دراسات إسلامية

من أقلام الشباب

ملا علي القاري – رحمه الله –

حياته وأعماله، وثناء العلماء عليه

بقلم:  رفيع الدين حنيف القاسمي(*)

يعد العلامة علي القاري من العلماء الأفذاذ في عصره ومصره، وهو أحد صدور العلم في القرن الحادي عشر، ومن عمدة المحققين الأماثل والمدققين النوابغ، وهو الإمام، المحدّث، الفقيه، الأصولي، المفسر، المقرئ، المتكلم، النظار، الصوفيّ، المؤرخ، اللغوي، النحوي، الأديب، نور الدين علي بن سلطان محمد الهروي المكي الحنفي المعروف بالقاري.

مولده وتعليمه:

       وهو من مواليد عام 930هـ في مدينة هراة، أعظم مدن خراسان، حيث تعلم القرآن الكريم، وحفظه عن ظهر قلب، وجوّده، وكان من بين أساتذته بها الشيخ معين الدين بن الحافظ زين الهروي، وغيرهم؛ ثم رحل إلى مكة المكرمة، واستوطنها، وأخذ عن جهابذة العلماء ونوابغ العصر الواردين إلى بيت الله الحرام والقاصدين إليه، فمنهم العلامة ابن حجر الهيثمي، وعلى المتقي الهندي، والشيخ عطية السلمي، وعبد الله السندي، محمد بن علي بن أحمد بن سالم الجناحي، ومحمد بن أبي الحسن البكري، وقطب الدين النهروالي، وميركلان وغيرهم.

       وكان القاري شغل جُلَّ أوقاته في التأليف والتصنيف، وإن عددًا كبيرًا من الطلاب قد تتلمذوا عليه واستفادوا منه، ومن تلاميذه المشهورين: الشيخ محي الدين عبد القادر، وعبد الرحمن المرشدي، ومحمد ابن فروخ الموروي، مولوي جوهرنات الكشميري وغيرهم.

سيرته وأخلاقه:

       كان الملا علي القاري معروفا بالتدين، والورع، والتقوى، والتعفف، وكان يأكل من كد يمينه وعرق جبينه، وقد غلب عليه الزهد والورع، و أخذ الخشية والزهد والعفاف والرضاء بقضاء الله منه كل مأخذ، وكان قليل الاختلاط بالناس، كثير العبادة، والتقوى، وكان يكتب كلّ عام مصحفا بخطّ جميل، ويهمشه بالقراءات والتفسير، فيبيعه، ويكفيه قوتًا له من عام إلى عام(1).

       وكان يرى التزلّف إلى الحكام والأمراء وقبول منحِهم يضرّ بالإخلاص والورع، وقد ألّف في هذا الصدد رسالة سمّاها: «تبعيد العلماء عن تقريب الأمراء».

       ويقول عن نفسه في المرقاة شرح المشكاة:

       «رحم الله والدي، كان يقول لي: ما أريد أن تصير من العلماء خشية أن تقف على باب الأمراء»(2).

مواهبه العلمية:

       وكان له إلمام وشغف في جميع العلوم والفنون، يقول الشيخ سليمان المقري المصري في حاشيته على شرح الضوء اللامع والشيخ يحيىٰ الحباب المكي في حاشيته على شرح المنسك المتوسط:

       «هو علامة زمانه وواحد عصره وأوانه، والمفرد الجامع لأنواع العلوم العقلية والنقلية، والمتضلع من علوم القرآن والسنة، وأحد جماهير الأعلام، ومقدّم مشاهير أولي التحقيق والأفهام، وشهرته كافية عن إطراء وصفه، قرأ ببلده، ثم رحل إلى مكة وتديّرها، فجمع العلم عن علماء العرب والعجم»(3).

       وقد طبقت شهرته حين حياته، ونال المقام العلمي الجدير به، وما زال الناس يستفيدون بعلمه وآثار إلى يوم وفاته شوال عام1014هـ، وقد أوتي على القاري الذكاء النادر، والعقل الراجح، والفهم الدقيق، والصبر على التحقيق والتنقيح، والبيان السهل العذب، فأمكنه العوم والغوص في جميع العلوم والمعارف، وضرب منها أوفر حظ، فألّف الكتب الكثيرة النافعة ما بين صغير وكبير من رسالة إلى مجلدات ضخم.

مكانة القاري العلمية وثناء العلماء عليه:

       تبوأ القاري المكانة المرموقة في الأوساط العلمية في زمانه، قد اعترف كثير من العلماء بغزارة علمه في شتى العلوم والفنون، وكان بحرًا زاخرًا لعلوم الشريعة الغراء، حتى حرر الكتب في جميع العلوم، بل كان له قصب السبق في التصنيف والتأليف، وكان من العلماء الذين لهم طول باع في العلوم العقلية والنقلية، بحيث يشار إليه بالبنان، و بلغ مرتبة الاجتهاد.

       وقد تحدّث بنفسه في كتابه «شم العوارض» عن إحسان الله عليه وإنعامه وكرمه بما أفاض عليه من العلوم الكثيرة لا يعارضه أحد في ذلك.

       وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس مئة سنة من يجدد لها دينها»، فـو الله العظيـم، ورب النبـي الكريـم، إني لو عرفت أحـدًا أعلم مني بالكتاب والسنة، من جهة مبناها أو من طريق معناها، لقصدت إليه ولو حبوًا بالوقوف لديه، وهذا لا أقوله فخرًا، بل تحدثًّا بنعمة الله وشكرًا، وأستزيد من ربي ما يكون لي ذخرًا»(4).

       يقول العصامي في سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل:

       «الجامع للعلوم العقلية والنقلية، والمتضلع من السنة النبوية، أحد جماهير الأعلام، ومشاهير أولي الحفظ والأفهام. ولد بهراة ورحل إلى مكة»(5).

       ويقول عنه الزركلي:

       «محمد نور الدين الملّا الهروي القاري: فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره. ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها»(6).

       يقول ابن عابدين: في تنبيه الولاة والحكام:

       «وفي كلامه إشارة إلى أنه مجدد عصره، وما أجدر بذلك، ولا ينكر عليه ما هنالك إلا كل متعصب هالك»(7).

       «وأحد صدور العلم فريد عصره الباهر السمت في التحقيق وتنقيح العبارات وشهرته كافية عن الإطراء في وصفه… واشتهر ذكره وطار صيته وألف التآليف الكثيرة اللطيفة التأدية المحتوية على الفوائد الجليلة»(8).

       وقال العلامة محمد إدريس الكاندهلوي: (1394هـ) في التعليق الصبيح على مشكاة المصابيح:

       «المحدث الجليل، والفاضل النبيل، فريد دهره ووحيد عصره»(9).

       وقال اللكهنوي في التعليق الممجدد:

       «صاحب العلم الباهر، والفضل الظاهر الشيخ على القاري الهروي»(10) وقال بعد ما عدّد بعض مؤلفاته: «وله غير ذلك من رسائل لا تُعَدّ ولا تُحصى، وكلها مفيدة بلغته مرتبةَ المجددية على رأس الألف»(11).

مؤلفاته العلمية:

       وأما مؤلفات القاري فقد كثرت واشتهرت وذاعت على ألسنة الناس ما بين مطبوع ومخطوط، وقد اختلف العلماء اختلافًا كثيرًا في عدد مؤلفاته العلمية، و قد استعصى حصر مؤلفاته العلمية، ومن الحقائق الساطعة أن القاري قد أعطى ذهنًا ثاقبًا وقّادًا، لم يترك أيّ فن من الفنون إلا ترك فيه آثارًا علمية، وكمية كبيرة من الكتب، وكان له اطلاع واسع على كلام أئمة  المتقدمين والمتأخرين، كان له براعة ونبوغ في العلوم النقلية والعقلية، فألّف الكثير من التأليفات العلمية التي تُنبئ عن غزارة علمه وسعة اطلاعه على المصادر والمراجع، وتمكنه وقدرته على كثير العلوم الإسلامية، فكتب في التوحيد والتفسير وعلومه، والحديث وعلومه، والسيرة النبوية، والتراجم، واللغة والنحو وغير ذلك.

       قد استعصى حصر مؤلفاته وضبطها على القدماء والمحدثين، رغم وفرة المراجع التي ترجمت له، قال ابن مرداد في مختصر نشر النورنقلاً عن الشيخ سليمان المقري المصري الحنفي:

       «هو علامة زمانه، وواحد عصره وأوانه، والمفرد الجامع لأنواع العلوم العقلية والنقلية والمتضلع من علوم القرآن والسنة النبوية، وعالم البلد الحرام والمشاعر العظام، وأحد جماهير الأعلام، ومقدم مشاهير أولى التحقيق والأفهام، وشهرته كافية عن إطراء وصفه….. واشتهر ذكره، وطار صيته، وهو من كبار المصنفين، وعظماء المؤلفين،  كنز المحققين، والحفاظ ورئيس المدققين، والوعاظ، وتآليفه لا تحصى ولا تستقصى».

       وقال بعد عدّ بعض تآليفه العلمية النفيسة بنفسه:

       «وأفاد بعض شراح الحزب الأعظم بأنه قال: سمعت من حفيد المترجم بمكة المكرمة أنه قال: إن لجدنا ثلاث مئة من المؤلفات وأنه أوقفها وشرط لا يُمنع من استنساخها»(12).

       وقال عبد الحي اللكهنوي:

       «وكل مؤلفاته نفيسة في بابها وفريدة ومفيدة بلغته مرتبة المجددية على رأس الألف من الهجرة»(13).

       فعدّ له البغدادي في هدية العارفين قريبًا من سبعة ومئة كتاب، وكذلك عدّ له الجشتي صاحب البضاعة المزجاة أربعة وثلاثين ومئة كتاب، وعد بروكلمان نحو خمسة وثمانين ومئة كتاب.

عصارة القول:

       كان ملا على القاري من العلماء الأفذاذ في عصره ومصره، وقد ترك خلفه حشدًا كبيرًا من تلاميذه المستفيدين بجانب مؤلفاته العلمية الكثيرة النافعة التي ينتفع بها الخلق إلى الأبد إن شاء الله تعالى، مؤلفاته خير دليل على كفاءته العلمية، ومؤهلاته التأليفية.

*  *  *

الهوامش:

(1)        الزركلي، الملا علي القاري: 5/12، دار العلم للملائين.

(2)        ملا علي القاري، مرقاة المفاتيح، كتاب العلم: 1/133، دار الفكر، بيروت.

(3)        محمد عبد الرحمان شماع، الملا على القارين فهرس مؤلفاته وما كتب عنه، مستلة من مجلة آفاق الثقافة والتراث ، العدد:1، عام 4141هـ-3991م.

(4)        ملا علي القاري، شم العوارض: حكم سب الصحابة عند الحنفية: 1/37، مركز الفرقان للدراسات الإسلامية.

(5)        العصامي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل:4/402، دارالكتاب العلمية، بيروت.

(6)        خير الدين الزركلي، الملا علي القاري: 5/12، دار العلم للملائين، بيروت.

(7)        محمد بن أمين الشهير بابن عابدين: تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام، ص: 144، دارالآثار- قاهرة، الطبعة الأولى؛ 1428هـ /2007م.

(8)        محمد أمين بن فضل الله، خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: 3/185.

(9)        محمد إدريس الكاندهلوي، التعليق الصبيح على مشكاة المصابيح: 1/6، مجلس إشاعة العلوم الكائن بحيدرآباد الدكن، طبع بمطبع الاعتدال ، دمشق.

(10)      عبد الحي اللكنوي: التاريخ الممجد على موطأ محمد: 1/106، دارالسنة والسيرة، ممبائي دار القلم –دمشق، الطبعة الأولى؛ 1412هـ/1991م.

(11)      التعليقات السنية على الفوائد البهية للكنوي، ص: 8-9.

(12)      الشيخ عبد الله مرداد أبو الخير، المختصر من كتاب نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة:365-367، الطبعة الثانية، 1406هـ/1986م، عالم المعرفة ، بيروت.

(13)      موطأ الإمام مالك، مع التعليق الممجد على موطأ محمد شرح العلامة عبد الحي اللكهنوي:1/105-106، مع تعليق وتحقيق الدكتور تقي الدين الندوي،  دار القلم ، دمشق.

*  *  *


(*)        وادي مصطفى، شاهين نغر، حيدر آباد، الهند

           رقم الجوال: 09550081116

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، شعبان  1438 هـ = مايو 2017م ، العدد : 8 ، السنة : 41

Related Posts