الفكر الإسلامي

بقلم:  الدكتور رشيد كهوس (*)

نسب أم عيسى مريم البتول – عليها السلام-:

       يقول الله – عز اسمه-: ﴿اِنَّ اللهَ اصْطَفىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرٰهِيمَ وَآلَ عِمْرٰنَ عَلَى الْعٰلَمِينَ﴾ (آل عمران:33).

       هي مريم بنت عمران بن ماثان بن عازار بن أبي يوذ بن يوزن بن زربابل بن ساليان بن يوحنا بن أوشيا بن أمون بن منشكن بن حازقا بن أخاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن سافط بن ايشا بن راجعيم بن سليمان بن داود – عليهما السلام- بن ايشي بن عوبد بن سلمون بن ياعز بن نحشون بن عمياد بن رام بن حصروم بن فارص بن يهوذا بن يعقوب – عليه السلام – بن إسحاق بن إبراهيم الخليل – عليهما السلام-.

       وكان أبوها صاحب صلاة في بني إسرائيل، وأمها حَنَّة بنت فاقود من العابدات، وزوج خالتها زكريا – عليه السلام – نبي ذلك الزمان.

       عاش أبواها في بيئة ساد فيها الظلم والاضطراب، وكانت الحياة التي يعيشها بنو إسرائيل بائسة، فقد حرفوا دينهم وأفسدوا عقيدتهم، وعاثوا في الأرض فسادا، وأضحى الواحد منهم لا يأمن على نفسه غدر الآخر، وفي وسط هذه الحُلكة والدُلجة كان يعيش عمران وزوجه حَنّة، يعبدان الله وحده ولا يشركان به شيئًا، وكان الزمان يمر بهما دون ولد يؤنسهما. وفى يوم من الأيام جلست حنة بين ظلال الأشجار، فرأت عصفورة تطعم صغيرها، فتحركت بداخلها غريزة الأمومة، فدعت الله أن يرزقها ولدًا حتى تنذره لخدمة بيت المقدس. فاستجاب الله دعاءها وابتهالها إليه فحملت بمريم ومات عمران وهي حامل.

حنَّة تنذر مولودها لخدمة بيت الرب:

       يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿اِذْ قَالَتِ امْرَاَتُ عِمْرٰنَ رَبِّ اِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي اِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (آل عمران:35).

       إن أول امتحان لأم عيسى مريم البتول – عليهما السلام- أن أمها التي كانت ترجو أن ترزق بولد ذكر لتهبه لخدمة بيت المقدس- جزاء على هذه النعمة بعدما أصبحت عاقرًا- رزقت ببنت، وليست الأنثى في القوة والجلد والتحمل وخدمة الأقصى كالذكر، وأسفت أم مريم زوج عمران، واعتذرت لله -جل وعلا- فقالت: ﴿رَبِّ اِنِّي وَضَعْتُهَا اُنْثٰى وَاللهُ اَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثٰى وَاِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَاِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطٰنِ الرَّجِيمِ﴾ (آل عمران:36). لكنها لم ترجع عن نذرها وإن رزقت بأنثى، بل أوفت به كما اشترطته على ربها… وسمتها «مريم»؛ ومعنى مريم بالعبرية «الخادم» أو «خادمة الله».

       وقبِل الله -سبحانه وتعالى- هذا النذر وجعله نذرًا مباركًا ميمونًا.. بل لا يُعرف نذر أعظم بركة منه، فقد أعقب خير نساء العالمين رسولًا من أولي العزم يجعل الله ولادته وحياته، ورفعه إلى السماء، ونزوله في آخر الزمان، وما أجرى على يديه من المعجزات، آية كبرى من آيات الله – سبحانه وتعالى-… فأي نذر أعظم بركة من هذا؟

       يقول الحق -جل وعلا-: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَاَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَّكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ اَنّٰى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله اِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَّشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران:37). ولدت أم عيسى مريم العذراء – عليها السلام- يتيمة، فآواها الله عند زوج خالتها نبي زمانها سيدنا زكريا (..وكان هذا من رحمة الله بأم عيسى مريم الصِّدِّيقة، ورعايته لها) ﴿ذَلِكَ مِنْ اَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ اِذْ يُلْقُونَ اَقْلَامَهُمْ اَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ اِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ (آل عمران:44).

       وكبرت أم عيسى مريم – عليهما السلام- وبيتها في بيت المقدس، وخلوتها فيه، ويلطف الله بها فيأتيها برزقها من الطعام من الغيب وكلما زارها نبي الله زكرياء – عليه السلام –، وجد عندها رزقًا، كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وهو الذي يقوم بكفالتها فمن أين يأتيها هذا وهو لم يأت به؟! ﴿قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ استعظم – عليه السلام- ذلك المقام في حقها لضعفها وغرارتها، فتجيبه: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ الله اِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَّشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ فأنا ضئيلة وضعيفة ولا علم لي بمقامات الرجال العظماء وأحوالهم، ولم أبلغ ذلك المقام بكبير عمل عملته… فلا أملك إلا حبي له، فتفضل علي ربي وحبيبي بذلك ورزقني من حيث لم أحتسب…

       هكذا بلغت ذلك المقام العالي جزاءً وفاقًا على حبها لربها، وعكوفها ببابه -جل وعلا-… وتوسدها عتبته…بدأت -عليها السلام- بحظها من الحب فمر على حظوظها الدنيوية والأخروية فنظمها لها انتظامًا.

       وهكذا نشأت أم عيسى مريم العفيفة – عليها السلام- فتاة عابدة في خلوة بيت المقدس، تحيي ليلها بالذكر والعبادة والصلاة وتصوم نهارها، وتعين الفقراء والمحتاجين، وتعيش لآخرتها، وتقضي أيامها حبًا لربها وشوقًا إلى لقائه -جل في علاه-.

الله يصطفي مريم مرتين ويبشرها بغلام زكي:

       يقول الله -تعالى وتقدس-: ﴿وَاِذْ قَالَتِ الْـمَلٰئِكَةُ يٰمَرْيَمُ اِنَّ اللهَ اصْطَفٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفٰكِ عَلَى نِسَاءِ الْعٰلَمِينَ * يٰمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّٰكِعِينَ﴾ (سورة آل عمران: 42-43).

       عَنْ أَبِي مُوسى – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله –صلى الله عليه وسلم-: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ». (رواه الشيخان في صحيحيهما).

       عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ الله –صلى الله عليه وسلم- خَطَّ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ لِمَ خَطَطْتُ هَذِهِ الْخُطُوطَ؟». قَالُوا: لاَ. قَالَ: «أَفْضَلُ نِسَاءِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ ابْنَةُ مُزَاحِمٍ».(رواه الإمام أحمد في مسنده).

       العفيفة الطاهرة أم عيسى مريم البتول يصطفيها الله تعالى مرتين في رياض الحب والزهد والعبادة بين أزهار التقى والنقاء والحب والطهر والعفاف والصلاح، ويجعلها من خير نساء العالمين، وذلك أنها صبرت على أذى قومها، وكانت عابدة وناسكة ومحبة وتقية وعارفة بالله تعالى، فقد أكرمها الله -عز وجل- بكرامات ظاهرة وباطنة، واصطفاها من بين جميع النساء لتكون أمًّا لنبيه عيسى المسيح -عليه الصلاة والسلام- دون أن يكون لها بعل أو يمسها بشر.

       إنها مريم البتول.. لم يكن لأم عيسى المنذورة لخدمة بيت الله من أحلام الأنثى في الزوج المنشود، ولم يكن لها صندوق أدوات التجميل!! لم يكن لها إلا حبها لله رب العالمين…

       وقضت حياتها كلها حبًا وطاعةً وعبادةً وركوعًا وسجودًا وورعًا وتكليفًا ودموعًا وتعاليًا عن الدنيا، وإقبالًا على الله تعالى والدار الآخرة.

البشارة بالولد والمحنة الكبرى:

       إنه ابتلاء عظيم للطاهرة العابدة البتول أن يبشرها الله -سبحانه وتعالى- بولد منها وهي غير ذات بعل. يقول الله -جلت حكمته-: ﴿اِذْ قَالَتِ الْـمَلٰئِكَةُ يٰمَرْيَمُ اِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْـمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْـمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصّٰلِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ اَنّٰى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذٰلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ اِذَا قَضَى اَمْرًا فَاِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (سورة آل عمران:45-47).

       جاءتها بشارة الملائكة وهي في المحراب؛ (والمحراب غرفة في المسجد يعتزل فيه المقيم بها عن الناس)، وكان بنو إسرائيل يتخذون المحاريب في المساجد للخلوة والعبادة، (وسمي هذا المكان في المسجد بالمحراب؛ لأن المقيم فيه كأنه محارب للناس مبتعد عنهم أو كأنه بيت الأسد).

       يقول الله -تقدست أسماؤه-: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتٰبِ مَرْيَمَ اِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ اَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَاَرْسَلْنَآ اِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ اِنِّي اَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ اِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ اِنَّمَا اَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِاَهَبَ لَكِ غُلٰمـًا زَكِيًّا * قَالَتْ اَنّٰى يَكُونُ لِي غُلٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ اَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَه آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ (سورة مريم:16-21).

       وفي يوم من الأيام تخلو مريم العفيفة الزاهدة البتول – عليها السلام- بنفسها لقضاء شأن من شؤون العذراء الخاصة.. فيفجؤها رجل مكتمل سوي متهلل وجهه كأنه البدر ليلة التمام في محرابها، فتنتفض انتفاضة العذراء المذعورة فتلجأ إلى الله -جل وعلا- وتستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي: ﴿قَالَتْ اِنِّي اَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ اِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ فالتقيّ تتحرك مشاعره الإيمانية، وينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويستحضر مراقبته له، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان.. فلا يجعل الله تعالى أهون الناظرين إليه.. فيجيبها قائلًا: ﴿اِنَّمَا اَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِاَهَبَ لَكِ غُلٰمـًا زَكِيًّا﴾.

       وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطاهرة البريئة القديسة، التي تربت على التقوى والصلاح ونشأت في بيت يسوده الإيمان والحب والمثل العليا، وكفلها نبي زمانها سيدنا زكرياء – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، ونُذرت قبل ذلك لله جنينًا… إنها هزة عنيفة.. وامتحان قوي..

       لكن النقية العفيفة لم تثق بعد بأنه رسول السماء فتدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها! فتسأل في صراحة: ﴿اَنَّى يَكُونُ لِي غُلٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ اَكُ بَغِيًّا﴾.. كيف بعذراء لم يمسسها بشر، وما هي من البغايا فتقبل الفعلة التي تجيء منها بولد! ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة خارقة لوقوع ذلك الحدث إلا الوسيلة المعهودة في التناسل بين الذكر والأنثى، فقد جرت سنة الله المعهودة في استمرار الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء. لكن الروح يجيبها: ﴿قَالَ كَذٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَه آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾: إن ذلك هين على الله -جل وعلا- الذي يقول للشيء كن فيكون، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماوات، فأمره بين الكاف والنون، سواء جرت بذلك سنته المعهودة أم جرت بغيره؛ فإن الذي أوجد الإنسان من العدم قادر على أن يخلق إنسانًا من غير أب. فالله – سبحانه وتعالى- أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب الضخم، وهذه المعجزة الربانية، على غير سنته التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته ووحدانيته… ورحمة لبني إسرائيل لعلهم يؤوبون إلى رشدهم ويرجعون إلى ربهم، ويكفون عن شركهم وفسادهم في الأرض، ورحمة كذلك للناس جميعًا فيما بعدهم، بإبراز هذه المعجزة التي تقودهم إلى معرفة الله تعالى وتوحيده وعبادته والسعي إلى مرضاته.. هكذا لتظل آثار القدرة الإلهية ماثلةً أمام العيان، بعظمة الله الواحد الأحد. 

       وحاولت دفع هذا عن نفسها، لكن جاءها الأمر الإلهي الذي لا راد له: ﴿قَالَ كَذٰلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ اِذَا قَضٰى أَمْرًا فَاِنَّمَا يَقُولُ لَه كُنْ فَيَكُونُ﴾.

       فهذا أمر الله وعليك قبوله، فلا راد لكلمته، وكان أمرًا مقضيًا ومحققًا؟! ولله – سبحانه وتعالى- شأن في إخراج هذه الآية للناس: امرأة زاهدة في الدنيا، عاكفة في بيت ربها، عابدة وناسكة، صالحة تبتلى بحمل من غير بعل يُصدقها الصادقون من المؤمنين، ويكذبها المنكرون من الكافرين الحاقدين عليها ومن في قلوبهم مرض، ويكون وليدها الذي قضاه الله تعالى وقدره على هذه الصورة المعجزة آية من آيات الله في خَلْقِه، وآية في خُلُقِه، وآية في معجزاته، ورحمة للمستضعفين في زمانه، وبعد زمانه، وفتنة لقساة القلوب وعميان البصائر الذين يغالون فيه فيعبدونه ويجعلونه إلهًا أو ابن إله!! تعالى الله عما يقول المفترون علوًا كبيرًا… وهكذا يهلك فيه من يتهم أمه في عرضها، ومن يعتقد فيه أنه إله وخالق أو ابن إله. وينجو به أهل الصدق والتصديق، الذين يعتقدون فيه أنه عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء.

       يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿يٰاَهْلَ الْكِتٰبِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى الله اِلَّا الْحَقَّ اِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُه أَلْقَاهَآ اِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ اِنَّمَا اللهُ اِلٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحٰنَه اَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمٰوٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفٰى بِالله وَكِيلًا﴾ (سورة النساء:171)؛ أي أن الله -جل وعلا- خلق المسيح عيسى بن مريم بالأمر الكوني المباشر: «كن . . فيكون».. فلقد ألقى هذه الكلمة إلى مريم فخلق المسيح عيسى في بطنها من غير نطفة أب، فإذا كانت هذه الكلمة تخلق كل شيء من العدم، فلا عجب في أن تخلق عيسى في بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله -جل في علاه- في سورة الأنبياء: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنٰهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِلْعٰلَمِينَ﴾(91)، وفي سورة التحريم: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرٰنَ الَّتِي اَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقٰنِتِيْنَ﴾(12).

       هكذا أمر الله -جل وعلا- جبريل – عليه السلام- أن ينفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى رحمها، فحملت بالمسيح عيسى -عليه السلام- وصدَّقت بكلمات ربها، وعملت بشرائعه التي شرعها لعباده، وكتبه المنزلة على رسله – عليهم السلام-، وكانت من المحبين المواظبين على طاعته وعبادته.

مريم – عليها السلام- تتوارى عن أعين الناس خوفًا من الاتهام والإيذاء:

       يقول الحق -تقدست كلماته-: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ (سورة مريم:22): لما رأت مريم – عليها السلام- حملها قد كبُر في بطنها خرجت من محرابها في بيت المقدس، وانفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى، خوفًا من أن تُتهم بالريبة، أو تتعرض للأذى من قومها، وقد علمت أن كثيرًا من أعدائها وحاسديها سيجدون الفرصة المناسبة لإيذائها والتطاول عليها والكلام في حقها، أو يقوم سدنة المعبد – وهم أكبر أعدائها- بطردها من محرابها. فقد ذكر الكثير من علمائنا الجِلَّة؛ أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل، كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له: يوسف بن يعقوب النجار، وكان من أقاربها فجعل يتعجب من ذلك عجبًا شديدًا، وذلك لما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها، وهو مع ذلك يراها حُبْلى وهي ليست ذات زوج، فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم.

       قال: وكيف ذلك؟! قالت: إن الله خلق البذر الأول من غير نبات، وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لولا أنه استعان عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا يُنبته.

       قال يوسف: أعوذ بالله أن أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكمة، وكما قَدَر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر على أن يجعل زرعًا من غير بذر، فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر ؟ قالت: ألم تعلم أن للبذور والزرع والماء والمطر والشجر خالقًا واحدًا! فلعلك تقول: لولا الماء والمطر لم يقدر على أن يَنبُت الشجر.

       قال: أعوذ بالله أن أقول ذلك! قد صدقت.

       فأخبريني هل يكون ولد أو رجل من غير ذكر؟ قالت: نعم.

       قال: وكيف ذلك؟ قالت: ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء امرأته من غير حَبَل ولا أنثى ولا ذكر. قال: بلى. فأخبريني خبرك؟

       فقالت: إن الله بشرني ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْـمُقَرَّبِينَ) (سورة آل عمران:45). (رواه الإمام السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2/197).

       وروي عن مجاهد قال: قالت مريم – عليها السلام-: «كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع» (أورده ابن شيبة في الجزء الثامن من «مصنفه»، وأبو نعيم في الجزء الثالث من «حلية الأولياء»).

       يقول الله -جل ثناؤه-: ﴿فَأَجَاءَهَا الْـمَخَاضُ اِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِيْ مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ (سورة مريم:23). وفي «بيت لحم» من «فلسطين» يُلْجِئُها المخاض إلى ساق نخلة وهي وحيدة غريبة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض لها، ولا علم لها بشيء مما تفعله النساء في مخاضهن وهي ابنة 13 سنة، ولا معين لها من أهلها في شيء.. فتضع حملها ولا أقارب هناك ولا أحباب، ولا أمًّا ولا خالة ولا قابلة!! ولا بيتًا دافئًا، ولا فراشًا وثيرًا، ولا سترًا تتوارى فيه عن الأنظار… بل وحيدة غريبة!! تضع حملَها ودموعُها تملأ مآقيها، والآلام والهموم تحيط بها من كل حدب وصوب: هم الوحدة والوحشة، وهم فقد الأقارب والأهل والناصر، وهم فقد الستر والحنان عليها، وما أحوج كل والد وهي في هذه الحالة إلى الإرفاق بها ومواساتها، وما أمس حاجتها إلى الدفء، وحنان الزوج، وشفقة الأهل، وما أحوجها إلى طعام مخصوص، وفراش مناسب، وتهنئة بالسلامة والعافية بالموهوب الجديد… وأما مريم -عليها السلام- فلا شيء من هذا وذاك…وهي تنتظر الفضيحة والعار بوليدها الجديد.. لا شيء يواسيها إلا رعاية الحب لها… لكنها في الحقيقة ملكت كل شيء؛ لأن من حصل له الحب حصل له كل شيء، ومن أوتيه فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وأما من فقد الحب فقد فقَدَ كل شيء، فقد خير الدنيا والآخرة، وإن ملك خزائن الأرض كلها، فسعادة الحب لا تعادلها سعادة، ودفؤه لا يعادله دفء، وحنانه خير من الدنيا وما فيها…

       وعندما تجتمع كل هذه الهموم والمصاعب تتمنى أن تكون قد ماتت قبل هذا الامتحان!! ولم تعش إلى هذه المحنة الشديدة قالت: ﴿يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾. (أي شيئًا حقِيرًا مُطَّرَحًا. والنِّسْيُ في كلام العرب: خِرَقُ الحَيْضَ التي يُرمَى بها فتُنْسَى، ومن قَرأَ نَسْيًا فمعناه شيئًا مَنسِيًّا لا أُعْرَفُ).

الفرج بعد الشدة:

       وفي ذلك الوقت العصيب الذي تواجه فيه العذراء البتول الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية، وفي تلك اللحظة الحرجة التي بلغ فيها الحزن والهم والأسى أوجه، وهي وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة والعار.. يأتيها الأمن من الله والأمان، وبشرى وإرفاق وحنان.. فيناديها مولودها في اللحظة التي ولد فيها من تحتها يُطَمْئِن قلبها ويربطها بـربها: ﴿اَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ (سورة مريم:24): إنه جدول ماء رقراق يفجره الله لك فهو معك لا ينساك، ثم تأتيها معجزات أخرى بالجملة وعلى قدر الشدائد يأتي الفرج، ويرشدها وليدها إلى طعامها وشرابها، ويدلها على حجتها وبرهانها: ﴿وَهُزِّي اِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَاِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي اِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْمًا فَلَنْ اُكَلِّمَ الْيَوْمَ اِنْسِيًّا﴾ (سورة مريم:25-26).

       إن الله -تبارك وتعالى- آنس أم عيسى مريم – عليهما السلام- بما حف ولادته الكريمة من آيات عجيبة؛ فأراها مثلًا بالجذع اليابس حين اخضر من غير سقي، وبعد يبسه اخضر وأثمر في الحين، كما ولد ابنها عيسى -عليه السلام- دون أن يمسها بشر، وتكلم في الحين.

       والجذع هو ساق النخلة إذا جز رأسه، وإذا جز رأس النخلة يَبِست فلا تلقح ولا تورِق بعد، ولا تخلَف رؤوسها، فلما لمسته اخضر في الحين، ونبتت فيها شَمَارِيخ وعَثَاكِل ورُطَب، والرُّطَبُ نَضِيجُ البُسْرِ قبلَ أَنْ يُتْمِر، وتسمى رطبًا في أول نضجها.

       وهنا بشرى خلاص من الله لها؛ وإليكم البيان:

       مباشرة بعد هزها لجذع النخلة تساقطت عليها الرطب؛ ومعلوم أن هز مثلها على ما هي عليه من ضعف ونفاس بعد مخاض لجذع النخلة لا يسقط الرطب، إلا إن أعطيت في الحين قوة تهز بها ساق النخلة فتسقط رطبها، فهذه كرامة كبيرة، وإرفاق لها واطمئنان.. كذلك تساقط الرطب عليها بعد مسها وهزها للجذع كرامة أخرى، دليل على أنها مباركة ومحبوبة عند ربها -عز وجل- فالحبيب لا ينسى أحبابه ومحبيه.

       أما قوله لها: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي﴾ ففيه أمان لها بسرعة الخلاص من ألمها؛ فإن النفساء لا تأكل ولا تشرب إلا بعد مدة زمنية لما تتعرض لها من ألم النفاس والولادة… أضف إلى هذا أنها كانت بأرض قفر وفي فلاة لا أكل هناك ولا طعام ولا شراب، فحصول الطعام والشراب عندها بشرى خلاص لها بأن لا تهلك في تلك الفلاة ولا يهلك وليدها لترضعه..لتطمئن وتقر عينها.. هذا فضلًا على أن الرطب والتمر من أجود طعام النفساء وأفيده..

       ولتزيد اطمئنانًا واستقرارًا علمها كيف تجيب إذا سألها قومها: ﴿فَاِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي اِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْمًا فَلَنْ اُكَلِّمَ الْيَوْمَ اِنْسِيًّا﴾.

       فلا داعي للقلق، ولا تخافي من العار والفضيحة، بل اتركي ذلك لنا!! وعليك أنت بالصوم عن الكلام، ودعي هذا الغلام الزكي والسيد العظيم الذي تحملينه يتولى الدفاع عنك، ويبين المهمة التي أرسل بها.

الأمر الإلهي لها بالرجوع إلى قومها:

       يقول -عز من قائل-: ﴿فَاَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ (سورة مريم:27). أتت به قومها تحمله ظاهرًا لهم، وقد كادت تفر به إلى بلد آخر، أو تخفيه عن أنظار الناس ما استطاعت فلا يشعر به قومها، فلما اطمأن قلبها وطابت نفسها به في إقامة حجتها عند قومها أتتهم به تحمله ظاهرًا لهم دون خوف.

       تصوروا معي الدهشة التي تعلو وجوه القوم، وحالة سدنة المعبد، وهم يرون العفيفة الطاهرة العذراء العابدة الموهوبة لخدمة بيت الله.. يرونها تحمل طفلًا! إنها الفرصة الثمينة لهم ليظهروا ما خفي في نفوسهم المريضة من حَنَق وحقد عليها وعلى أهلها وكافلها نبي ذلك الزمان سيدنا زكرياء – عليه السلام-.

       ماذا فعلوا؟ انطلقت ألسنتهم بالتأنيب والتقريع والإيذاء، وبهتوا العفيفة الطاهرة ورموها بما هي منه براء، وتهكموا منها وسخروا بها: ﴿قَالُوا يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يٰاُخْتَ هٰرُونَ مَا كَانَ اَبُوكِ امْرَاَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ اُمُّكِ بَغِيًّا﴾ (سورة مريم:27-28). هكذا خاطبوها. والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة.. أي يا شبيهة هارون في الصلاح والزهد والعبادة وليس بهارون أخي موسى، وكان هذا من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة، لأن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون. فعَنِ الْـمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «لَـمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا: اِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هَارُونَ)، وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿اِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ﴾» (رواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الآداب).

       وبعدما طلب منها قومها حجة على وليدها تجيبهم بوصية وليدها لها: ﴿فَاَشَارَتْ اِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْـمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (سورة مريم:29). وهذه صفعة أشد من الأولى لأولئك القساة والمنكرين، ظنوها تستهزئ بهم. 

       وهنا أنطقه الله الذي أنطق كل شيء ليبين لهم الآية الإلهية في خلقه على النحو الذي لم يعهده البشر: ﴿قَالَ اِنِّي عَبْدُ الله آتٰنِيَ الْكِتٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا اَيْنَ مَا كُنْتُ وَاَوْصٰنِي بِالصَّلوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلٰمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ اَمُوتُ وَيَوْمَ اُبْعَثُ حَيًّا﴾ (سورة مريم:30-33).

       وبدلًا من أن يقابل اليهود هذه الآية الربانية العظيمة وتلك المعجزة الإلهية العجيبة بالإيمان والتصديق قابلوها بالجحود والنكران، وتوجسوا شرًا من هذا المولود الذي تكلم في المهد صبيًا، والذي ينشأ لا كما ينشأ الصبيان، فالأولاد يلعبون بالطين فيجعلون منه  تمثالًا لطائر، ولكن هذا المولود يصنع لهم عصفورًا من الطين ثم ينفخ فيه أمامهم فإذا بالعصفور حيًا يطير فيكون ردهم أن هذا ساحر كبير!!

من دروس القصة وعبرها:

       -الثبات: رُغْم كل الابتلاءات والمحن وما لاقته الطاهرة العذراء – عليها السلام- من صنوف الأذى والشتم من قومها ومن كهنة المعبد.. لم يثنها ذلك عن غايتها، ولم يبعدها عن باب ربها، ولم يضعف من قوتها، ولم يصدها عن بغيتها… بل زادها كل ذلك ثباتًا على حبها، وطاعةً لربها، وقربًا منه -سبحانه وتعالى- ورغبةً في لقائه.

       -الصبر وتحمل الأذى: كانت حياة أم عيسى مريم البتول – عليهما السلام- سلسلة طويلة من الابتلاءات والاختبارات والمحن… لكنها قابلت كل ذلك بالصبر والتحمل… وهكذا أهل الله الذين هم أهله وخاصته يبتلون ثم تكون العاقبة لهم.

       ولذلك لما صبرت وتحملت الآلام والمتاعب أكرمها الله تعالى بكرامات ومعجزات، وجعلها مباركةً، وبين لها مقامها عنده، وتجلت هذه البركة وتلك الكرامة في هزها -عليها وعلى ابنها السلام- لساق النخلة وتساقط الرُّطَب عليها، مما يدل على رفعة شأنها وعزة مكانها وعلو مقامها عند ربها، والدليل على أن ما وقع لها كرامة إلهية لبيان مقامها العظيم عنده -سبحانه وتعالى-، وقربها منه؛ صحة الشبه في هزها لجذع النخلة وقوله -عز اسمه- لنبيه أيوب – عليه السلام- لـمَّا أراد كَشْفَ البلاءِ عنه: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ (سورة ص:42). فأراه الله -جل وعلا- عاقبة صبره وبركة حركته وتصرفه وفائدة ركضه وثمرة لمسه الأرض باخْمُصَيْه، ومعلوم أن المياه لا تنبع بسبب الركض على مجرى العادة.

       وكذلك قوله -تجلت عظمته وتقدست كلماته- لكليمه موسى -عليه السلام-: ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾(سورة البقرة:60).  فأراد الله -سبحانه وتعالى- أن يفجر له الماء بواسطة الضرب حتى تظهر كرامته عند بني إسرائيل، وكذلك في البحر حين ضربه فانفلق.

       وكذلك المسيح عيسى بن مريم – عليهما السلام- كان يركض القبور فيحيي الله به الموتى ويلمس الطين فيصير طائرًا بإذن الله تعالى.

       وكذلك نبينا وحبيبنا ومولانا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لمس الماء فنبع من بين أصابعه، ولمس الطعام فنما وزيد فيه، وتفل في بئر فكثر ماؤها وصار عذبًا فراتًا، وتفل على رجل خليفته من بعده أبي بكر الصِّدِّيق – رضي الله عنه- حين لسعته العقرب في الغار فبرئ في الحين، وتفل في عين علي – كرم الله وجهه- فبرأت من داء الرمد، وشربت أم أيمن بوله فبرأت من داء البطن…

       هكذا جعل الله تعالى البركة فيما لمسته أيديهم…

       -اتخاذ الأسباب لا الاعتقاد فيها: أمرها الله تعالى باتخاذ الأسباب وذلك بهز جذع النخلة، لتساقط عليه الرطب، وهو قادر أن  يقول للشيء كن فيكون.

       ولله درُّ القائل:

ألـم تـر أن الله أوحى لـمــريـم

وهزي إليك الجذع تساقط الرطـب

ولو شاء الله أحنى الجذع من غير

هزها إليها ولكن كل شيء له سبب

       فلو ترك الناس الأسباب بالجملة لهلكت الأرض ومن عليها…ولذلك قال سيد الوجود –صلى الله عليه وسلم- لذلك الصحابي الذي سأله أيرسل ناقته ويتوكل؟ قال له: «اعقلها وتوكل» (رواه الإمام الترمذي في سننه)…

       فلا يكفي القول بأني محب لله فقط، لكن لابد من بذل المساعي والجهود في سبيل هذا الحب، لابد من بذل الغالي والنفيس في سبيل المحبوب… الإيمان ما وقر في القلب وصدقه عمل الجوارح والأركان…

       -محبتها: إن مولاتنا أم عيسى مريم الطاهرة – عليها السلام- نموذج شامخ يطل بأنواره على التاريخ، نموذج الحب الذي ملأ الكيان والوجدان واختلط بالدم واللحم وملأ شغاف القلب…

       ولذلك؛ فإن الذي يزيغ عن طريق الحب ويسلك مسلكًا غيره كان حاله كحال الذي يجري وراء ظله ليمسكه؛ فلا يحصل في النهاية إلا على عمل باطل وسعي ضائع…فلا خير في الدنيا بغير محبة، ولا خير في نعيم ليس فيه حب… ولا خير فيمن لا يسلك إلا الحب طريقا…

       فالقوة قوة الحب والغنى غنى القلب، والإنسان لا يكون سعيدًا مسرورًا فرحًا إلا إذا عاش في ظلال الحب…

       فالحب قرة العيون، وسرور القلوب، وغذاء الأرواح، ونعيم النفوس المطمئنة…!!

       فالقلوب عليها أقفالها،لا تفتح هذه الأقفال إلا بهذا الحب العارج بهم إلى المراتب العلى، فمن تحقق له انحلت عقد قلبه؛ لأنه ظفر بالكنز الذي لا ينفد…

       فبه نرى فضل الله علينا، وبه نصل إلى ربنا، وبه ترفع درجاتنا، به كل شيء وبدونه لا شيء…

       – مقياس النصر: كان ذلك المولود الجديد لمريم الطاهرة – عليها السلام- الذي خافت به من الريبة والفضيحة نصرًا مؤزرًا لها، رفع الله به مقامها وأعلى شأنها، وأصبحت من خير نساء العالمين، وأنزل الله سورة قرآنية باسمها – «سورة مريم»- تتلى إلى يوم القيامة… ولهذا فإن مقياس النصر لا يكون دائمًا من خلال الظواهر، ولا بالنتائج، وإنما قد يكون النصر من خلال ظواهر أحداث قد لا تسرّ عامة المسلمين، وإن كانت هذه الأحداث في لبها هي عين النصر، وإن كان في الآجل وليس في العاجل. وخير دليل على هذا ما وقع في صلح الحديبية، فقد كره المسلمون الصلح؛ ولكنه كان عين النصر والتمكين في الآجل وعلى غير النمط والأسلوب والكيفية التي رغب فيها المسلمون، ولذلك سمى الله تعالى ذلك الصلح مع قبائل قريش «بالفتح» كما جاء في سورة الفتح.

       فليس النصر بما تشتهيه الأنفس؛ فإن الغيث  النازل من السماء رحمة للناس، ولكن لا يشترط أن يبقى على سطح الأرض حتى يروه، فهو رحمة وإن اختفى في باطن الأرض، وإن نصرهم وظهورهم  بقدر حبهم وبذل جهودهم ومساعيهم وطاقتهم وإخلاصهم في كل ذلك.. ورب تأخير الوصول إلى تحقيق المقصود خير من التعجل في الوصول إليه يتبعه انكسار ونكسة وتراجع.

       وهكذا نفذت الصديقة الطاهرة العفيفة النقية أمر ربها وإن بدا في ظاهره بابًا لتتعرض للأذى من قومها، ويحاولوا التخلص منها… لكن الله تعالى كفاها شر الأعداء وجعل كيدهم في نحرهم وأفسد عليهم رأيهم.. فكان ذلك الأمر الباب الكبير لرفع مقامها في عليين وتخليد اسمها إلى يوم الدين، ورفع مقام وليدها وجعله من أولي العزم من الرسل ومن أمة سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم-، فرفعه الله إلى السماء الثانية ثم ينزله في آخر الزمان ليحكم بشريعة سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- من بعده.

*  *  *


(*)  أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40

Related Posts