الفكر الإسلامي

بقلم:  الدكتور رشيد كهوس (*)

          إن تاريخ الأمة المسلمة زاخر بالجواهر والنوادر والتحف التي تعد دررا غالية يرصع بها تاج هذه الأمة، وسجل حافل بالأحداث الكثيرة؛ فهو مخزون كبير من التجارب والخبرات الإيجابية والسلبية، ومع كل هذه المميزات فإننا لا ندعي الكمال لتاريخنا؛ لأنه لم يسلم من عبث العابثين وانتحال المبطلين، وكذب المفترين، لكن الله تبارك وتعالى يهيئ لتمحيص الأخبار وغربلتها جهابذة من علماء هذا الدين، ما عليهم إلا أن يبذلوا قصارى جهدهم لاقتحام هذه العقبة لغربلة التاريخ بكل مراحله وإعادة تقويمها وصياغتها من وجهة نظر إسلامية وبمنظار السنن الإلهية المتحررة من الفكر التقليدي ومن التدجين السياسي؛ لنقدم للأمة المسلمة الدواء الناجع لما حل بها من الأدواء والمعضلات التي فتكت بجسمها، وخربت كيانها.

اقــرأ التاريخ إذ فيــه العـبر

ضاع قوم ليس يدرون الخبر

       ولهذا فلكي لا نحشر مع هؤلاء الذين اتخذوا آيات الله هزؤا ولعبا، وصدوا عن سبيل الله، فإن نظرتنا للتاريخ نظرة إسلامية نقرأ التاريخ من أعاليه لا من أسافله؛ نظرة تنطلق من القرآن الكريم والسنة النبوية لفهم التاريخ، على أساسهما وفي ضوئهما وعلى نورهما نقتحم العقبة لنبني مستقبلنا الزاهر، حتى لا  نتدحرج على مهاوي التبعية الحضارية واتباع سبل الشيطان ونضيع الواجب الأقدس ومصدر العزة والكرامة، واجب بذل الجهد لنصرة الإسلام وحماية ثغوره.

       إن هذا الكون وما فيه يسير على سُنَنٍ ثابتة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وإن الأمة اليوم في أمس الحاجة لإدراك هذه السنن الإلهية والنواميس الكونية والقوانين الربانية؛ كي تتمكَّن أن تستنير بنورها وتسير على منهاجها، بل لكي تستطيع أن تحيا الحياة الصحيحة بالوقوف على سنن السابقين في الرقي والأفول والنصر والهزيمة، فتسير على سنن الرقي والنصر وتتجنب سنن الأفول والهزيمة، ذلك أن هذه السنن والقوانين لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل ولا تنخرم ولا تلين، قال الحق جل وعلا: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43].

       إنها قاعدة قرَّرها الله تبارك وتعالى في  محكم كتابه، وجعلها سنة ثابتة ومطردة، التي يمكن للأمة إدراكها واستعمالها.

       إن لله تعالى في هذا الكون والحياة سننًا ثابتة ونواميس مطردة في ازدهار الأمم وانهيارها، وتغيير مجتمعاتها وأحوالها؛ سواء كان هذا التغيير من الضعف إلى القوة، أم كان من القوة إلى الضعف، فبحسب الطريق الذي تسلكه كل أُمَّة تكون خاتمتها، أمة قائمة بالحجة، وأخرى حصيدا حصدته عجلة التاريخ ورمت به في سلة المهملات، ونحن حينما نقرأ في التاريخ ونُقَلِّب في صفحاته نُشاهد السنن الإلهية في التغيير والتبديل والازدهار والانهيار؛ فالتاريخ يُعيد نفسه بصورة عجيبة، حتى لَكَأَنَّك وأنت تقرأ أحداثًا حدثت منذ قرون خلت تشعر وكأنها الأحداث نفسها التي تتمُّ في هذا العصر، مع اختلاف في أسمائها وتفاصيلها…

       وهكذا أعاد التاريخ نفسه ويعيد، فأخذ الأعداء منا بعض ما في أيدينا، أخذوا منا الأندلس «الفردوس المفقود» كما تسمى (2/كانون الثاني-يناير- 1492م)، وضاعت سبتة (21/غشت -آب- 1415م) ومليلة (17/شتنبر – أيلول-1497م)، واغتصبت فلسطين (15/أيار – ماي- 1948م) أرض الإسراء والمعراج، وخربت دولة آل عثمان (في 27/رجب 1343هـ وفق 3/مارس 1924م)، واحتلت بلاد ما وراء النهر، ومُزِّق العراق، وسقطت دول… كل هذا نتيجة مخالفة سنة الله التي لا تحابي أحدا.

       أليس التاريخ يعيد نفسه، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: 77].

       إنه من لم يرفع الرأس عاليا ليقرأ سنن الله في الكون والحياة قراءته لها في المصحف ما كان ليتنسم نسمة عزة الإسلام ورفعته.

*  *  *


(*)  أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة  1437 هـ = أغسطس – سبتمبر 2016م ، العدد : 11 ، السنة : 40

Related Posts