دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ /محمد بن إبراهيم بن أحمد الحمد
سوء الخلق كغيره من الأدواء؛ فله أسباب تجلبه، وبواعث تحرّكه.
فمن ذلك ما يلي:
1- طبيعة الإنسان:
فهناك من الناس من جبل على القحة، والبذاءة، وسوء الخلق، فتغلب عليه هذه الطبيعة، ويؤثّر فيه، وتوجّهه إلى مساوئ الأخلاق، وتصرّفه عـن محاسنها. خصوصًا إذا استرسـل مع طبيعتـه، و لم يسع إلى إصلاح نفسه.
2- سوء التربية المنزلية:
فالتربية المنزلية لها دور عظيم في توجيه الأولاد سلبًا أو إيجابًا؛ فالبيت هو المدرسة الأولى للأولاد، والولد قبل أن تربّيه المدرسة والمجتمع يربّيه البيت والأسرة. والولد مدين لوالديه في سلوكه المستقيم، كما أن والديه مسؤولان إلى حد كبير عن فساده وانحرافه. فإذا تربّى الولد في المنزل على مساوئ الأخلاق، وسفاسف الأمور، وتربّى على الميوعة، والترف نشأ ساقط الهمـة، قليـل المروءة، فهذه التربية تقضي على شجاعته، وتقتل استقامته ومروءته(1).
أضف إلى ذلك أن الأولاد يرثون طباع والديهم كما يرثون أشكالهم، ولذلك قيل: إذا أردت ولدًا صحيحًا فتخيّرْ له آباء أصحّاء أقوياء.
ويقول الشاعر العربي في وصف ابنه:
أعرف منه قلّة النعاس
وخفّة في رأسه من رأسي
فإذا كان الوالد سيّئ الخلق، عديم المروءة؛ فإن ذلك الأثر سيلحق بالأبناء في الغالب(2).
3- البيئة والمجتمع:
فلهذين الأمرين أهمية كبرى في حسن الخلق وسوءه؛ فإذا نشأ المرء في بيئة صالحة، من بيت طيب، و مدرسة تعنى بدين الطلاب وأخلاقهم، وكان في مجتمع تشيع فيه الفضيلة ومحاسن الأخلاق نبت خير منبت، وتربّى خير تربية، وإلّا فما أحراه أن يكون سافل القدر شرّيرًا لا خير فيه. قال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:58].
4- الظلم:
فالظلم يحمل صاحبه على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع البخل، ويُحجم في موضع الإقدام، ويُقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع(3).
5- الشهوة:
فهي تحمل على الحرص، والشحّ، والبخل، وعدم العفّة، والنهمة، والجشع، والذل، والدناءة(4).
رب مستور سبتـه شهـوة
فتعــرى ســـتره فانهتكا
صاحب الشهوة عبد فإذا
غلب الشهوة أضحى ملكا(5).
ثم إنه سهل على الإنسان أن يدرك معنى الفضيلة في صورة مجملة؛ بل سهل عليه أن يتعرف ما هي الفضائل بتفصيل.
وإنما العسر في أخذ النفس بها، والسير في معاملة الناس على قانونها، وعسر العمل على الفضيلة مع تصور مفهومها، والشعور بحسن أثرها يجيء من ناحية الشهوات التي قد تطغى فتنطمس على البصائر و تكاد تحول معرفتها للخير إلى جهالة عمياء(6).
6- الغضب:
فهو يحمل على الكبر، والحقد، والحسد، والعدوان، والسفه(7)، وهذه الأوصاف تتنافى مع حسن الخلق.
7- الجهل:
فالجهل يورد صاحبه المهالك، وينزع به إلى الشرور والبلايا. والجاهل عدو لنفسه، يسعى في دمارها من حيث لا يشعر. ولهذا قيل:
لا يبلغ الأعداء من جاهل
كمبلغ الجاهل من نفســه
فالجهل بعواقب الأمور، وبمحاسن الأخلاق ومساوئها يؤدي إلى فساد عريض، وشرّ مستطير، ويحمل صاحبه على ارتكاب مالا ينبغي.
8- الولاية:
فالولاية قد تحدث في الأخلاق تغيرًا، وعلى الخلطاء تنكّرًا، إما من لؤم طبع، وإما من ضيق صدر؛ ولهـذا قيل: «من تاه في ولايته ذلّ في عزله»(8).
وقال سالم بن قتيبة: «ما تكبر في ولايته إلا من كبرت عنه، ولا تواضع فيها إلا من كبر عنها»(9).
وقد كان للشافعي صديق تولى إمرة بعض البلاد، فتغيرت عاداته عما كانت عليه، فكتب إليه الشافعي يقول:
اذهب فؤادك من فؤادي طالق
أبدًا وليس طلاق ذات البين
فإذا ارعويت فإنها تطليقــة
ويـدوم ودك لي عـلى ثنتـين
وإذا رجعت شفعتها بمثلها
فتكون تطليقتين في حيضين
وإذا الثلاث أتتك مني بتّـةً
لم تغن عنك ولاية السيبين(10)
قال يحيى بن الحكم: «والله لقد ولي الحجاج، وما عربي أحسن أدبًا منه، فطالت ولايته، فكان لا يسمع إلا ما يحبّ، فمات وإنه لأحمق سيئ الأدب»(11).
9- العزل:
فكما أن الولاية تحدث في الأخلاق تغيرًا فكذلك العزل؛ فقد يسوء به الخلق، ويضيق به الصدر، إما لشدة أسف، أو لقلّة صبر(12).
ولهذا فمن مقوِّمات صاحب المروءة ألا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة.
10- الغنى:
فقد تتغير به أخلاق اللئيم بطرًا، وتسوء طرائقه أشرًا، وقد قيل: من نال استطال، وقال بعضهم:
فإن تكـن الــدنيا أنالتك ثـــروة
فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر
لقد كشف الإثراء منك خلائقا
من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر(13).
وقال أحمد بن إبراهيم يخاطب بعض أهله:
أظنّك أطغاك الغنـــى فنسيتـني
ونفسك والدنيا الدنية قد تنسي
فإن كنت تعلو عند نفسك بالغنى
فإني سيعليني عليك غنى نفسي(14).
11- الشهرة وبعد الصيت:
فهناك من إذا ذاعت شهرته، وبعد صيته إما بسبب علمه، أو ماله، أو نحو ذلك تغير أحواله، وتبدلت أخلاقه وطباعه، فازدرى من حوله، وتنكّر لمن كان معه في بداية طريقه.
قال البارودي:
وكذا اللئيم إذا أصاب كــرامــة
عادى الصديق ومال بالإخوان(15).
12- كثرة الهموم:
التي تذهل اللبّ، وتشغل القلب، فلا تتبع الاحتمال، ولاتقوى على صبر، وقد قيل: الهمّ كالسمّ(16).
13- الأمراض:
التي يتغير بها الطبع، كما يتغير بها الجسم، فلا تبقى الأخلاق على اعتدال، ولا يقدر معها على احتمال(17)، قال المتنبي:
آلة العيش صحّة وشباب
فإذا ولّيـا عن المـــرء ولّى
وإذا الشيخ قال:أف فما ملـ
لّ حياة وإنما الضعف ملّا(18)
14- كبر السن:
فلذلك تأثيره على الجسم والنفس معًا، فكما يضعف الجسد عن احتمال ما كان يطيقه من أثقال، فكذلك تعجز النفس عن أثقال ما كانت تصبر عليه من مخالفة الهوى، والصبر على الأذى.
15- ضيق العطن:
فهناك من الناس من هو ضيق العطن، لا يريد من أحد أن يخطئ، ولا يتحمل أدنى إساءة أو خطأ، فتجد أن نفسه تضيق عند أدنى زلّة أو هفوة.
16- الغفلة عن عيوب النفس:
فكثيرًا ما نغفل عن عيوب أنفسنا، ونتعامى عن معايبنا ونقائصنا، وقليلًا ما نتفقد أحوالنا، وننظر في مواطن الخلل فينا؛ بل كثيرًا ما نحسن الظنّ بأنفسنا؛ فنزكّيها بالأقوال لا بالأفعال، وندّعي لها الكمالات، و نبرئها من النقائص.
فإذا سمعنا بخلق حسن نسبناه إلى أنفسنا، وكأننا أحقّ الناس به وأهله.
وإذا سمعنا بخلق سيّئ عزوناه إلى غيرنا، وخيّل إلينا أننا بمنجىً منه ومنأى عنه.
فهذا المسلك لا يحسن بذوي المروءات، ومتطلِّبي الكمالات، فهذا مما يورث الإعجاب بالنفس، والرضا بما هي عليه من تقصير، وترك السعي في علاجها وإصلاحها. وهذا عين الخطأ، وعنوان الغفلة والجهل، فإصلاح النفس، والترقي بها قدما في درج المكارم لا يتأتى بتجاهل العيوب، ولا بالغفلة عن تفقّد النفس.
قال ابن المقفع: «من أشدّ عيوب الإنسان خفاء عيوبه عليه؛ فإن من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسن غيره، ومن خفي عليه عيب نفسه، ومحاسن غيره فلن يقلع عن عيبه الذي لا يعرف، ولن ينال محاسن غيره التي لا يبصر أبدًا»(19).
قال محمود الوراق:
أتمّ الناس أعرفهم بنقصــه
وأقمعهم لشهوته وحرصه(20).
وقال الماوردي: «هذّب -أيها الإنسان- نفسك فافتكار عيوبك؛ فإن من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ»(21).
17- اليأس من إصلاح النفس:
فهناك من يعرف من نفسه سوء الخلق، فيحاول إصلاح نفسه مرة إثر أخرى، فإذا ما رأى منها نفورًا أو جماحًا أيس من إصلاحها، وترك مجاهدتها، وظنّ أن سوء الخلق ضربة لازب لا تزول، ووصمة عار لا تنمحي.
18- دنوّ الهمة:
فمن دنت همته، وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل، فالنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع كما يقع الذباب على الأقذار(22).
قال الإمام الشوكاني – رحمه الله-:
قبـّح الله همّـــــــة تتسـامى
عن كبار الأقدار دون الصغار
هي أهل لما عراها من الـذلـ
لّ وما مسّها من الاحتقار(23)
19- التقصير في أداء الحقوق:
فهذا الأمر يشعر المرء بوخز الضمير، ويقوده إلى التماس المسوغات والمعاذير، تارةً بالكذب والتملّق، وتارةً بإلقاء اللائمة والتبِعة على الآخرين وهكذا … فإذا ألِف هذا الأمر واستساغه ساء خلقه، وقلّ حياؤه.
20- قلّة التناصح والتواصي بحسن الخلق:
فهذا مما يقود إلى التمادي بسوء الخلق وإلْفه، وترك المحاولة في اكتساب حسن الخلق والتحلي به.
21- التكبر عن قبول النصيحة الهادفة والنقد البنّاء:
فقد توجد النصيحة الهادفة والنقد البنّاء، وقد تصدر وتبذل من ناصح أمين وناقد بصير. ولكن قد لاتجد أفئدة مصغية، ولا آذانًا مصيخة، بل قد يتكبر المنصوح، ويتعاظم في نفسه، و يستنكف من قبول النصيحة، فيستمر على خطئه، ويعزّ علاجه واستصلاحه.
22- قلّة التفكير في أمر الآخرة:
وما أعدّه الله – جلّ وعلا- من عظيم الثواب لمن حسن خلقــه. ولهـذا كان مـن وصف الأنبيـاء – عليهم السلام- أنهم يكثرون من ذكر الآخرة. قال- تعالى- عنهم: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنٰهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ [ص:46]
23- مصاحبة الأشراء:
فللصحبة أبلغ الأثر في سلوك المرء، فالصاحب ساحب، والطبع استراق، فمن جالس الأشرار وعاشرهم فلا بد أن يتأثر بهم، ويقبس من أخلاقهم؛ فمجالستهم تنساق بصاحبها إلى الحضيض، فكلما همّ بالنهوض والتحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن مساوئها عوّقوه، وثنّوه، فعاد إلى غيّه، واستمر على جهله وسفهه.
24- قلّة الحياء:
فقلة الحياء مظهر من مظاهر سوء الخلق، وهي في الوقت نفسه سبب من أسباب سوء الخلق؛ ذلك أن الحياء خصلة حميدة، تبعث على فعل الجميل وترك القبيح، فإذا قلّ حياء المرء لم يعد يبالي بسفول قدره، وسوء خلقه، ولم يجد ما يبعثه للنهوض إلى اكتساب الفضائل، ولا ما يرفعه عما هو مستغرق فيه من الرذائل.
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاء
إذا لم تخش عاقبــــة الليالي
ولم تستحيِ فاصنع ما تشاء
25- الطمع والجشع:
فهما من موجبات الذلة والحقارة، ومن أسباب سقوط الجاه والمنزلة؛ فحبّ المال هو الذي ينزع من فؤاد الرجل الرأفة، ويجعل مكانها القسوة والفظاظة، وإذا غلب طمع أو جشع على قلب فإنه يستشعر ذلّة، ويتدثر صغارًا، وتعلوه مهانة، وتكسوه حقارة.
26- وجمّاع ذلك كله ضعف الإيمان:
ذلك أن الإيمان جمّاع كل خير، فإذا ما ضعف أو فقد، فإن صاحبه لن يبالي بالمكرمات، ولن يأنف من النزول في حضيض الدركات. فهذه بعض الأسباب الحاملة على سوء الخلق.
* * *
الهوامش:
(1 ) انظر التقصير في تربية الأولاد للكاتب.
(2 ) انظر: الأخلاق لأحمد أمين، ص 48-49.
(3 ) انظر: مدارج السالكين لابن القيم2/295.
(4 ) انظر: مدارج السالكين2/295.
(5 ) روضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن القيم، ص481.
(6 ) انظر: رسائل الإصلاح1/124.
(7 ) انظر: مدارج السالكين2/295.
(8 ) أدب الدنيا والدين، ص 244.
(9 ) بهجة المجالس، ص 2/447.
(10 ) ديوان الشافعي، ص 123، تحقيق خفاجي.
(11 ) العزلة للخطابي، ص 234.
(12 ) أدب الدنيا والدين، ص 244.
(13 ) أدب الدنيا والدين، ص 244.
(14 ) أقوال مأثورة، ص 159عن الأمالي 2/298.
(15 ) ديوان البارودي 4/53.
(16 ) انظر: أدب الدنيا والدين، 245.
(17 ) انظر: أدب الدنيا والدين، 245.
(18 ) ديوان المتنبي بشرح العكبري3/130.
(19 ) الأدب الصغير والأدب الكبير، ص 84.
(20 ) أقوال مأثورة، ص 514.
(21 ) أدب الدنيا والدين، ص 358.
(22 ) انظر: الفوائد، ص 211، 266.
(23 ) ديوان الشوكاني أسلاك الجوهر، ص 195.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1438 هـ = مارس 2017م ، العدد : 6 ، السنة : 41