة الأيوبية.
ثم طلب نجم الدين أيوب من الخوارزمية أن يساعدوه ثانية لاسترجاع القدس، فتحرّك الخوارزميّون تلبيةً لنداء القدس الذي سئِم الأنين وتمكّنوا من إرجاعها لحمى الإسلام وحضيرة المسلمين عقب سنةٍ من الاحتلال، بعد قتل 5700 من الصليبيين بسيوف العزة. وبعد هذا الفتح بقيت القدس بيد المسلمين، ودخلها العثمانيّون سنة 1517م. وأعاد السلطان سليمان القانونيّ بناء سور المدينة وبنى المسلمون العديد من القباب والمآذن والأروقة والأبواب والسبل في صحن الصخرة المشرّفة وبجوارها وفي داخل الحرم الشريف وحوله.
وبقيت كذلك حتى بداية القرن العشرين سنة 1917م. ففي الثامن من كانون الأول من هذه السنة، دعا متصرّف القدس التركيّ أعيان المدينة ورؤساء الطوائف الإسلاميّة والنصرانية إلى مقرّه، وأبلغهم أنّ الدولة التركيّة قرّرت الانسحاب من القدس دون قتال، وذلك لتجنيب المدينة المقدّسة وأهلها ويلات الحرب، وعدم تعريض الأماكن المقدّسة العظيمة فيها إلى أيّ أذى أو ضرر. وطلب منهم تشكيل وفدٍ لتسليم المدينة إلى القوّات البريطانيّة صباح اليوم التالي، أيْ في 9/12/1917م، حيث تكون القوّات التركيّة والألمانيّة قد أتمّت انسحابها من المدينة.
لكنّهم لم يكونوا يعلمون أنّ الإنجليز قد خانوا وعودهم وعهودهم للشريف حسين، وتعهّدوا لليهود بإعطائهم فلسطين بموجب وعد بلفور، وتمزيق الدولة العربيّة بموجب معاهدة سايكس-بيكو واقتسامها بينها وبين فرنسا.
* القدس تحت نيران المستدمر البريطاني:
عادت الذاكرة باليهود مشتاقة لأيام الأمجاد بسبب ما طرأ على الدولة العثمانية من ضعف، ولأنّهم فقهوا ما جهله العرب من أنّ المطالب لا تأتي بالتمنّي فقد قرّروا الزحف نحو الأراضي العثمانية تمهيدًا لدخول فلسطين التي منعوا من دخولها بقرارٍ من فلسطينيّين. وبعد ضغوط مورست عليهم من قِبَل البريطانيين سمح لهم باستيطان الشمال الفلسطينيّ فقط، إلا أنّ بريطانيا ضاقت من مواقف السلطان عبد الحميد وعملت على دعم القرارات بعزله، وعزل فعليًا سنة 1909م.
سقطت فلسطين بيد البريطانيين سنة 1917م، لتبدأ معاناة أسْرٍ جديدة ما زالت مستمرة، وفور سقوطها وعد اليهود بها من قِبَل المدعو بلفور وزير الخارجية البريطاني مدشّنًا به عهدًا جديدًا من الصراع بين الحق والباطل، بين الظالم والمظلوم.
هكذا أصبحت القدس وفلسطين تحت الاستدمار البريطاني سنة 1917م وأصبحت تحت إدارة عسكرية وانتهجت بريطانيا سياسة تهويد أرض فلسطين لاسيما القدس وأصبحت مدينة القدس مركزًا رئيسًا للمقاومة، واندلعت الحروب بين الجيوش العربية واليهود واحتلت «إسرائيل» القسم الغربي من القدس.
* توالي الجرائم الفظيعة في عهد اليهود الصهاينة:
منذ أيار 1948 أصبح بيت المقدس خرابًا وعاد الاستدمار والسيطرة وإراقة الدماء العربية بالأرض المقدسة، والعالم العربي غمرته سود الأهاويل وينتظر التحرير والسلام من جديد.
لقد أخذت العصابات اليهوديّة المسلّحة في 14/5/1948م – بمجرّد مغادرة قوات المستدمرالإنجليزي للمدينة- بتهويد القدس الإسلامية وتغيير معالمها منذ الساعات الأولى للاحتلال، وذلك بتدمير الأحياء العربيّة، وبناء الأحياء اليهوديّة، وسلسلة من المستدمرات التي تحيط بالقدس من جميع الجهات، وتحويل سكّانها العرب إلى أقليّة، وخلق التواصل بين بلديّة القدس الكبرى والمستعمرات اليهوديّة حولها، ولم يبقَ للعرب من الأحياء خارج السور إلا باب الساهرة ووادي الجوز.
وأخذوا يهاجمون أبواب المدينة القديمة لاحتلالها وتعزيز حارة اليهود بداخلها، وفي الخامس من حزيران عام 1967م أشعل الصهاينة نيران حرب عدوانيّة لتدمير القوّات العربيّة ومنجزاتها وإقامة «إسرائيل العظمى» وفرض الهيمنة «الإسرائيليّة» والأمريكيّة على النفط والثروات والأموال والأسواق العربيّة.
واحتلّت في السابع من حزيران مدينة القدس الشرقيّة، وأصدرت في 11/6/1967م قرارًا ضمّت فيه الضفّة الغربيّة بما فيها القدس. وأصدر الكنيست والحكومة الصهيونية ووزير الداخليّة في 27 و28 حزيران 1967م عدّة قرارات جعلت القدس الشرقيّة جزءًا لا يتجزّأ من القدس المحتلّة.
وفي صباح 21 آب 1969م شبّ حريق هائل بالمسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وفي مدينة الإسراء والمعراج، وامتدّت النيران بسرعة إلى الرواق الجنوبيّ الشرقيّ والمحراب (محراب صلاح الدين الأيّوبيّ) وأعمدة القبّة في المسجد، لتحوّل هذا التراث العربيّ الإسلاميّ المقدّس والنادر في الحضارة الإنسانيّة إلى كومةٍ من رماد، لتدمير المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه.
هرع عرب القدس من مسلمين ونصارى لإطفاء الحريق، كما هُرِع الفلسطينيّون من قرى الضفّة الغربية ومدنها للمشاركة في إطفائه وإنقاذ المسجد الأقصى المبارك من التدمير.
ووصل تآمر اليهود الصهاينة حدًّا أغلق فيه جيش الاحتلال أبواب الحرم الشريف لمنع العرب من الدخول، ولكنّهم أجبروا الجنود اليهود على فتح الأبواب بعد صدامٍ عنيف دام 45 دقيقة ظنًّا منهم بأنّ النيران اليهوديّة ستحوّل المسجد الإسلاميّ إلى رمادٍ خلال تلك الفترة.
وعندما بدأ العرب بمحاولة ضخّ المياه من آبار المسجد، وجدوا مضخّات المياه معطّلة، فأخذ الفلسطينيّون بنشل المياه بأوعيةٍ صغيرة ويتسلّقون سطح المسجد لإطفاء الحريق.
وارتفعت النيران أكثر من ثلاثين مترًا فوق قبّة المسجد الأقصى، والمياه قليلة والجيش الصهيوني يعرقل عمليّة إطفاء الحرائق. وعندما وصلت سيّارات الإطفاء من نابلس ورام الله والبيرة وبيت لحم والخليل وجنين وطولكرم منعتها سلطات الاحتلال من المشاركة في عمليّة إطفاء الحريق بذريعة أنّ عمليّة الإطفاء هي من اختصاص بلديّة القدس المحتلة.
وعندما وصل وزير الحرب الصهيوني دايان استقبله الفلسطينيّون بالهتافات ضدّ «إسرائيل» وردّدوا عبارات: «الله أكبر»، «القدس عربيّة»، «لا هيكل مكان الأقصى». ونجحوا في إخماد الحريق بعد احتراق الجزء الهام من المسجد الأقصى بما فيه منبر صلاح الدّين الذي أحضره من الجامع الأمويّ بحلب.
أضربت مدينة القدس العربيّة فور الانتهاء من إخماد الحريق، واندلعت فيها المظاهرات الصاخبة، وعمّ الإضراب جميع أنحاء الضفّة الغربيّة وقطاع غزة والمناطق الفلسطينيّة المحتلة عام 1948م.
ثم توالت الخروقات الصهيونية وجرائمها البشعة على القدس الشريف، من فتح الرشاشات على العاكفين في المسجد الأقصى وقتل عشرين شهيدًا على أروقة ومصاطب المسجد الأقصى في: 8/10/1990م، وفتح نفق تحت المسجد الأقصى بإذن من «نتنياهو» في شهر سبتمبر سنة 1996م مما أشعل فتيل المظاهرات والاحتجاجات تبعها مجزرة على مصاطب المسجد الأقصى واستشهد أكثر من ستين شهيدًا في: 27/9/1996م، وتابعه تحدي «شارون» لمشاعر المسلمين واقتحامه للمسجد الأقصى سنة 2000م واشتعلت انتفاضة الأقصى، وتابعته جريمة هدم باب المغاربة في مطلع شهر محرم/1428هـ – فبراير/2007م، وتابعته جرائم فظيعة… إلى يومنا هذا الذي تتعرض التلّة التاريخيّة في باب المغاربة للتدمير والتهويد، ويتعرّض أهل القدس إلى مصادرة أراضيهم ومنازلهم وتهويدها وسحب هويّاتهم، وإلى الحصار الاقتصاديّ لتفريغ المدينة من سكّانها العرب، وإسكان المستدمرين اليهود مكانهم، وإكمال بناء الأحياء والمستدمرات اليهوديّة، والاستمرار في الحفريّات تحت أساسات المسجد الأقصى لتدميره وتحويلها إلى مدينة يهوديّة أمام أنظار البلدان العربيّة والإسلاميّة، ومنع الفلسطينيين من أداء الصلاة في المسجد الأقصى، والاعتقالات المتوالية للفلسطينيين والقتل والتشريد والطرد والتجويع…
ويتعرّض المسجد الأقصى إلى خطرٍ حقيقيّ لتدميره وبناء هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه. كلّ ذلك يجري أمام أعين جميع العرب والمسلمين ولا يحرّكون ساكنًا ضدّ هذه المشاهد المروعة…
لقد مرت أربع وستون سنة على احتلال الشطر الغربيّ من القدس، وخمس أربعون سنة على احتلال الجزء الشرقيّ من مدينة الإسراء والمعراج، وثلاث وأربعون سنة على إحراق المسجد الأقصى المبارك.
* * *
للاطلاع على تفاصيل المراحل التاريخية المذكورة يرجى العودة إلى المصادر الآتية:
1. أعمال الفرنجة حجاج بيت المقدس، لمؤلف مجهول، ترجمة: حسن حبشي، القاهرة، ط/1985م.
2. تاريخ بيت المقدس، يعقوب الفيتري (بطريرك عكا)، ترجمة وتعليق: سعيد البيشاوي، دار الشروق، عمّان-الأردن، ط1/1998م.
3. تاريخ الطبري الموسوم ب: تاريخ الأمم والملوك، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه)، تحقيق:مصطفى السيد وطارق سالم، المكتبة التوفيقية، القاهرة،ط/د،ت.
4. تاريخ القدس وحاضرها، عزت جرادات، دار النفائس، عمان، ط/2005.
5. حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ياسين السويد، دارالملتقى، قبرص-لبنان، ط1/1997م.
6. حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية، صلاح عبد الفتاح الخالدي، دارالعلوم للنشر والثقافة/الأردن، ط/2003م.
7. الروضة الأنيسة في السيرة القدسية، أمين بن علي السويد، مخطوط بخزانة جامعة الملك سعود، السعودية، الناسخ: حسن بن يوسف، تاريخ النسخ: 1338هـ، رقم الصنف: 953/د.س، الرقم العام: 5950.
8. سيرة مدينة القدس، خالد محمد غازي: (القاهرة: دار الهدى للنشر، القاهرة- مصر، ط1/1998م.
9. «عروبة القدس تاريخيًّا وقانونيًّا»، محاضرة لغازي حسين، بتاريخ 22/8/2007م في المركز الثقافي بمنطقة العدويّ بدمشق.
10. العرب والروم واللاتين في الحرب الصليبية الأولى، جوزيف نسيم يوسف، الإسكندرية، ط2/ 1967.
11. فتوح البلدان، أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلاَذُري، تحقيق: رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت،ط1/ 1398هـ- 1978م.
12. فلسطين التاريخ المصور، طارق السويدان، دار الإبداع الفكري، ط8/ربيع الأول 1430هـ-2009م.
13. كتاب الأنس الجيل بتاريخ قدس والخليل، أبو اليمن القاضي مجير الدين الحنبلي.
14. الكامل في التاريخ، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الأكرم محمد بن عبد الكريم الشيباني المعروف بابن الأثير: (الجزء العاشر)، دارصادر- بيروت، ط/1385هـ-1965م.
15. مؤرخو الحروب الصليبية، السيد الباز العريني، ط/القاهرة 1962م.
16. المختصر في أخبار البشر، عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن عمر بن شاهنشاه المعروف بأبي الفداء، تحقيق: محمد زينهم محمد عزب ويحيى سيد حسين، ومحمد فخري الوصيف، تقديم: حسين مؤنس، دار المعارف، القاهرة، ط1/1998م.
* * *
(*) أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1438 هـ = يونيو – يوليو 2017م ، العدد : 9-10 ، السنة : 41